جمعة، خالد. "عن أصدقائي الشهداء" (بالعربية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

عن أصدقائي الشهداء

خالد جمعة

عمّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2020. 200 صفحة.

 

هذا الكتاب هو مجموعة مقالات يُخرج فيها المؤلف المقاومة من سخافة تصنيف أفعالها إلى "مسلحة" و"غير مسلحة"، ويعرّفها ضمنياً بالقبض على الزمن الخاص، أو مثلما يسميه وليد دقّة "الزمن الموازي"، أي الزمن الحقيقي الذي تعيشه مع الحرية بغضّ النظر عن المصائر والأدوات، وهو ليس الوقت نفسه الذي يمضي تحت مشيئة الاستعمار. فالمقاومة تعني ألّا تعيش في زمن غير زمانك، كي لا يكون سهلاً أن تعيش في غير مكانك.

يعلن خالد جمعة، في مقالته المعنونة "ثقافة الموت، وثقافة المقاومة"، أنه تبنّى المقاومة منذ طفولته، ويرفع صوته عالياً في التعبير عن انتمائه إلى حياة الإنسان الفلسطيني بأفراحه وأحزانه. ويدافع عن هذا الفهم الاشتراكي للمقاومة بحسب معادلة: "إذا كان قدر الفلسطيني مواجهة الموت، فمن البديهي أنه يواجهه بالحياة."

يميز جمعة المقاومة من الأنماط السلوكية التي تتحكّم في مختلف مناحي الحياة، فصورة الوطن لديه تستطيع أن تجمع سامر العيساوي ومحمد عساف في إطار واحد، ويحتجّ على مجّانية الموت، وعلى اختصار الحكاية ببضع كلمات بالية لوصف البطل. ويأخذ جمعة شرعية موقفه من علاقات مباشرة مع أبطال أسطوريين عرفهم خلال حياته، فهو لا يتعامل مع روايته عنهم بمفهوم الحق، وإنما بمفهوم الواجب، فيعرّف القارىء بحياة المقاومين عن قرب، وبمعنى الالتحام مع فوهة البندقية، وكيف تكون النجاة احتمالاً ضعيفاً في مواجهة الدبابة.

يتحدث جمعة عن المقاتلين، وعن بشاشتهم ونضارة وجوههم، وصمتهم وقلة ثرثرتهم. يتحدث عن بسالتهم وشجاعتهم وجمالهم، وعن فداحة الخسارة في حالتين: الأولى، أن نضال هذه الأرواح النقية مكشوف الظهر وفقير الإمكانات، الأمر الذي يتسبب بموتهم أمام عواصف الرصاص من أسلحة المنظومة العنصرية، والثانية، أن نخسر ثقافة المقاومة، وأن يختفي هؤلاء الرائعون لأن الأجيال المقبلة لا تؤمن بجدوى المقاومة.

يحاول جمعة أن يصوِّر الحياة في ظل المقاومة على الرغم من قسوتها، فهي على الوجه الآخر اتصال نفسي واندماج بديهي مع الزمان الطبيعي للإنسان. فأنت لا تشعر في ذلك الزمان بإضاعة الوقت وأنت تعمل تطوعياً عاماً كاملاً من أجل جمع تراث البحارة والصيادين، بهدف إخراجه في عمل فني يستطيع الناس أن يتلمّسوا في أدق تفصيلاته الروح الجماعية المناضلة. ويستند جمعة في مرافعته عن شرعية النظرية، إلى حياته الشخصية وعلاقاته الخاصة، وإلى أصدقائه ومعارفه الذين استشهدوا في ظروف متنوعة وأزمنة مختلفة، لكنه لا يرى اختلافات في قصتهم الجماعية، وإنما يلتقط من كل حكاية شواهد على إنسانية هؤلاء الناس، وصدقهم، وإشراقهم، وشجاعتهم.

وأنت بعد كل قصة يعلق في خيالك فيلم قصير يحمل اسم الشهيد باسل اليازوري الذي تشتاق إليه مثل جوع صباحي، فضحكته رائعة، وتراه يكتب على الجدران ويشارك في التظاهرات، ويسافر ويُعتقل بسبب انتمائه إلى الجبهة الشعبية، ويحمل "البنانير" (الجلول) في جيبه من أجل "النُّقِّيفة" التي يبرع في استخدامها. وستتذكر مشهد المقبرة ووجه الطفل الذي يحمل ملامح خاله الشهيد، ثم عودة الكاتب محطماً إلى الزنزانة، وبكاء أخت الشهيد عند سماعها خبر استشهاده.

يتقمص الكاتب في داخل القصص عدة شخصيات، فهو مرة الشاهد، ومرة أُخرى الحكواتي الذي يقصّ على صاحب مطبعة الصور القديمة قصة علم الدين شاهين، وذلك خلال طباعته عدداً جديداً من صورة اشتهرت في غزة، وهي قصة الشهيد الموجود في كل مقاومة، وفي كل مواجهة. يحكي له عن يوم استشهاده حين حلق وجهه ورشّ عطراً وخرج واختفى، ويروي له مشهده الأسطوري وهو يحضن مركبة الجيش بذراعيه صارخاً: "بكفّي يا الله!" ليفتح الطريق أمام الشباب المطاردين للهرب.

ويتنقل جمعة في حكاياته بين أزمان متنوعة تصف حياة الإنسان في غزة، فيحكي كيف أنه في طفولته كان هناك رجل كبير كان يعطيه الحلوى و"البريزة" (قطعة عملة)، اسمه محمد العاجز، وأنه كان يقول خلال حديثه أنه لا يحب سيرة الفدائيين. لكن الطفل يتذكر مشهده بعد أن أفرغ الجنود في جثته (مليار رصاصة) اخترقت جسده كله. وهذا الطفل لم يقتنع بحديث الأهل عن الجنة والسعادة فيها، متسائلاً بشكل بديهي كيف يمكن لإنسان أن يكون سعيداً وهذا الرصاص كله مغروز في جسده؟ عرف جمعة بعد ذلك أن صديقه اغتال الحاكم العسكري بعد أن وضع عبوة في طريق سيارته التي طارت في الدخان، وتبعثرت ومَن فيها إلى أشلاء.

ويمر جمعة على حكاية نصر أبو شاور، وهو شاعر وعسكري وقائد في الأمن الوطني، كان يخالف ويرفض إخلاء الطريق للجيش، ومع ذلك يحب القراءة، ويزرع المعسكر بالورد، ويجيد لعب الزهر، لكنه استشهد برصاصة اخترقت رأسه بعد الاقتتال الداخلي بين "فتح" و"حماس". ويحكي جمعة أيضاً عن واحدة من أعقد التجارب الحسية بين المستشفى والمقبرة، وذلك في حكاية الشهيد أيمن زقوت. فيصوّر المعزّين وهم يذهبون ويعودون مع تضارب أنباء الاستشهاد، ويذكر تجربة الطبيب الذي أصيب بالجنون لأنه لم يجد الأجهزة والإبرة التي كانت ستنقذ حياة الفتى بعد إصابته برصاصة "دمدم" متفجّرة من ضابط عربي في جيش الاحتلال، ويصف المعركة التي دارت في بيت العزاء، وأغنية مارسيل خليفة التي صدحت ثلاثة أيام في خضم المواجهة.

ويروي جمعة أيضاً حكاية عن موته الشخصيّ الذي لم يتحقق لسبب غير منطقي، ويبدأها بحكاية هشام أبو حرب، وفوزي عيسى، وهما شابان ملثّمان كانا يكتبان على الجدران ثم يختفيان، فيفاجئهما جيش الاحتلال الذي يقتل أحدهما، بينما يهرب الآخر، فيلحقه الجنود ويقتلونه أمام عيون الكاتب وابن اخته. لحظة الاستشهاد والاندفاع إلى الموت مع بقاء الكاتب وابن أخته في قيد الحياة بأعجوبة، كأنها إجابة سهلة عن سؤال معقد هو كيف يشعر الشهداء في لحظة مواجهة الموت! من دون أن ننسى المعركة بعد ذلك لاستعادة جثمان الشهيد.

وتتلو هذه الحكاية حكاية استشهاد آخرين: فها هو المؤلف يحكي عن جمعة الهبيلة الذي تلقّى الرصاصة عن قائد وبطل في المخيم، ويروي قصة لولي أبو ضاحي ابنة الخمسة أعوام، والتي انفجر رأسها الصغير برصاصة مطاطية حين ذهبت لتشتري قطعة حلوى.

هذا الكتاب تصوير للحرب على غزة عبر مشاهد تختلط فيها الحياة بالموت في عزلة عصية على الكتابة، ومع ذلك، ومع كثرة الشهداء في الكتاب، فإنه ليس حكاية عن الموت، وإنما حكاية عن حياة مستحيلة حدثت وتحدث، مع أشخاص مستحيلين بسبب عاديَّتهم، يرسمون صورة عظيمة مستحيلة بخطوط بدائية وأقلام محطمة.

السيرة الشخصية: 

فارس سباعنة: شاعر وكاتب فلسطيني.