نكبة 1948 بنسخة جديدة
التاريخ: 
06/02/2024

إن قصص النازحين الجدد في غزة جديرة بأن تُروى، كونها فصول جاءت على حين غرّة، في زمن فلسطيني يتكرر مرة أُخرى بعد أكثر من 75 عاماً من نكبة سنة 1948.

التغريبة الفلسطينية

قال صلاح عثمان (45 عاماً)، من قطاع غزة: "إن اللجوء تجربة مريرة وقاسية، حدّثني عنها جدي حين كان يتكلم عن النكبة، وكم تكلم وتكلم عن الذي حل بهم في سنة الشؤم. كنتُ كلما تكلم جدي، أشعر بمبالغة ما في كلامه، فأنا أعرف أن مأساة حلت بهم، ونحن وَرَثَتُها، لكن لم أكن أتصور أن كل ما قاله دقيق، ففيه مبالغات المصيبة والذاكرة، إلاّ إن ما يحدث اليوم فينا في قطاع غزة يرجعني إلى كلام جدي. كم كان صادقاً! وكم كان وصفه أقل من الحقيقة!" وقد استرجع بشهادته هذه أحداث مسلسل "التغريبة" (تأليف وليد سيف وإخراج حاتم علي) المستوحى من النكبة الفلسطينية، والذي اعتُبر أيضاً أنه لم يوصّف واقعاً حقيقياً مئة في المئة. وقد جاء في وصف عثمان للوضع أنه "رحلة لجوء شاقة ومرعبة"، وكان قد خرج مع عائلته من مخيم البريج وسط قطاع غزة عقب قيام آلة الحرب الإسرائيلية بتوسيع قصفها واستهدافها للمنازل والمواطنين، وتضاعُف الهجوم على المخيم. كما يصف وضعه الحالي قائلاً: "يشتعل قلبي حسرة على ما حل بأسرتي من أوضاع إنسانية ومعيشية قاهرة لم أكن أحسب لها أي حساب حتى في الكوابيس. نحن في نكبة جديدة وتطهير عرقي، وحالي كآلاف الغزّيين الذين نزحوا من منازلهم نحو المخيمات الجديدة التي أُقيمت جنوب قطاع غزة، والتي تحولت إلى مجتمع بدائي يفتقد إلى كل أدوات الحياة. وكأننا نعيش في زمن النكبة، وعادت مشاهد الخيام، وأفران الطين، وإيقاد النار بالأخشاب، فضلاً عن طوابير يقف فيها الصغار وهم يحملون الأواني المتهالكة، في انتظار وجبة الطعام، وطرود الأغذية."

على الرغم مما ادعته إسرائيل - أن الجنوب آمن، ومناطق النزوح فيه آمنة - فإن النازحين يتعرضون للقصف بصورة شبه يومية، كما حدث في خيام مواصي خان يونس قبل أيام. ويذكر عثمان، الذي حصلتُ على شهادته مكتوبة، قائلاً: "لا نزال عرضة للاستهداف، فخطر الموت يحوم حولنا. يعيش أولادي وزوجتي وأمي في خيمة متكدسين، وبلا أغطية كافية أو تدفئة، وبالكاد يغمض الناس أعينهم للنوم في الليل من شدة البرد، وأصوات الانفجارات، والقصف المتواصل"، ويلفت عثمان النظر إلى أن ما يظهر في شاشات التلفزيون لا يعكس الواقع الحقيقي كاملاً، ولا ينقل تماماً ما نعيشه من حرب إبادة وتشريد وتدمير. ويضيف: "ما يكتسب أهمية وأولوية لدينا هو كيفية إيجاد لقمة العيش لأبنائي، فبالكاد نتمكن من توفير اللقمة، إذ بات البحث عنها مشقة لا نقدر عليها دائماً، فضلاً عن شح المياه الصالحة للشرب، أو تلك التي من المفترض أن نستخدمها للاستحمام أو لغسل الملابس، وهذا عدا انعدام الأدوية والطبابة. وإذا ما عثرنا على ما ذكرتُ من مستلزمات، فإن أسعارها باهظة جداً، تفوق قدرتنا وإمكاناتنا."

كما يردف قائلاً: "لكل شيء في مخيمات النزوح حكاية"، ويوضح: "مع شروق كل يوم جديد، أبدأ البحث مع أبنائي عن الأخشاب، وعيدان الأشجار، والأوراق لإشعال النار وطهي ما توفر من طعام، وهذه الحالة أشبه برحلة عذاب يومية. أشعر بأنني أصبحتُ بطل مسلسل التغريبة الفلسطينية الحقيقي، فقد أُسقطت كل فصولها علينا، لكن في زمن جديد ليس أقل قسوة من الزمن الماضي."

لسنا بخير

ليس حال شادي جبر (38 عاماً) أفضل؛ إذ نزح مع عائلته من حي النصر في مدينة غزة نحو رفح، وهو يعتبر أنه ليس هناك أصعب على الإنسان من العيش خارج بيته، ويضيف: "القلب يتمزق من الوجع، نحن لسنا بخير. كنا نحب الحياة وما زلنا، لدينا أحلام وما زالت. صواريخ الاحتلال أرادت القضاء على كل شيء، وقد فعلت أمام صمت العالم." وداخلَه غصة كما قال هو وغيره من أهالي القطاع، فهو يعتبر أن العيش والمكوث كنازح هو آخر ما كان يتصوره، فضلاً عن أن أسرته "تذوق مرارة العيش، وهو ما يزيد من الضغط النفسي والشعور بالقهر مع كل يوم جديد." ويرى جبر أن الحرب ويوميات النزوح لم تفرّق بين أحد، لا غني ولا فقير، ولا صغير ولا كبير، كما يبدي تخوفه من أن تطول مدة نزوحهم، مبيناً أنه ينتظر كغيره "انتهاء الحرب للعودة إلى بيوتنا حتى وإن كانت مهدمة."

كفاح يومي

أمّا محمد إبراهيم (35 عاماً)، من محافظة رفح، الذي استقبل في منزله سبع عائلات من أقاربه النازحين من المناطق الشمالية بعد اضطرارهم إلى ترك منازلهم عنوة بفعل الحرب، فقد حدّثنا عن كفاحه اليومي لتأمين الغذاء ومستلزمات المعيشة برفقة أقربائه، وسط انعدام أي مقومات للحياة، فيقول: "نعيش كل يوم بيومه؛ نصطف فجراً لنتمكن من أخذ مكان حتى نحصل على القليل من الخبز، وما يؤرقنا هو قلة المياه، وحليب الأطفال، وندرة غاز الطهي، وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق، بصورة لا يقدر عليها النازحون الذين بالكاد يتمكنون من تأمين قوتهم اليومي، بعد أن خرجوا من منازلهم تاركين مقتنياتهم ومستلزماتهم." ويصف إبراهيم الأحوال التي وصل إليها الناس في محافظة رفح بأنها أقرب إلى "مجاعة" عصفت بالسكان جرّاء استمرار العدوان، في وقت تبدو فيه الأوضاع الحالية والمستقبلية غامضة، كما يشرح، ويستغل الحوار لدعوة المؤسسات الدولية، وأصحاب القرار إلى إيصال المساعدات الإنسانية إلى النازحين في أسرع وقت.

ملتقى النازحين

أمّا المواطن أبو عمر مصطفى، وهو نازح من مدينة غزة إلى رفح، يقول أنه يجلس في ذلك المقهى الشعبي المتواضع، الذي يقع في وسط مدينة رفح، والذي بات يُسمى بـ "ملتقى النازحين"، ويقول: "أشعر بالعجز عن القيام بردَّات فعل طبيعية أو اعتيادية تتناسب مع ما يحدث حولنا، فما يجري يفوق الوصف أو التخيل، ويفوق - بل ويُعجِز - مقدرتنا على التحمل أو الاستيعاب. إنه جديد كلياً، وغريب تماماً، وغير مألوف البتة، ومن الطبيعي ألاّ تكون ردات أفعالنا تجاهه.. طبيعية."

ويتساءل مصطفى: "هل حقاً يمكن للمرء أن يعتاد الأشياء القاسية البشعة التي نعيشها في الخيمة يومياً؟ لقد باتت أسمى أمانينا أن نحظى بموت مريح"، ويتحدث عن الموت المريح، وقد استشهد والده بقصف إسرائيلي، فيضيف: "المهم أن نجد من يدفننا، وألاّ تبقى جثثنا على قارعة الطريق لتنهشها الكلاب الضالة. إن من أسوأ كوابيسنا أن نرى هذه المجازر التي تحدث الآن، فلم يحدّثنا الآباء والأجداد هذه المرة، بل عشنا كل فصولها بأنفسنا، بفظائعها، ومآسيها، وتغريبتها.. وخذلانها! فأنّى لشعبنا أن ينسى أو يغفر.. أو يسامح."

تشهد محافظة رفح، في أقصى جنوب قطاع غزة، أزمة إنسانية وصحية غير مسبوقة، بعدما باتت مخيماً كبيراً، حيث تقدّر الجهات الحكومية أن نحو 1.9 مليون نازح جلّهم في رفح، وقد تحولت المرافق العامة والمدارس الحكومية وتلك التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) إلى مراكز إيواء، بينما تنتشر مئات الخيام في كل أرجاء رفح، في الوقت الذي لا يزال يتدفق فيه مزيد من سكان القطاع إلى رفح.

عن المؤلف: 

وسام المقوسي: صحافي من قطاع غزة مقيم ببيروت للدراسة.