مهلاً أيها البرد
التاريخ: 
30/01/2024
المؤلف: 

طرقات غزة جبلها القصف بالتراب، وانهال عليها ركام المباني المقصوفة، وهناك أحياء كاملة صارت عجينة من الفولاذ والأسمنت والأثاث، وألعاب الأطفال وثيابهم، والباقي من أجسادهم، وكذلك أواني الطبخ، والأرائك وأسرّة النوم. لذا، فلا سبيل لتقفّي أثر من مروا.

في بداية شهر كانون الأول/ديسمبر من السنة الماضية، عَبَرَ بين الحطام طابور من الأسرى وهم شبه عراة، ورؤوسهم معصوبة عينيها، ومحنية إلى الأمام، وأيديهم مكبلة وقد شُدت وراء ظهورهم. قعدت الأجساد عنوة، وحُشرت في عربات الشحن العسكرية عند آخر أحياء المدينة، حيث انطلقت من هناك مسرعة، فتلاطمت الأجساد بعضها بالبعض الآخر، وتماوجت، وتطايرت فوق الصفيح الحديدي، وسط صراخ الأسرى وقهقهات الجنود.

مهلاً أيها البرد

قلت في قرارة نفسي وسط صدمة اعتقالي: "مهلك علينا أيها البرد، لا تعاكس كثيراً تقدُّم العربة المسرعة."

كان القصف قد أحدث حفرة في الجدار الخلفي للصيدلية التي افتتحتُها قبل سنوات في شارع الشهداء في مخيم جباليا، واجتمع فيها عدد كبير من النازحين الفارين من الموت، وأصبحتُ أتنقل إليها عبر مدرسة أبو حسين الإعدادية للبنين، لأجلب ما توفر من دواء للأطفال والنساء والمرضى، وأعود أدراجي بين ركام المباني، وأحياناً تحت القصف.

في إحدى المرات، وفي أثناء محاولة الوصول إلى الدواء، وبينما كنت أمر بدرج مبنى مهدم، فاجأني أحد الجنود مصوباً بندقيته نحوي، ويبدو أن مجموعة من الجنود كانوا قد اختبأوا في مبنى مهدم، فخرجوا قائلين: "ارفع إيدك، ودير وجك ع الحيط!"، فرفعت يديّ خائفاً مذعوراً، وأدرتُ وجهي عكس الجندي، لأنه لم يعد هناك حائط أصلاً لأواجهه، وبدأتُ تمتمةَ الشهادتين بصوت خافت جداً من شدة الرعب، ووقفتُ مترقباً صوت الرصاصة، فاقترب مني الجندي وضربني بكعب البندقية على أعلى ظهري بين كتفَي، فرماني أرضاً فوق الركام، ووضع رجله على ظهري وأرجع يديّ إلى الخلف، وكبلني وسط الضرب، ولم تسعفني كل محاولات التعريف عن نفسي بأني صيدلاني، وزاد الضرب بالركلات وأعقاب البنادق.

"الضرب حافة الموت، والضرب حتى الموت" كّلها مقدمات لا بد من قطعها في اللحظات الأولى للاعتقال، قبل أن تفضي رحلة العذاب إلى المعتقل الجديد. لم أُقتل رمياً بالرصاص، لكن في أثناء نقلي، سمعت أحدهم يصرخ، ثم اختفى صوته بعد رشقة من نيران قريبة مني؛ ويبدو أن أحد الجنود قتل مدنياً فوجئ به، فقلتُ في نفسي: "ربما أخي وربما صديقي وربما أحد أقاربي"، فزاد هذا الحدث من قلقي وخوفي، وربما شاهدوني مسبقاً، ولذلك لم يقتلوني. في أي حال، قُدر لي أن أبقى على قيد الحياة، وأتعرف على "غوانتانامو الجديد" بنسخته الإسرائيلية.

"غوانتانامو الجديد"

في الطريق الشاقة إلى القاعدة العسكرية "سديه تيمان" غربي مدينة بئر السبع، حيث توقفت الشاحنات التي تنقل الأسرى، كانت رحلة الآلام والأوجاع الإضافية. ظننتهم في البداية يأخذوننا إلى سجن عسقلان، المعتقل الغارق في القِدم، والمولود من رحم مرسوم عسكري أصدرته قيادة جيش الاحتلال سنة 1970. يومها، ترجم القرار موشيه ديان ورفائيل إيتان بتصريحات لهما لخّصا الغاية من وراء زج الأسرى في السجون بأنها "ستكون أمكنة لأشخاص هم مجرد أرقام، وكتل بشرية تعاني جرّاء الأمراض"، وكرر ذلك مدير سجن عسقلان سنة 2000 في مقابلة صحافية عندما قال أنه لا يعرف ولا يذكر اسم أي أحد من السجناء، وأن كل واحد منهم هو مجرد رقم.

قلت في نفسي: "هل أصير رقماً؟ هل أصبح رهينة المرض الدائم؟ أم سيذكرني أحد محققي الشاباك السابقين؟" فقد قرأتُ في إحدى مجموعات واتساب، قبل فترة من اعتقالي، أن الرجل الأمني الذي لم أحفظ اسمه يتذكر شخصية يحيى السنوار جيداً، فقال أنه يعرفه أكثر مما تعرفه أمه، في إشارة إلى درجة معرفته بشخصية أبو إبراهيم، وهذا الأمر بحد ذاته ينسف نظرية إيتان وديان.

قلتُ (معتز الطبيب) في قرارة نفسي، وأنا عاري الجسد ومكبل اليدين: "هل بتُ السجين رقم واحد؟ لكن اسمي معتز، وأنا من جباليا، ولست محمود بكر حجازي (أول أسير فلسطيني دخل السجون، واعتُقل في إثر عملية تفجير نفق عيلبون في 17 كانون الثاني/يناير 1965). هل سيتعين عليّ التدرج في اختصار تجربة الأسرى لـ50 عاماً مضت؟ وهل سأجبَر على العمل ’سخرة‘ في صناعة جنازير الدبابات والحقائب ومماسح الأقمشة، وأُكرَه على تنظيف غرف السجانين والضباط؟ ربما يأتي أحدهم ويفعل ما فعله سلفه؛ حين أرغم الأسرى على صناعة الشموع للأعياد اليهودية."

تحقيق بلا غرفة

إن المحققين كثرٌ في مكان التحقيق، وقد انتظرتُ نزع كيس القماش عن وجهي، فأنا أريد أن أرى وجه المحقق، وأراقب لغته العربية المكسرة، فإرباكه وحيرته في البحث وأنا أمامه يجعلني أكثر قوة، فلا طاولة يجلس وراءها ليقفز بسرعة البرق نحوي ويوسعني ضرباً، ولا ضوء مسلط عليّ يختفي أحياناً خلفه عميل أو عنصر أمني لا يريدونني أن أتعرف إليه، ولم يمرر أحدهم كوب الشاي الساخن أو فنجان القهوة إلى المحقق، ليقوم بارتشافها ببطء، إنما يظهر أمامي كشخص عادي يمارس أوقاته العادية بكثير من الراحة في أشد اللحظات العصيبة.

وليس وحيداً ذلك الذي انهال عليّ بالأسئلة، إذ كانت الأصوات تتداخل؛ صراخ الأسرى الجدد، وأصوات الضرب بالعصا والكابل الحديدي الذي يحفر في الجسد خطوطاً مؤلمة، وما يزيد الألم هو سكب الماء البارد والساخن على تلك الخطوط الكثيرة. وبين السؤال والسؤال، وقبل انتظار الإجابة، كان المحقق يعمد إلى تمرير صعقة كهربائية تصعق الأماكن الحساسة من جسدي، فتألمتُ بشدة، وفاق الألم الجلوسَ على كرسي صغير لا يتجاوز ارتفاعه 20 سنتيمتراً، ولا تزيد قاعدته على 20سنتيمتراً مربعاً، والأطراف موثقة إلى الخلف معاً.

وفي ساعات الليل، يكون الطقس بارداً في صحراء النقب، في الخلاء المحاط بشباك تعلوه الأسلاك الشائكة. وكانت تصوَب نحو الأسرى كشافات الإنارة القوية، فقُدر لي (معتز) أن أميز بين ليلي ونهاري عبر حدة أشعة الشمس وبرد الليل، إذ إن وجهي طوال الوقت كان مغطى بقطعة القماش أو بكيس تفوح منه رائحة قذرة.

لست بين الأسماء

صحيح أنني لستُ أول المعتقلين، ولن أخوض في تجربة الأسرى الطويلة، لكن الاحتلال طبّق عليّ وعلى زملائي القانون الجديد "أمنيون غير قانونيين"، الذي يمنع الأسرى من لقاء المحامي، ويفرض عرضهم على قاضٍ يمدد حبسهم وفق الأنظمة والقوانين المتبعة بشروط معينة تتعلق بعملية التحقيق التي يمكن أن تمتد لأشهر.

أنا لست بين الأسماء، فلا رسالة يحملها مني الصليب الأحمر الدولي، ولو شفهية، كي يقول لعائلتي أنني ما زلت على قيد الحياة، ولست بين الأسماء، لذا، فأنا الآن في "غوانتانامو" بنسخته الإسرائيلية؛ لا أسمع إلاّ الأنين والصراخ، ولم أرَ النور أبداً، وأتبول في ثيابي، وآكل وأنا مغمض العينين أيضاً، ولا أعرف ما الطعام الذي أتناوله، لكنه وجبة واحدة طوال الليل والنهار، كما أقضي حاجتي في العراء أيضاً، ولا أعرف شيئاً حولي. أصبحت بلا عينين، ولا أشم إلاّ رائحتي.

ولستُ بين الأسماء، فالهواء والبرد والشمس والليل هم الذين يشيرون إلى وجودي، فضلاً عن أوجاعي الكثيرة في أنحاء جسدي، بالإضافة إلى الصحراء التي تحولت إلى غرفة تحقيق وزنزانة كبيرة، وسجن كبير يعج بالأمل والألم، من شأنها أن تختزل حكاية 31 معتقلاً وسجناً ومركز توقيف، وتروي سيرة أكثر من 800,000 معتقل، بحسب فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وأكثر من مليون سجين، بحسب أرقام رسمية فلسطينية.

 

* سيرة غير افتراضية لمجموعة من حكايات الأسرى الذين اعتُقلوا من قطاع غزة خلال هذا العدوان.

عن المؤلف: 

نبيه عواضة "نيرودا": صحفي لبناني وأسير محرر.