هوامش في غزة
Joe Sacco
New York: Metropolitan Books, 2009. 418 pages.
خلال العدوان الحالي على قطاع غزة، ارتكبت قوات الاستعمار الصهيوني وما زالت ما يزيد على 1000 مذبحة راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين. ومع أن هذه المذابح ليست سوى أرقام في تقارير أُممية أو محلية، إلّا إنها آلاف من قصص الدموع والألم والوجع والحزن والحياة بتفصيلاتها كافة. وكتاب جو ساكو "هوامش في غزة"، الذي قدَّم له إدوارد سعيد، هو نموذج مغاير من الإنتاج الصحافي الروائي الذي يوثِّق هذه المذابح بزمنها القبلي والبعدي. فلكل مذبحة ومأساة نصيب من الرواية التي تحمل تفصيلات حياة ليس فقط في أثناء الحدث، حدث القتل والإعدام وإنتاج الموت، بل أيضاً ما قبله وما بعده من وجود إنساني.
بدأت حكاية الكتاب عند ساكو خلال قراءته لتوثيق في الهامش في كتاب "المثلث المحتوم" لنعوم تشومسكي مأخوذاً من وثائق الأمم المتحدة بشأن مذبحتَي خان يونس ورفح اللتين حدثتا في تشرين الثاني / نوفمبر 1956. ويشير الهامش إلى أنه استشهد في المذبحتين 386 فلسطينياً مثلما تفيد الأمم المتحدة، إذ استشهد في مذبحة خان يونس 275 فلسطينياً، و111 في مذبحة رفح. وكان هذا الأمر هو دافع ساكو إلى إعادة هذه الحادثة إلى الحياة، وكشف حقيقة ما حدث، كي لا يطويها النسيان. ولهذا قرر الذهاب إلى غزة لمعرفة تفصيلات تلك الحادثة التي لم يتم تغطيتها إعلامياً، ولم تنل اهتماماً دولياً بشكل كافٍ، ولم يجرِ توثيق حقيقة ما حدث، وإنما جاءت كخبر هامشي في سياق حرب السويس في سنة 1956.
هذه المذبحة التي يتناولها ساكو في كتابه، لم تحدث خلال الحرب الحالية على غزة، ولا تلك الحروب التي شُنّت على غزة خلال العشرين عاماً الأخيرة، أو خلال الانتفاضة الأولى أو الثانية، وإنما وقعت في سنة 1956 في أثناء العدوان الثلاثي على مصر. فقد قامت قوات الاستعمار الصهيوني بمهاجمة قطاع غزة بشكل مستمر ودموي، وأعدمت مئات من الفلسطينيين في المنازل والمدارس والساحات العامة. ومنذ سنة 1956 حتى سنة 2023 صارت غزة هي المذبحة المستمرة، كأن فلسطين وقطاع غزة بالتحديد هما المكان المثالي لارتكاب المذابح في حقّ البشرية. كأن الزمن لا يتبدل، وكأن زمن الآلة الاستعمارية هو زمن مغاير، زمن لا يتحرك بل يتكرر بأحداث الألم والقتل الاستعماري، وما يتغير فقط هو تقنيات آلة القتل وطريقتها. فبدلاً من صفّ الناس وإطلاق الرصاص عليهم بشكل مباشر، تبدَّل الأمر بقصفهم بأحدث القنابل والصواريخ والآليات الحربية.
وقعت مذبحة خان يونس في 3 تشرين الثاني / نوفمبر 1956، إذ صُفّ الناس في الساحة العامة وأُعدموا بشكل مباشر، بينما وقعت مذبحة رفح في 12 تشرين الثاني / نوفمبر، واستمرت على مدى يوم كامل استدعى فيه الجنود الصهيونيون الناس والشباب تحديداً إلى المدرسة للتجمع هناك، وذلك لمعرفة مَن هم من المقاتلين والجنود. وقد استشهد العديد منهم بالضرب والرصاص في ساحات المدرسة، بينما استشهد آخرون في شوارع المدينة وهم متجهون إلى المدرسة، أو حتى وهم في بيوتهم. لم تكن غزة، لا في بيوتها ولا ساحاتها ولا مدارسها ولا مستشفياتها ولا دور عبادتها، آمنة في الحرب الحالية ولا خلال العقدين الأخيرين، وإنما منذ أكثر من 67 عاماً، وما زال الفلسطيني يموت في كل مكان وزمان على امتداد عقود الاستعمار.
سبعة أعوام تقريباً مرّت وساكو يعمل على إصدار الكتاب الذي تضمّن: التحقيق الصحافي لنحو شهرين ونصف شهر في مقابلة الناجين من المذبحة في رفح وخان يونس والشاهدين عليها، وزيارة أرشيفات الأمم المتحدة في نيويورك، إلى جانب مختلف الأرشيفات الصهيونية. وقد أنتج ساكو رواية المذبحة وقصتها عبر رسم غرافيكي (كاريكاتوري) كشهادة حية ومرئية عن المذبحة التي طواها النسيان، أعاد من خلالها رسم وجوه مَن استشهدوا وأُعدموا بدم بارد، وتلك الوجوه التي كانت شاهدة على المذبحة، كأنه أعاد غزة في خمسينيات القرن الماضي إلى الحياة، ليس فقط بناسها، بل بفضائها ومعمارها. ومع أن ساكو قابل إسرائيليين كان لهم علاقة بالمذبحة، إلّا إنه لم يقابلهم ليسمع وجهة نظرهم بحسب تلك المدرسة الصحافية التي تقول بضرورة سماع وجهات النظر المتنوعة، وإنما لاستجوابهم وكشف دوافعهم إزاء إقدامهم على المذبحة. ساكو لا يسعى لإيجاد تبرير للجريمة، ولا يساوي بين الجلاد والضحية، بل يحاول الكشف عن كيفية إقدام هؤلاء على ارتكاب تلك المذبحة.
إن ما أراد ساكو قوله في هذا الكتاب، وهو الذي كان يغطي أخبار انتفاضة الأقصى مع زميلة كريس هيدجز لـ "مجلة هاربر"، هو أن فهم الحاضر لا يمكن أن يكون بمعزل عن فهم الماضي، وأن فهم ما حدث في الماضي هو فهم للحاضر وللمستقبل، وأن التغطية الصحافية الأصيلة هي تلك التي تقيم الصله بين الماضي والحاضر، ولا تكتفي فقط بفهم الحدث الجديد كأنه لحظة البداية، لأن التاريخ وأحداثه، وإن كانت الصحافة أو المعرفة قد أغفلتاهما، يحتويان في ثناياهما على بذور ما يحدث اليوم. فالغضب والحزن اللذان ينغرسان في نفوس الضحايا هما اللذان يعملان على صوغ الحاضر والمستقبل، كما أن الاهتمام بالماضي هو ضرورة للحاضر والمستقبل.
إحدى الشخصيات الرئيسية التي يذكرها ساكو في كتابه هو الشهيد عبد العزيز الرنتيسي الذي كان شاهداً على مذبحة رفح وهو في سن العاشرة، وكان عمه قد استشهد فيها، ويقول إن الصهيونيين زرعوا فينا الحقد والكره. الرنتيسي الذي كان لا يزال في صباه شاهداً على المذبحة، كبر وأصبح من قيادات المقاومة الفلسطينية، واغتيل واستشهد وهو في عمر السابعة الخمسين، فكم من قيادات للمقاومة ستولد اليوم ممّن استشهد أهلهم وأحباؤهم أمام أنظارهم في هذه المذابح والإبادة المستمرة؟ وأي مستقبل سيكون لهذا الكيان الاستعماري بعد الحقد والكره اللذين زُرعا في وعي أطفال فلسطين وقلوبهم؟
لم يتغير الواقع كثيراً بالنسبة إلى مشهد الموت الاستعماري منذ سنة 1956، لا على رفح ولا على خان يونس ولا على غزة ولا على فلسطين كلها، فآلة القتل الاستعماري ما زالت تستبيح دم الفلسطيني، وتنتقل من مذبحة إلى أُخرى، ومن إبادة إلى أُخرى. كما أن ضحايا الاستعمار لا يزالون يُذبحون بالآلاف وعلى مرأى العالم ومسمعه. وربما تحتاج فلسطين إلى آلاف من أمثال ساكو بطريقته وأسلوبه كي تصبح قصة المذبحة رواية مصوّرة، وذلك كي لا ننسى الألم، بل كي يكون هذا الألم هو طريق العبور الجديد إلي فلسطين.