واقع ومقومات القطاع الصحي في قطاع غزة خلال الحرب
سنة النشر: 
اللغة: 
عربي
إنكليزي
عدد الصفحات: 
10

يشن الجيش الإسرائيلي حرباً مدمرة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ما أسفر عن وفاة وإصابة الآلاف، وترْك العديد من الأشخاص عاجزين وبلا مأوى، بالإضافة إلى آلاف النازحين الذين يواجهون ظروفاً قاسية وغير إنسانية. لقد أحدثت هذه الحرب كارثة إنسانية غير مسبوقة، إذ سببت انهياراً تاماً للبنية التحتية، وأدت إلى تدمير المنشآت المدنية بصورة شاملة، الأمر الذي خلّف آثاراً كارثية تعيق القدرة على العيش والبقاء. ودخلت المنظومة الصحية، بمكوناتها الإنشائية والبشرية، ضمن الاستهداف المباشر لهذه الحرب؛ فقد بدا واضحاً منذ اللحظات الأولى أن الحرب على المنظومة الصحية جزء أصيل من استراتيجيا الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، وأن المنشآت الطبية، من مشافٍ ومرافق رعاية أولية وقوى بشرية، أضحت هدفاً من أهدافها، دون الأخذ بأي اعتبار للقوانين الدولية والإنسانية، وفي مقدمها اتفاقية جنيف الرابعة التي تقر بشكل واضح احترام وحماية الأفراد العاملين في الحقلين الطبي والصحي، وتللك التي تقدم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء في فترة النفاس، وتحث أطراف النزاع على احترامها وحمايتها في جميع الأوقات، وحماية واحترام نقل الجرحى والمرضى والعجزة.

بعد يومين فقط من بداية الحرب، خرج مستشفى بيت حانون في شمال غزة عن الخدمة، تلاه أمر من الجيش الإسرائيلي بإخلاء المستشفيات من المرضى والعاملين، وإفراغ المرافق الصحية المختلفة في مدينة غزة وشمالها، الأمر الذي رفضه العاملون في القطاع الصحي الذين أصروا على الاستمرار في تقديم الخدمات الطبية والطارئة. وتم دفع السكان إلى التوجه إلى جنوب القطاع في محاولة لتهجيرهم، وتباعاً تم قصف المستشفى المعمداني وتهديد محيط بعض مباني المستشفيات الأُخرى وتطويقها وقصفها، مثل مستشفى الشفاء، أكبر المشافي في القطاع، بالإضافة إلى مستشفى العودة والأندونيسي وغيرهما، في محاولات تكتيكية مستمرة لتفريغ المستشفيات والمرافق الطبية وإجبار الناس على النزوح والمغادرة. وتحت وطأه الإجراءات الإسرائيلية، والإجراءات القمعية المتتابعة، واعتقال الطواقم، والقصف الممنهج، أُجبرت الطواقم العاملة في هذه المنشآت على النزوح، وجرى تقليص خدماتها بشكل كبير، ما شكل ضربة قاضية للمنظومة الطبية في مدينة غزة وشمالها، حيث تشكل هذه المستشفيات العمود الفقري للخدمات الطبية، وتخدم أكثر من ثلثي السكان لما تتمتع به من إمكانات فنية متخصصة لا يمكن توفيرها بسهولة في أماكن أُخرى في قطاع غزة، بسبب توفر الطواقم البشرية المتخصصة والتجهيزات والتقنيات الطبية المتقدمة.

وتواصلت الحرب على المشافي والمرافق الصحية في مختلف مناطق القطاع، من تهديد وإخلاء وقصف مباشر لها أو في محيطها وقنص العاملين فيها والتصدي لحركة سيارات الإسعاف وتلك التي تنقل المرضى والمصابين والجرحى، وفي مرحلة لاحقة تطويق مزيد من المستشفيات. وكان لأوامر القادة الإسرائيليين بمنع الماء والوقود والكهرباء والغذاء والإمدادات الطبية والإنترنت عن قطاع غزة أثرها الكارثي على المستشفيات والمراكز الصحية، الأمر الذي تسبب بتقويض عملها وجعلها في حالة انهيار وشلل تام، وبالحد من قدرتها على التعاطي مع الحالة الطارئة النامية والمتسارعة، وعلى الاستجابة لحاجات السكان الطبية والصحية الأساسية.

وفي مراحل لاحقة، واصل الجيش الإسرائيلي استهداف المنشآت الطبية في مناطق أُخرى من القطاع متبعاً الاستراتيجيا ذاتها في خوض حرب على المنظومة الصحية من أجل تقويضها وشلها وجعلها غير قادرة على تقديم خدماتها، في محاولة لإنهاء مقومات الحياة للغزيين كجزء من استراتيجيا الجيش، ومن ورائه الحكومة الإسرائيلية في الحرب على المنظومة الصحية وتدميرها وتعطيلها. والجدير بالذكر أن الحرب على المنظومة الصحية تمت مباركتها ودعمها بشكل صريح من خلال رسالة مشهورة من مجموعة من الحاخامات الإسرائيليين المؤثرين الذين دعوا نتنياهو إلى قصف المستشفيات، وأيضاً من المئات من الأطباء الإسرائيليين، في انتهاك غير مسبوق لأخلاقيات الطب والمبادئ الإنسانية والقوانين الدولية. وحتى كتابة هذا التقرير، أشارت تقارير منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة إلى أن تداعيات الحرب الشرسة على المنظومة الطبية والصحية تسببت بخروج 20 مستشفى عن الخدمة ليبقى 16 مستشفى فقط تعمل بثلاثة أضعاف طاقتها الاستيعابية، من دون أن تتمكن من تلبية الحاجات الصحية للسكان لأن قدرتها التشغيلية ضعيفة جراء نقص الإمدادات الطبية، وعدم توفر المياه والكهرباء والدواء والطواقم الطبية. وتواجه هذه المستشفيات تحديات من قبيل نقص الكوادر الطبية، بمن فيهم الجرّاحون المتخصصون، وجرّاحو الأعصاب، والطواقم العاملة في وحدات العناية المركزة، ناهيك عن نقص الإمدادات الطبية، كما أنها في حاجة ماسة إلى الوقود والمواد الغذائية ومياه الشرب، ونسبة إشغال الأسرة في هذه المستشفيات تزيد على 350% و250% في وحدات العناية المكثفة، الأمر الذي يرتب تحديات غير مسبوقة فيما يتعلق بنجاعة الخدمات الطبية وجودتها وقدرتها على الاستجابة المطلوبة للسكان. كذلك لحق الضرر وجرى تدمير أكثر من 94 منشأة صحية وأكثر من 83 سيارة إسعاف، بسبب الحرب على المنظومة الصحية، وتوقف العمل في أكثر من 59 مركز رعاية أولية ليبقى 13 مركزاً فقط تقدم خدماتها في المناطق الجنوبية وبعض المناطق الوسطى. كما تعرضت الطواقم الطبية والصحية لأكثر من 300 اعتداء خلّفت 377 قتيلاً بين الطواقم الطبية ونحو 764 جريحاً ومصاباً، بالإضافة إلى اعتقال حوالي 100 من العاملين في القطاع الطبي.

لقد ترك هذا الواقع المرير وغير المسبوق في التاريخ الإنساني النظام الصحي على حافة الانهيار الشامل إذا لم تُتخذ الإجراءات والتدابير اللازمة والضرورية، ولعل أهمها وقف الحرب على المنظومة الصحية، والالتزام بالمعاهدات الدولية واتفاقية جنيف الرابعة وبقية القوانين والمعاهدات العالمية، وطبعاً وقف الحرب والأعمال العدائية بصورة عامة. 

ويلقي انهيار المنظومة الصحية، وعرقلة الوصول إلى المرافق الصحية والمشافي، وعدم توفر الأدوية والإمدادات الطبية، وصعوبة إجراء الفحوصات المخبرية، وانهيار البرامج الوقائية والتلطيفية، أعباء جسيمة على مرضى الأمراض غير السارية، والتي كانت تشكل قبل الحرب أصلاً عبئاً كبيراً على النظام الصحي فيما يتعلق بتقديم خدمات لأكثر من 350 ألف مريض يعانون من الأمراض القلبية الوعائية (مثل النوبات القلبية والسكتة الدماغية) والضغط، والسرطانات، والأمراض التنفسية المزمنة (مثل مرض الرئة الانسدادي المزمن والربو)، والسكري، أضف إلى كون هذه الأمراض هي المسبب الرئيسي للوفيات والاعتلال في قطاع غزة. ومن المرجح أن يتفاقم تواتر هذه الامراض، وتتضاعف عواقبها ومشكلاتها، نظراً إلى أن أكثر من 80% من المرضى لا يجدون أدويتهم الأساسية، ولن يتمكنوا في المنظور القريب من الحصول على التدابير الطبية اللازمة والمتابعة الأساسية والرعاية التلطيفية، ما سيؤدي إلى تفاقم حالاتهم الصحية وهلاكهم التدريجي. ومن المؤكد أن معدل الوفيات والإعاقة والعجز بين هذه الفئات سيتعاظم، ما يضع المنظومة الصحية أمام أعباء مضاعفة عند التعافي. كما أن إمكان السيطرة على عوامل الخطورة، وتغير الأنماط السلوكية، وإجراء الكشف المبكر، سيكون أمراً معقداً وغير ممكن في ظل الظروف المستجدة، من نزوح السكان، وعدم توفر الغذاء والماء، وتردي الظروف البيئية نتيجة الحرب والدمار، وعدم قدرة المنظومة وشللها، حتى إن الوضع الإنساني الكارثي الناشئ سيزيد من تواتر المراضة والخطر بين فئات جديدة من السكان. 

وفي هذا السياق، يواجه مرضى غسيل الكلى، والذين يبلغ عددهم أكثر من 1200 شخص، بينهم نحو 40 طفلاً، مخاطر الوفاة وعواقب صحية أُخرى نتيجة توقف العديد من المستشفيات التي كانت تقدم هذه الخدمات، وتراجع قدرة المستشفيات المتبقية على تقديم خدماتها لهؤلاء المرضى بسبب عدم توفر الكهرباء والماء ونفاد المواد الضرورية لعمليات غسيل الكلى. يضاف إلى هذا عدم إمكان وصول هؤلاء المرضى إلى المستشفيات نتيجة نزوحهم، وعدم توفر وسائل النقل بسبب القصف الذي يستهدف المستشفيات والطرقات.

ونتيجة هذه التحديات، اضطرت المستشفيات المتبقية، التي تقدم خدمات غسيل الكلى، إلى تقليل مدة جلسات العلاج، وتقليل أيام الخدمة، كي تتمكن من استيعاب المرضى الذين ينتظرون في طوابير للحصول على خدمات الغسيل، الأمر الذي قد يعرض المرضى لمخاطر الوفاة التدريجي. وقد سُجلت العديد من حالات الوفاة نتيجة عدم قدرة المريض على الحصول على هذه الخدمات الحيوية في الوقت المناسب.

ويواجه مرضى السرطان الذين يتجاوز عددهم 2000 مريض مخاطر مشابهة، إذ تم إخلاؤهم من المستشفيات التي تعرضت للقصف؛ فقد تعرض مستشفى الصداقة التركي الخاص بمرضى السرطان لقصف مباشر خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر، ما هدد حياة المرضى الذين يخضعون للعلاج فيه، وهم في حالة صحية صعبة. بالإضافة إلى هذا، يعاني مرضى السرطان من عدم توفر الأدوية اللازمة بسبب منع دخولها إلى القطاع، وتوقف تحويلات العديد منهم إلى خارج القطاع لتلقي العلاجات الضرورية.

ويعاني أيضاً مرضى الانسداد الرئوي المزمن (COPD)، وبصورة أقل مرضى الربو جرّاء التعرض للغبار المتعلق بالانفجارات، والتي لا تتلقى معالجة فورية. كذلك يواجه مرضى السكري والضغط والقلب، الذين يتجاوز عددهم الـ 250 ألف مريض، تحديات غير مسبوقة لعدم توفر العلاجات، وإمكان المتابعة الطبية اللازمة، وإجراء الفحوصات، ولا سيما مرضى السكري الذين يعتمدون بصورة أساسية، على الأنسولين، والذي بغيابه لن يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة، وخصوصاً مرضى السكري من النوع الأول الذين يقدر عددهم بنحو 2000 مريض، ولا سيما الأطفال منهم. ومن المرجح أن تزيد نسبة الوفيات والإصابة بالعجز بين هذه الفئات جرّاء مضاعفات المرض وعدم توفر أي تدابير علاجية، وهذا ليس من شأنه إعاقة تحقيق الغاية المتعلقة بالأمراض غير السارية في أهداف التنمية المستدامة بشكل كبير فحسب، بل أيضاً زيادة تواتر هذه الأمراض وارتفاع معدلات العجز والوفيات.

وأفاد مسؤولون في وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الوطنية والدولية بأن الأمراض المعدية تفتك بسكان القطاع، وعلى الرغم من انهيار منظومة الرصد الوبائي وعدم قدرتها على مراقبة الأوضاع الوبائية وجمع البيانات من كل مناطق القطاع، فإن هناك توافقاً على أن الأمراض المعدية والوبائية آخذة في اجتياح غزة بشكل غير مسبوق وبزيادة مذهلة عما كانت عليه قبل الحرب، بأكثر من أربع الى خمس مرات، الأمر الذي يعود إلى عدم توفر المياه الصالحة، وشح الغذاء، وضعف المناعة الجماعية، وعدم توفر الدواء ومواد التنظيف، والنزوح السكاني، والاكتظاظ في مراكز الإيواء وفي مناطق اللجوء، وتردي الوضع البيئي، وتدمير البنية التحتية والصرف الصحي الذي أدى إلى تلوث المياه التي هي أصلاً ذات جودة متدنية. وتشير التقديرات إلى أن عبء هذه الأمراض سيزداد مع تفاقم الظروف البيئية المتردية، وسوء تغذية الرضع والأطفال والأمهات، ويُخشى مع مرور الوقت أن تتزايد فرص إدخال مسببات لأمراض أُخرى قد تؤدي إلى انتشار مزيد من الأوبئة. وتقدَّر وتيرة هذه الأمراض بنحو نصف مليون حالة منذ بدء الحرب، من أمراض جلدية والتهاب الجهاز التنفسي العلوي والتهاب الكبد الوبائي ومرض السحايا والزحار والإسهال المائي وغيرها، والتي يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى وفاة عدد كبير من الأطفال يساوي عدد الذين قُتلوا في عمليات القصف الإسرائيلي حتى الآن أو يزيد. ومن المتوقع عودة مرض السل بوتيرة أعلى نظراً إلى الاكتظاظ السكاني، وضعف المناعة الجماعية، وسوء التغذية، وتردي الظروف المعيشية.

ويعتبر برنامج تحصين الأطفال في غزة جزءاً من برنامج التطعيم الوطني الفلسطيني الذي حقق نسبة تغطية عالية وصلت إلى 99%، الأمر الذي ساهم في السيطرة على الأمراض المعدية ذات العلاقة بالتحصين بين الأطفال والحدّ منها. ويُخشى أن تواجه هذا الجهد والإنجاز تحديات وإخفاقات متعددة نتيجة الحرب الشرسة على غزة، وأهم هذه التحديات هو خروج ثلثي مرافق الرعاية الأولية التي تقدم التحصينات عن الخدمة، وعدم توفر الأمن والأمان للوصول إلى مراكز التطعيم الفاعلة في هذه الظروف القاسية. كما أن تشتت السكان وإمكان متابعتهم والتواصل معهم، وتوفير المطاعيم والتأكد من سلامة سلسة التبريد لحفظها، والوصول إلى نسبة تطعيم عالية للمحافظة على المناعة الجماعية للسكان، هي من المحددات الأساسية لنجاعة برامج التطعيم ودرء مخاطر عودة أمراض، مثل الحصبة التي من المتوقع أن تنتشر جرّاء هذه الظروف، وغيرها من الأمراض التي تم الحد منها. وما يثير القلق هو القدرة على المحافظة على نسبة تغطية عالية تعزز المناعة الجماعية، ذلك بأن ثمة مناطق عديدة في غزة وشمالها لم يتم تحصين الأطفال فيها منذ أكثر من ثلاثة أشهر. وقد تمكنت مؤسسة جذور للإنماء الصحي والاجتماعي من تحصين نحو 2500 طفل في المناطق الشمالية، حين إعداد هذا التقرير، ويبقى التحدي قائماً بسبب العوامل الآنفة الذكر، ولأن جيوباً عديدة في مناطق غزة ما زالت غير آمنة، ولن يتمكن الأطفال فيها من الحصول على التحصينات اللازمة.

إن التهديد الأكبر في غزة هو سوء التغذية الحاد الشديد الذي يحدث حين لا يحصل الناس على الفيتامينات والمعادن الغذائية الدقيقة والحديد والبروتينات التي تمكن الجسم من القيام بوظائفه. فسكان غزة يواجهون خطر المجاعة، إذ يواجه أكثر من 90% من سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة "انعدام الأمن الغذائي الحاد"، وربع السكان يعانون من "مستويات كارثية من الجوع" بعدما باتوا مهددين بانعدام الأمن الغذائي الحاد بشكل أسوأ مما كان عليه الوضع قبل الحرب، والأطفال في هذه الحالة يكونون أكثر عرضة لخطر الموت. فثمة "قيود منهجية" على وصول المساعدات إلى الشمال، وأشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن إسرائيل لم تسمح إلاّ بدخول نحو ربع شحنات المساعدات التي كان من المفترض وصولها إلى هنا، أي ما يعادل 30% من الاحتياجات. وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، فإن أكثر من 10 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الهزال ونقص الوزن غير الطبيعي خلال الأسابيع المقبلة، وهو أحد أخطر نتائج سوء التغذية الذي قد يعيق نمو البدن والدماغ، ويؤدي الى ضعف المناعة والموت المحقق. وتشير المعطيات المختلفة إلى أطفال يولدون مرضى لأمهات يعانين جرّاء سوء التغذية، ورضّع يفقدون الوزن، وأمهات جفّت أثداؤهن وعجزن عن إرضاع أطفالهن طبيعياً، ومصابين أضعفهم الجوع لدرجة لم يعد في إمكانهم مقاومة العدوى، الأمر الذي سيترك تداعيات صحية عميقة آنية ومستقبلية على السكان في قطاع غزة، ولا سيما الفئات الهشة من الأطفال والنساء والحوامل وحديثي الولادة وكبار السن، وبالتالي سوف يقود إلى ارتفاع في تواتر الأمراض المعدية وفقر الدم والعناصر الغذائية الدقيقة والتقزيم والوفيات.

إن التأثير النفسي للحرب جرّاء القتل ومشاهد الموت والجرحى والأنقاض والتدمير والحرمان من الحاجات الأساسية بدأ يظهر بشكل واسع على جميع السكان في غزة، بدءاً بالعاملين في القطاع الصحي مروراً بالنساء والشباب وكبار السن والأطفال. وتشير تقارير موقع الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة "أوتشا" ووزارة الصحة الفلسطينية ومنظمة الصحة العالمية والمؤسسات المختلفة، إلى استفحال المستويات المرتفعة للصدمات والضغوط والاضطرابات النفسية والذهانية المختلفة، من اكتئاب وقلق وعصبية، والتي كانت أصلاً قائمة قبل الحرب بوتيرة أقل لتضحي نمطاً وبائياً يصيب أكثر من ثلثي السكان، وخصوصاً بين الأطفال الذين أصيبوا "بالصدمات النفسية الشديدة"، والتي تشمل أعراضها "الخوف، والعصبية، والتشنجات، والسلوك العدواني، والتبول في الفراش، وعدم ترك والديهم أبداً". وتؤكد كل هذه المنظمات أن العواقب النفسية والذهانية ستكون طويلة الأمد، وأن ما يُعرف باضطرابات ما بعد الصدمة PTSD هي مسألة حتمية، وخصوصاً في ظل غياب عوامل التخفيف، مثل الرعاية النفسية الحادة وآليات التكيف الاجتماعي، الأمر الذي سيقود إلى العجز النفسي والبدني، وسيؤثر في نمو العلاقات العاطفية وفي تكوين رؤية إيجابية للحاضر أو المستقبل، وسيؤدي إلى العجز عن بناء أي تصور صحي لمختلف جوانب الحياة وإلى خلق كثير من الاضطرابات النفسية والعقلية، من اكتئاب وفوبيا ونوبات هلع وتبول لاإرادي وكوابيس ليلية، وكل هذه الأمور ستترك أثراً في مستقبل الغزيين الاجتماعي، وفي وسلوكهم الإنساني، ما يستدعى تدخلات واسعة ومنهجية ووضع برامج نفسية شاملة وتهيئة عاملين نفسيين ومهنيين رفيعي المستوى لمواجهة هذا التحدي.

وتتحمل النساء الحوامل والأطفال وحديثي الولادة والرضع خلال الحرب في غزة عبئاً مركباً مؤلماً لا يمكن تصوره، ليس فقط كضحايا جرّاء القصف والقتل والتدمير، أو بسبب النزوح والحرمان من الغذاء والدواء وانهيار إمدادات المياه والكهرباء، بل أيضاً لتحمل النسوة العبء المضاعف جرّاء الحمل والولادة، إذ يُقدر أن هناك نحو 55,000 امرأة حامل في غزة، وأكثر من 180 امرأة تلد كل يوم، ومن المرجح أن هؤلاء النسوة غير قادرات على الوصول إلى الخدمات الصحية المرجوة والضرورية في أثناء الحمل، أو خلال الولادة، لخروج المرافق الصحية عن تقديم الخدمة، أو لعدم قدرتهن على الوصول إلى مراكز الرعاية والمشافي، ناهيك عن تردي أوضاعهن الغذائية والنفسية والبدنية، ما يضعهن في دائرة الحمل الخطر الذي قد يؤدي إلى تعاظم معدلات وفيات الأمهات والأطفال الرضع. لقد فقدت عشرات النساء أجنتهن، وتزايدت نسبة الإجهاض بينهن، وارتفعت وتيرة الولادة المبكرة بثلاثة إلى أربعة أضعاف، وسُجل العديد من حالات انفصال المشيمة المبكر، والتي بدون تدخلات طبية طارئة قد تقود إلى الوفاة، ونتيجة عدم توفر الدم ومكوناته اضطر الأطباء إلى استئصال الأرحام كوسيلة علاجية. كما أن النساء يخاطرن بحياتهن من أجل الولادة، ويخضعن لعمليات قيصرية وعمليات طارئة من دون تعقيم أو تخدير أو مسكنات، ما يزيد في فرص المراضة والوفيات بين الأمهات. ويتفاقم هذا الوضع في الشمال، في حين أن في الجنوب ثمة إقبال كبير للنساء الحوامل، وخصوصاً النازحات من غزة والشمال، على أقسام الولادة في المستشفيات العاملة، لكن الخدمات تُقدم للحالة الأكثر خطورة، كما تضطر الطواقم الطبية إلى إخراج الأمهات من المستشفى في غضون ثلاث ساعات بعد الولادة القيصرية، ما يدفع بقية النساء إلى الولادة في مناطق اللجوء، وفي أماكن غير آمنة أو صحية، وهذا يزيد المخاطر على صحتهن وصحة أطفالهن. وتنعكس هذه الصورة القاتمة على المواليد الجدد، وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، فإن نحو 20 ألف طفل وُلدوا منذ اندلاع الحرب حتى وقت كتابة هذا التقرير، بينهم عشرات الأطفال المبتسرين، وهم الأطفال الذين يولدون قبل أوانهم، أو فيما يعرف بالولادة المبكرة التي تحدث قبل ثلاثة أسابيع من تاريخ الولادة المتوقع، بأوزان وأحجام أقل من الوزن الطبيعي، إذ تجعل هذه الولادة المبكرة الطفل في كثير من الأحيان عرضة لمشكلات طبية تحتاج إلى رعاية خاصة.

إن عدم تمكن هؤلاء الأطفال حديثي الولادة من الحصول على الرعاية الطبية اللازمة يجعلهم عرضة للتأخر في النمو، أو للعجز، وهو ما قد يؤدي إلى الوفاة، وبالتالي إلى ارتفاع معدل وفيات الرضع، إذا لم تُتخذ التدابير اللازمة، ولم يتم توفير الحاضنات والدواء والغذاء. ومن الجدير بالذكر أن خروج العديد من المستشفيات عن الخدمة، وعدم توفر الكهرباء والوقود أضعفا القدرة الاستيعابية للحاضنات، وخصوصاً مع ازدياد الحاجة إليها، وهو ما حرم حديثي الولادة المبتسرين من الحصول على الرعاية الطبية الكافية والضرورية. وقد تقاسم عدة أطفال حاضنة واحدة، أو تم إخراجهم قبل أن يتمكنوا من الحصول على الرعاية الكافية لإعطاء فرصة لأطفال حالتهم أكثر خطورة. ومما لا شك فيه أن هذا الوضع المرير والقاتم ضاعف وفيات الأمهات وحديثي الولادة بصورة كبيرة. وبالإشارة إلى مختلف تقارير المنظمات الدولية والمحلية، فإن معدلات وفيات الأمهات وحديثي الولادة تعتبر من أهم المؤشرات التي تعكس الواقع الصحي في المجتمعات، ولا بد من القول إن هناك صعوبة بالغة في الحصول على أرقام واضحة تعكس هذه المعاناة نظراً إلى عدم قدرة منظومة الرصد الطبي على متابعة الشواغل المختلفة الأُخرى المرتبطة بالحرب، ما يجعل من الضروري تفعيل أو وضع آلية رصد للمؤشرات الأُخرى خلال الحرب.

1
عن المؤلف: 

د. أمية الخماش: مؤسسة جذور للإنماء الصحي والاجتماعي.