تحول مسرح الحرية في قلب مخيم جنين إلى "مزار" دائم لقوات الاحتلال، إذ تقتحمه باستمرار وتعيث فيه فساداً وتخريباً، حتى إن جيش الاحتلال قام، في 12 كانون الأول/ديسمبر 2023، باعتقال العاملين في المسرح، ليفرج عنهم لاحقاً، مبقياً مدير المسرح مصطفى شتا (43 عاماً) معتقلاً.
ولدى تصاعُد أعمال المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، منذ أيلول/سبتمبر 2021، بات الدور المنوط بالمؤسسات الثقافية والفنية أكثر أهمية، إذ يُفترض أن تكون جزءاً من حالة الاشتباك النضالي العام، وهو ما يُتهم به مسرح الحرية في مخيم جنين، لذلك سعى الاحتلال لكسر المقاومة وحاضنتها في المخيم وإخضاعهما، بما في ذلك الفعل الثقافي الواعي والمنتمي، وهو ما تجلى في مداهمات المسرح واعتقال مديره.
سياق نشأة المسرح
بالنسبة إلى ما يقال ويحكى عن الناشطة اليهودية آرنا مير خميس أنها قررت عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) الانتقال للعيش في مخيم جنين، وهي توصف ممن يعرفها بأنها ثورية كرست حياتها للنضال من أجل الحرية، فأنشأت "بيت الطفولة" كي يعيش فيه الأطفال طفولتهم هرباً من الموت والدمار والتنكيل، الذي أصبح فيما بعد "مسرح الحجر" نسبة إلى سلاح الفلسطينيين في تلك الانتفاضة، أي الحجر؛ فقد رحلت في سنة 1994، ولم تشهد تدمير دبابات الاحتلال مشروعها المسرحي في مخيم جنين في أثناء الاجتياح سنة 2002، إذ عمد الاحتلال إلى تدمير معالم المخيم، وطمْس عوامل صمود أهله، بما في ذلك مؤسساتهم الثقافية.
كما لم يتوقف المسرح بعد رحيلها، لأن ابنها جوليانو مير خميس واصل ما بدأته والدته، وحمل على عاتقه رحلة النضال الثقافي، منتجاً فيلماً يوثّق نشاط والدته السياسي على الحواجز، ودورها الاجتماعي في الوقوف إلى جانب نساء المخيم وأطفالهن، وأثرها الثقافي في العمل المسرحي في مسرح الحجر، وقد أُطلق عليه اسم "أولاد آرنا" سنة 2003. وكخطوة إلى الأمام، قام جوليانو بترميم مسرح الحجر ليصبح "مسرح الحرية" في نيسان/أبريل 2006.
وساهمت صيرورة البناء والهدم التي عرفها المسرح في إعلاء صوته المنادي بالحرية عالمياً، وجابت مسرحياته العالم كله، وتحول المسرح إلى محج لكل الأحرار في العالم، وبات نموذجاً يُحتذى به للعمل المسرحي التحرري، لتجسيده واقع المعاناة الفلسطينية، متحدياً العراقيل التي يضعها الاحتلال في وجهه، بالإضافة إلى تردّي أوضاع القيادة السياسية وغياب الرؤية الواضحة، وهذا إلى جانب التحديات التي يفرضها المجتمع، إذ لم يوفر المسرح فرصة لنقد المجتمع والواقع الاجتماعي، وهو ما عرّض العاملين فيه للتهديد، وأحياناً تهديد جوليانو بالقتل، كما تعرض المسرح لمحاولة حرق في أكثر من مناسبة. وقد أفضت عملية مواصلة النقد وتحدي العراقيل الاجتماعية المتواترة إلى قتل جوليانو في نيسان/أبريل 2011 على يد مجهولين.
وبرحيل جوليانو، دشن العاملون في المسرح مرحلة جديدة، رفعوا فيها شعار مواصلة ما بدأه، وذلك عبر تقديم المزيد من المسرحيات الناقدة، وصارت رسالة المسرح تجوب العالم بأسره، وفحواها التوق إلى الحرية.
عندما يجسد المسرح واقع المقاومة الفلسطينية
يقول جوليانو، الذي يصف نفسه بالمقاتل من أجل الحرية: "إننا ننضم بكل الوسائل إلى النضال من أجل تحرير الشعب الفلسطيني، وهو نضالنا التحرري." كما يصف العمل المسرحي بأنه وسيلة من وسائل النضال، وأن المقاومة الثقافية تسعى لجعل الفرد الفعال مسرحياً منخرطاً في الحالة النضالية، وبالتالي يصبح فرداً مثقفاً وواعياً لما يحدث حوله، بمعنى جعل الثقافة والوعي غذاء صمود الفلسطيني. بينما يصف المدير الفني السابق لمسرح الحرية، وأحد مؤسسيه، نبيل الراعي، المسرح بأنه طريق للتغيير، بل هو طريقة حياة من أجل صناعة حياة. والحياة في قاموس الفن الفلسطيني هي العيش بكرامة والعتق من الاحتلال وصولاً إلى الحرية، ورفْض مشاريع الإبادة السياسية بتحويل الفرد إلى مغترب عن واقعه، لذلك يتكثف جهد المسرح في اتجاه تعزيز ثقافة الحياة، وهو ما يتم دفع ثمنه في الفترة الأخيرة بالمداهمة، تخريباً واعتقالاً، من جانب الاحتلال.
يغلب على المسرحيات التي ينتجها مسرح الحرية طابع تجسيد واقع المقاومة الفلسطينية؛ ففي سنة 2015، أنتج المسرح مسرحية "الحصار" التي جسدت حصار المهد سنة 2002. كما يرفض المسرح المِنَحَ والتمويل الأجنبي المشروط، لأنه يعي دوره وواجبه ورسالته.
ولعل أبرز التحديات التي تواجه الثقافة والفن في المجتمع الفلسطيني الاعتقاد أن دورهما مكمل وليس تأسيسياً، وهذا الفهم المغلوط ناتج من تردي النشاط الثقافي استكمالاً لتردي الحالة السياسية، لينتج من ذلك، في نهاية المطاف، تقييد الفرد الذي لا يملك حرية قراره بالانخراط في الحالة الثقافية والفنية باعتبارها بعيدة عن الواقع. يشير الراعي، في هذا السياق، إلى وجود مسؤولية ثقافية ملقاة على عاتق المسرح، إذ يتوجب "أن تنطوي الأعمال الفنية على ما يساعد في نشر الوعي وطرح الأسئلة لإثارة الجدل، والمساهمة في دور حقيقي لتغيير الواقع السياسي والاجتماعي، وبالتالي تشكيل أرضية جديدة لجيل يؤمن بدور الثقافة والفن، ويؤسس لمجتمع حر ومفكر جاد من أجل الوصول إلى الحق والحقيقة." ويضيف: "مسعانا الحقيقي هو تحويل الفن والثقافة إلى حالة من حالات المقاومة، وأن نجعل الفن والثقافة سلاحاً نقاوم به وعن طريقه، وليس بطرح المقاومة الثقافية بديلاً، بل كجزء من حالة المقاومة العامة." هكذا يرى نبيل الراعي مفهوم المقاومة الثقافية؛ بصفتها حالة مكملة لحالة المقاومة العامة، وليس بصفة النشاط الثقافي حالة مقاومة مغتربة. كما يشير أيضاً إلى أن المقاومة الثقافية توضح النضال، مستشهداً بقول للأسير والقائد زكريا الزبيدي: "السلاح الذي لا يحمل ثقافة هو سلاح مشبوه."
إن مخيم جنين، باعتباره حالة مميزة في المواجهة والاشتباك الفعال مع الاحتلال، أنشأ نموذجاً ملهماً لباقي مخيمات الضفة الغربية ومدنها، وخصوصاً في إثر هروب الأسرى الستة من سجن جلبوع في أيلول/سبتمبر 2021، وهو ما دفع الاحتلال إلى محاولة كسره، إذ راح يلاحق كل فعل مقاوم فيه وصولاً إلى معركة "طوفان الأقصى"، فصعّد جيش الاحتلال من عدوانيته تجاه مخيم جنين، وراح يلجأ إلى تدمير معالمه وتخريبها، ومنها طبعاً مسرح الحرية، الذي تم تدمير محتوياته في 12 كانون الأول/ديسمبر 2022.
إلى الأمام .. خطوات لا تتوقف
على الرغم مما يتعرض له المسرح على يد الاحتلال، فإنه يمضي في رسالته، ويواصل العاملون فيه جولاتهم حول العالم لعرض مسرحية "مترو غزة" التي أنتجها المسرح قبل أعوام، والتي تناولت قصة شاب فلسطيني يحلم بالذهاب من جنين إلى غزة باستخدام المترو، في ظل واقع يحول دون تحقيق ذلك. كما يستعد المسرح لإنتاج المسرحية المكتوبة من داخل الأسر للمفكر والأسير وليد دقة "الشهداء يعودون إلى رام الله"، والتي يتحدث فيها عن قضية الأسرى الذين يحتجز الاحتلال جثامينهم.
يقول الشهيد باسل الأعرج: "بدك تكون مثقف؟ بدك تكون مثقف مشتبك"، والاشتباك هنا معناه الانخراط في الواقع عبر تجسيده، وما يقوم به مسرح الحرية هو الاشتباك الثقافي الاجتماعي، بما يشكّل ثقافة مشتبكة لا مغتربة عن الواقع.