تحرير العقل الفلسطيني
Decolonizing the Palestinian Mind
Haidar Eid
New Delhi: Left Word Books, 2023. 105 pages.
هذا الكتاب الأخير لحيدر عيد، يُعدُّ تأملاً ملائماً في ثقافة تحرير الفلسطينيين وسياستهم. فالمؤلف يستعير من الروائي والمنظّر الكيني نغوغي وا ثيونغو (Ngũgĩ wa Thiong'o) صرخة المعركة في العنوان ليشكّل مقولته السياسية في الكتاب، مؤكداً أن المواجهة الحقيقية مع نزع الاستعمار عن العقل الفلسطيني يجب أن تكون الخطوة الأولى نحو إقامة مخيال سياسي جديد.
وباستثناء تزويدنا بمقدمتين عميقتَي الأثر، يتضح بشكل جليّ أن عيد كتب العديد من فصول هذا الكتاب قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، فهو يحلل على امتداد الكتاب الحروب المستمرة على غزة (2009؛ 2012؛ 2014؛ 2021)، الأمر الذي يقدّم منهجاً واضحاً لقراءة ما يحدث في سنة 2023 أيضاً. إن مقدمات عيد تتحدث عن رعب الإبادة الجماعية، إذ يكتشف القارىء أن "الرجل الخارق في هذه المجازر"، و"أول شبح منتحب في التاريخ"، هما الصوت الشعري لعيد ككاتب وناقد ينجو من التاريخ.
تقدّم فصول الكتاب مع مقدمته وخلاصته تحليلاً موجزاً للسياسة الفلسطينية، فهي موجهة داخلياً إلى الجمهور الفلسطيني، وخارجياً إلى الجمهور العالمي، وذلك لإعادة تعريف التضامن مع قضية فلسطين وشعبها. وتُعتبر حجة عيد لإقامة دولة علمانية ديمقراطية في فلسطين مزيجاً فريداً من نقد الانحراف السياسي الفلسطيني المعاصر، وتذكيراً رهيفاً بتاريخ أُممية القضية الفلسطينية، ودعوة إلى إعادة إنشاء حركة تحرر سياسي بناء على كليهما.
إن مفهوم "نزع الأوسلوية" (De-Osloization) الذي يطرحه عيد هو خطوة أولية في عملية تحرير العقل الفلسطيني. وهو بهذا يضيف صوته إلى العديد من الأصوات الفلسطينية، وخصوصاً إدوارد سعيد الذي وصف عملية أوسلو بأنها كارثة سياسية وثقافية لفلسطين. أي أن "أوسلو" أدّت إلى أزمة تمثيل من خلال إنشاء بُنى حاكمة تخدم "السيد الاستعماري" واحتلال المستوطنين، ضد إرادة الأغلبية من الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن السياسة التي نتجت من أوسلو تحولت إلى طريقة للتفكير والوجود مخترقة المخيال الجمعي للفلسطينيين بشكل مباشر. ويؤكد عيد أن مهزلة "أوسلو" جاءت بكارثة ثقافية، إذ قدّمت "النخبة المتواطئة" حجاباً من دون محتوى للدولة الفلسطينية المستقلة (مستحيلة التحقّق) داخل النموذج الثنائي للدولتين. إن ما يصفه عيد ببراعة بأنه "حل السجنَين" هو نتيجة ثلاثة عقود من التنازل، وإن "نزع الأوسلوية" ليس تفكيكاً للمعرفة في المعنى ما بعد الاستعماري، وإنما تطهير للبُنية السياسية الفلسطينية والعقل الجمعي عبر ما نعنيه بنزع الاستعمار.
يستحضر عيد روح العالم الثالث التي كانت تحتضن منظمة التحرير الفلسطينية، وتردد عبارة: "حقوق الفلسطينيين الأساسية التي لا يمكن التفاوض بشأنها." ولتمهيد الطريق للخروج من "السجنَين"، يكرر المؤلف أيضاً ما أصبح معروفاً به، كونه من أبرز مؤسسي وداعمي "حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (BDS) وكعضو أساسي ومؤسس لـ "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" (PACBI)، مستشهداً بالمطالب الثلاثة (الحرية والمساواة والعدالة) لحركة المقاطعة كمبادىء أساسية لنزع الاستعمار عن العقل والقضية. كما يذِّكر عيد القرَّاء عن طريق تقديم تحويلة معاصرة لمبادىء منظمة التحرير الفلسطينية، بأن النهج القائم على الحقوق في حل القضية الفلسطينية من خلال حركة المقاطعة ليس جديداً بشكل فعلي. وهنا، يكون الماضي حاضراً، عندما يصف عيد آفاقاً سياسية لفلسطين تتجاوز حل الدولتين وتعود إلى فكرة دولة واحدة: "فإن هذه الدولة العلمانية الديمقراطية ستتأسس بعد تفكيك النظام المتعدد الطبقات والمعتمد على القمع ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وهذا الحل يضمن المساواة السياسية بغضّ النظر عن الخلفيات الدينية والعرقية" (ص 18).
علاوة على استمرارية فترة ما قبل سنة 1974 في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية، يشرح لنا عيد أيضاً أن هناك عودة ثانية في رحلة نزع الاستعمار، وهي العودة إلى أفكار وأفعال "المؤتمر الوطني الأفريقي" (ANC) في جنوب أفريقيا، والحركة العالمية المناهضة للفصل العنصري. لقد درس عيد في جنوب أفريقيا وعاش فيها، وشهد وشارك في الحركة العالمية لإسقاط نظام الفصل العنصري فيها، ويقول لنا: "هذه هي خلفيتي، أن أعيش تجربة الفصل العنصري مرتين"، الأمر الذي يمنحه منظوراً فريداً في الاستخدام المفاهيمي لـ "الفصل العنصري" (ص 26). ومن خلال تأطير استخدام مفهوم الفصل العنصري في كلمات وأفعال الباحثين والناشطين الفلسطينيين الذين سبقوا كثيراً المنظمات الإسرائيلية والدولية بهذا الاستخدام، يشرح لنا عيد أن "الفصل العنصري الإسرائيلي [....] هو كلمة مبهمة تُستخدم لوصف نظام قمع متعدد الأشكال، ينكر إنسانية الفلسطينيين الأصلانيين" (ص 18). ومن اللافت أن عيد يمنح عدسة أوسع للاستخدام السياسي والقانوني والمفاهيمي لـ "الفصل العنصري"، مع إضفاء صوته القوي للحركة العالمية التي تستخدم كلمتَي "الاحتلال" و"الفصل العنصري" بشكل متلاعب ضمن إطار أوسع للاستعمار الاستيطاني.
يوضح عيد أننا "كأننا نعيش في دولة تفتح ممرات إلى عوالم جديدة خارج الجدران التي أقامتها دولة الفصل العنصري إسرائيل وسياساتها الوحشية وغير الإنسانية." وعلى شاكلة مفهومه لـ "نزع الأوسلوية"، يستعير عيد مصطلح "اللا - مشاركة" (Dis-Participation) لتأكيد الحاجة إلى رفض سياسة أوسلو وثقافتها. إن تشخيصه للأحزاب السياسية الحالية التي لا تزال مشاركة في سياسة السلطة الفلسطينية ينطبق أيضاً على الاقتصاد السياسي الذي يتبع هذه السلطة. أي أن اللا - مشاركة وفقاً لعيد، هي رفض هذا النظام للبحث بعدها عن البدائل الممكنة. وهذه الرؤية البديلة هي الهدف النهائي لمداخلة عيد السياسية، وهي دولة علمانية ديمقراطية.
وعلى الرغم من الدراية الكافية بالمشكلات المستمرة في جنوب أفريقيا، فإن عيد يشرح أن على الفلسطينيين استخلاص الدروس من حركة مكافحة الفصل العنصري والدولة التي نشأت بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ويشير إلى ضرورة عدم استخدام نهج "النسخ واللصق" في فلسطين. ومع ذلك، فإن عيد ملتزم ببديل ديمقراطي يجب أن يشمل "انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني بعد إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أساس الديمقراطية الحقيقية لضمان تمثيل حقيقي لجميع الفصائل الوطنية والإسلامية" (ص 70). ووفقاً لعيد، فإن هذا البديل سيعيد التمثيل لمجمل السلك السياسي الفلسطيني، بما في ذلك تمثيل الفلسطينيين في الشتات.
ومع أن عيد يقدّم بعضاً من السياق التاريخي الطويل للحالة الكارثية الحالية، غير أن تركيزه على أوسلو وسياسة الفلسطينيين وثقافتهم بعد أوسلو، يتجاهل القصة الأطول. ففضلاً عن أنه محقّ بشأن الكوارث التي أحدثتها أوسلو، إلّا إنه لم يستكشف تماماً المسار التاريخي الممتد على مدى قرن كامل، والذي كان موازياً في الدمار السياسي والثقافي على حد سواء. إن التعمّق في السرد التاريخي الأطول للحل القائم على الدولة يكشف أن بُنية الدولة القومية الحديثة والهرمية السمة، حتى تلك القائمة على الديمقراطية التمثيلية، قد أدت إلى إحداث تشويش في ممارسة التحرر الفلسطيني. ومن المؤكد أن الفلسطينيين اليوم بحاجة إلى استكشاف الممارسات الديمقراطية التشاركية ضمن نهج أفقي، لكن نظراً إلى هذا التاريخ الطويل، ربما يكون حصر هذه الممارسات داخل بُنية الدولة القومية هو بمثابة كارثة أُخرى. ومع ذلك، فإن صرخة عيد في ثنايا هذا الكتاب تجلب إحساساً بضرورة إعادة النظر في الرؤية التحررية لفلسطين، مع إدراج شامل لأصوات الشعب الفلسطيني بأكمله ومطالبه كافة.