يأتي إلغاء متحف إسكنازي للفنون في جامعة إنديانا فجأة لمعرض استعادي للفنانة الفلسطينية سامية حلبي (87 عاماً) كنوع من الرقابة السياسية التي بدأت الأوساط الأكاديمية والفنية في الولايات المتحدة الأميركية انتهاجها بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، وذلك رضوخاً للممولين وأجنداتهم السياسية الداعمة لإسرائيل.
وقد جاء إلغاء معرض حلبي، وهو معرضها الاستعادي الأول في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعيش منذ خمسة عقود، بصورة فجائية، بعد أن كان مقرراً أن يُفتتح في 10 شباط/فبراير هذا العام. وأمضت الفنانة ثلاث سنوات في العمل على هذا المعرض بالتعاون مع متحف جامعة إنديانا، بما في ذلك استعارة أعمالها من المتاحف في مناطق متعددة من الولايات المتحدة الأميركية وشحنها إلى قاعة المعرض في متحف الجامعة، ليتم إلغاؤه قبل أيام قليلة من افتتاحه.
وتتبع حلبي الأسلوب التجريدي في لوحاتها التي تتميز بالألوان الزاهية، فضلاً عن استخدامها بكثرة الأشكال الهندسية، وتأتي أعمالها كسلسلة من الدراسة أو التجريب على الشكل واللون المجرد، مع محاولة تجسيد الواقع في مسعاها المستمر لتطوير فهم أعمق للفن التجريدي. ولم تكن لوحات حلبي سبب إلغاء المعرض، على الرغم من إطلاقها عنوان "انتفاضة عالمية" على إحداها، إذ كانت الجامعة قد أصدرت مجموعة من المواد الترويجية قبل بضعة أشهر بشأن المعرض، وكان ذلك قبل طوفان الأقصى، مدح فيها مدير المتحف أسلوبها التجريبي، وافتخر بكون الجامعة تنظم معرضاً من هذا الشكل في حرمها.
ولم تَهَبْ حلبي إبداءَ رأيها السياسي خلال مسيرتها المهنية الطويلة، فهي التي رأت مسارها بوضوح، وحاولت بصورة مستمرة أن تدعم قضية شعبها وحلمه في التحرر عبر فنها، وعبّرت في مختلف المناسبات عن آرائها، وشاركت في إنتاج ملصقات سياسية ولوحات تتناول هموم شعبها، وكان آخر ما أنتجت في هذا الصدد كتاب "رسم مجزرة كفر قاسم" سنة 2016، والذي كتب مقدمته التاريخية المؤرخ سلمان أبو ستة، وقدمت حلبي في الكتاب مجموعة من الرسومات بألوان فحم وأقلام رصاص وأكريليك على قماش وورق من مخيلتها، توثيقاً لمجزرة علقت في ذهنها منذ الصغر، وتكريماً لشهدائها بالاستناد إلى بحث ميداني أجرته على الأرض.
وقد أُلغي المعرض في رسالة سريعة اتخذتها إدارة الجامعة خلف الكواليس، من دون تقديم أي تفسيرات. وفي مقابلة مع جريدة "النهار" اللبنانية، تقول حلبي أنها تلقت في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2023 مكالمة هاتفية من ديفيد برينمان، مدير المتحف، أخبرها فيها عن قلق بشأن منشوراتها على إنستغرام، والتي تنتقد فيها الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في غزة، لكنها استاءت من طرحه، ولم تعطه مجالاً لنقاش منشوراتها، وقالت: "هناك مجزرة تحدث في غزة، وأنا فلسطينية ومتألمة من الموضوع ومن الطبيعي أن أنشر منشورات ناقدة."[1] بعد هذه المكالمة الهاتفية، تلقت حلبي رسالة إلكترونية من جملتين تبلّغها إلغاء المعرض رسمياً، وقال ناطق باسم الجامعة في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" لاحقاً إن المسؤولين في الجامعة ألغوا المعرض نتيجة مخاوف بشأن ضمان أمن وأمان المعرض خلال فترة عرضه،[2] على الرغم من أن المعرض لم يتلق أي تهديد.
إسكات الصوت الفلسطيني في الجامعات الأميركية
يقال في الكواليس إن القائمين على الجامعة خضعوا لضغوط سياسية وتمويلية من أجل إلغاء المعرض، فمجرد افتتاح معرض لفنانة فلسطينية في هذا التوقيت من شأنه أن يخالف ما ترغب فيه المؤسسات الصهيونية من إسكات وترهيب ومحافظة على رأي مساند لإسرائيل في المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة. وتشير حلبي إلى أنه تناهى إلى أسماعها أن متنفذاً في الحكومة اتصل بالجامعة، وهدد بسحب تبرعاته إذا ما استمر المعرض، مضيفة أن هناك معلماً فلسطينياً عمل معها في الكلية، وطُرد منها مؤخراً، في إشارة إلى تنامي العنصرية التي تستهدف الفلسطينيين في الجامعة.
وقد خضعت جامعة إنديانا، كغيرها من الجامعات الأميركية، لضغوط ضمن هذه الحملة؛ ففي تشرين الثاني/نوفمبر، هدد جيم بانكس، ممثل إنديانا في الكونغرس عن الحزب الجمهوري، بأن الجامعة ستخسر التمويل الفدرالي إذا لم تعالج موضوع معاداة السامية في الحرم الجامعي، أو إذا تسامحت معه.[3] وكما رأينا مؤخراً، أن الحملة الموجهة ضد الجامعات الأميركية نجحت في دفع رئيسة جامعة هارفرد إلى الاستقالة، وكذلك رئيسة جامعة بنسلفانيا، وتم تعيين رئيسين جديدين بدلاً منهما، بتوجهات متضامنة مع إسرائيل وقامعة للأصوات المتضامنة مع فلسطين والمجازر في غزة.
تقول حلبي: "الخسارة بالنسبة إليّ هي إحدى الخسارات العديدة التي واجهتُها في حياتي كفلسطينية. وهذه إحدى المشكلات الصغيرة، فهناك متاحف أهم كثيراً من متحف جامعة إنديانا." لكنها أصرت على أن تمضي في المعركة إلى أبعد حد، فكتبت رسالتين إلى مديرة الجامعة باميلا ويتن، في محاولة لثني الجامعة عن قرارها، إلاّ إن ويتن لم تُجب، فتقول حلبي: "أحاول الضغط لإعادة المعرض، لأن القرار يجب ألاّ يكون بين أيديهم."
من هي سامية حلبي
ولدت سامية حلبي في القدس سنة 1936، وتهجرت وعائلتها إلى بيروت خلال نكبة 1948، قبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة مع عائلتها سنة 1952 وتستقر هناك. وقد درست في جامعة ميشيغان، وحصلت على درجة الماجستير من جامعة إنديانا في سنة 1963، وهي الجامعة نفسها التي ألغت معرضها، وكانت أول امرأة تشغل منصب أستاذ مشارك في كلية ييل للفنون.
عملت حلبي في الفن الرقمي منذ الثمانينيات، وتوجد أعمالها في متحف الغوغنهايم في نيويورك وغاليري جامعة ييل، والغاليري الوطني للفنون في واشنطن، ومعهد شيكاغو للفن، ومتحف كليفلاند للفنون، ومعهد العالم العربي في باريس، ومعهد ديترويت للفنون، ومتحف سينسيناتي للفنون، ومتحف إنديانابوليس للفنون، والمتحف الوطني للمرأة في الفنون، ومتحف ميد للفنون، والمتحف العربي للفن الحديث، والمتحف البريطاني.
واستأنفت جهودها لإعادة المعرض عبر نشر عريضة طلبت فيها من المهتمين التوقيع للتوجه علناً إلى دعم طلب إعادة المعرض، وتقول العريضة: "لقد حُرم مجتمع الجامعة، بما في ذلك الطلبة وهيئة التدريس والموظفون الخريجون، بالإضافة إلى منطقة بلومنتجتون وإنديانا، المعرض... وستظل جدران المتحف عارية لأكثر من ستة أشهر... في غياب أي رد من الإدارة، ومن الواضح أن الجامعة تلغي العرض لتنأى بنفسها عن قضية حرية فلسطين... وبدلاً من استغلال هذه اللحظة لإظهار التضامن مع فنانة مهمشة، اختارت إدارة جامعة إنديانا إسكات فنانة فلسطينية تبلغ من العمر 87 عاماً."
وتستمر حلبي في استئناف الالتماس لتنظيم معرضها، كما يستمر جميع الفنانين الذين تم إلغاؤهم من المتاحف وقاعات العرض والبيناليات في الولايات المتحدة وأوروبا في المحاولة لإيجاد مساحة حرة تحتمل النقد. ومن الموضوعات الجديدة التي يطرحها الفنانون الآن، وخصوصاً أولئك الذين لا يهابون اتخاذَ مواقف جريئة ضد الإبادة الجماعية في غزة، هو "كيف يمكن إيجاد شبكات تمويل ذاتية تحررية تنصف الفن والفنان، وتعزز حرية التعبير عن القضايا الإنسانية، من دون أن تخضع لقيود الممولين والمؤسسات الأكاديمية والفنية التي لا تحتمل النقد.
[1] صحيفة "النهار" اللبنانية، فيديو على إنستغرام، 11 كانون الثاني/يناير 2024.
[2] Erik Schreiber, “Indiana University art museum cancels career retrospective of Palestinian artist Samia Halaby”, ICFI, 14/1/2024.
[3] Jeffrey C. Isaac, “Congressman Jim Banks’s Pressure on Indiana University to Police Antisemitism Is Duplicitous and Dangerous”, The Nation, 29/11/2023.