رفعت، قلتُ لمحرري في الصحيفة الأميركية التي أعمل بها أنني أريد تأبينك، لكنني عجزت وتلعثمت ولم أكتب شيئاً. جاءني خبر استشهادك كما جاء جميع محبيك، ثقيلاً، ساحقاً، قاسياً، ووصيتك لنا جميعاً أن نحول إعدامك إلى قصة وأسطورة وطائرات ورقية تجول فضاءات العالم بلا جواز سفر - ثقيلة وقاسية أيضاً كالأصفاد - كلما حاولنا تحويلك إلى حكاية كلما قيدتنا بحقيقة لا مفر منها: أنت ميت. لكن تقصيري في الرثاء ليس وليد الحزن فحسب، فاللغة التي أردت أن نرثيك بها هي لغة متغطرسة لا تسعنا ولا تتسع لأشكال حياتنا.
أن تنعى رجلاً فلسطينياً باللغة الإنكليزية يعني أن تعذب نفسك. تأمرنا هذه اللغة، المخطوطة على الصواريخ التي فتكت بك، أن نؤهلك للعزاء قبل العزاء، أن نبرئك من خطاياك: جغرافيتك، ودينك، ولونك، وجنسك، وانتماءاتك؛ أن نستثنيك من صفوف مقاتلينا، ونقاتل لإظهار استثنائيتك، ونخيط أجنحة الملائكة والقديسين على ظهرك، فتصبح حينها، فقط حينها، قابلاً للرثاء بحكم مهنتك النبيلة، وتعليمك العالي، وقصائدك الخالية من الرصاص.
نحن ببساطة لسنا موجودين في لغة المستعمر. إعلان وفاتك يستوجب انتشال الاعتراف بوجودك أصلاً، وانتشال الاعترافات هو جلد للذات أيضاً. تحول هذه اللغة جنازة الفلسطيني إلى ساحة حشد وإقناع وتثقيف، لا يوجد فيها مسلمات وحقائق موضوعية. في هذه المعادلة، لا يمكنني أن أعرّف العالم برفعت من دون أن أعرّفهم على حي الشجاعية، ولن يعرفوا الشجاعية من دون أن يعرفوا قطاع غزة، ولن يفهموا الأخير إن لم يفهموا فلسطين والاستعمار والصهيونية والنكبة. وهكذا، فنرتدي عند النعي زي المؤرخ والناشط والمحلل السياسي، ونجعل من المواثيق والقوانين الدولية والإحصاءات مرجعية تتفشى في أسطر الرثاء، قد تنافس وتتفوق على إنجازاتك، وذكريات أحبائك، ومواقفك الطريفة، ورسائلنا إلى زوجتك وأطفالك.
أدري، أو على الأقل أخمّن، أن رأيك مختلف؛ في حين أني أرى عبئاً في هذه المعطيات، أنت ترى جدوى، ترى فرصة لتحويل مأساة فرد إلى أداة تناصر فيها شعباً بأكمله، ففلسطين عندك ليست قناعة فحسب، بل أيضاً ممارسة مادية، تهبها إلى السائح والمتفرج والدبلوماسي الأبله، تناقش بها بجدية سائق التاكسي في كل البلدان التي تزورها، فيذهب إلى بيته محملاً بالقصص التي تغير عالمه الخاص.
أخبرني ياسر، أحد تلاميذك السابقين، أنك قمت بإلغاء الامتحانات الجامعية لطلابك حين هبت نيران الاستيطان في حينا في القدس، واشتد القصف على غزة، وقلت لهم إن علاماتهم ذلك الفصل ستعلو مع علوّ أصواتهم بالحديث عن غزة بالإنكليزية على مواقع التواصل الاجتماعي. ولولا صوتهم وأصوات كثيرة ما بقي من الحي طوبة واحدة. ولهذا، لن أستهزئ بالكلمة، حتى لو بدت كلماتي عارية، بلا مخالب ولا أنياب، ولن أتقاعس عن المحادثات مع الغرباء في المطارات وفي الحافلة، لأنك تؤمن بالكلمة ونحن نؤمن بك.