سلام لغزة
النص الكامل: 

معين بسيسو (1928 - 1984) 

أبدأت تُحصي أضلعك؟ 

يأتي الرصاصُ إليكَ

من كلّ الرياحِ الأربع،

يأتي الرصاصُ إليكَ

من كلّ الشَّبابيكِ التي فُتحتْ

على كلّ الرياحِ الأربعِ

كلُّ الجهات الأربعِ

الآنَ تعرفهم وتعرفُ أنَّ خيطَ معاويهْ

هو حبلُ مشنقةٍ بكفِّ معاويهْ

الآن تعرفهم وتعرفُ

أَنَّ أطفالَ المدارسِ

وحدَهم

في بيرزيتٍ

وحدَهم

في قرية منسيَّةٍ

كلُّ العربْ.

الآنَ تعرفُ أنَّ شوكَ الكفِّ

شيءٌ غير عشبِ الأرضِ

تعرفُ أنَّ غزَّةَ

غير أشباح المدنْ

الآنَ تعرفُ أنَّ شبَّاَكاً صغيراً

من ترابِ الأرضِ

مفتوحاً لوجهكَ

وحدَهُ

ستُطلُّ منه على الوطنْ

الآنَ تعرِفُ أنَّ للسكِّينِ

فُرصتها

وصورتها

وللقربان فرصتهُ

وصورتهُ

الآنَ تعرفُ أنَّ منشوراً

بحجم الكفِّ

مكتوباً برمشِ العينِ

في نابُلْسَ

أبقى من جرائدهم مُطرَّزَة

بأسلاكِ الذَّهبْ.

الآنَ تعرِفُ أنَّ هذا الصَّمتَ

ذا الأشواكِ

من شِيَمِ العربْ

الآنَ تعرِفُ أنَّ صمتكَ

لم يكن ذَهباً

ولا خَشباً

وأنَّكَ حين تَصْمتُ

يَصعدوُنَ إلى فَمِكْ.

أَبَدأتَ تُحصي أضلُعَكْ؟

كم من ضُلوعكَ، والحصارُ يضيقُ،

قد وقَفَتْ مَعَكْ؟

الآنَ تَعرِفُ أنَّ للدَّورانِ

قانوناً

كما للقمح طاحوناً

وتعرِفُ أن قمحهمُ ذبابْ

وأنَّ خبزهمُ سرابْ. 

الآنَ تعرِفُ أنَّ كفّاً

صافحوك وبايعوك بها

أصابعها مساميرُ الصَّليبْ 

النَّحلُ ملءُ الأضْلُعِ

تأتي إليكَ النَّارُ

من كلّ الجهاتِ الأربعِ

تأتي إليَّ النّارُ

هل هذا الذي في جورَبِ الجلاَّدِ

جلدُ مخيَّمِ اليرموكِ

صار قميصُهُ

أهدى مُسدَّسهُ لأوراقي؟

وكنتُ أظنُّهُ حبراً

فكانَ الوحلَ في وجهِ القصيدهْ؟

تأتي إليَّ النَّارُ

هل هذا الذي في خوذةِ الجلاَّدِ

يسلقُ رأسَ طفلي

كانَ في يومٍ أباً مثلي؟

وكانَ يقولُ

إنَّ الله أفقرُ شاعرٍ في الأرض

هل هذا الذي في خوذةِ الجلَّادِ

يَسلقُ ثَدْيَ أُمِّي

يَعرِفُ الفقراءَ والشُّعراءَ

يَخْتصرُ الخناجرَ كُلَّها

في وَجْهِ أمِّهْ؟ 

تأتي إليَّ النَّارُ

هل هذا الذي ذَبَحوهُ

من سَاقيهِ

يَنهضُ منْ دمي

يَمشي إليَّ عصاهُ شِرياني

وساقي بُندقيَّهْ؟ 

أيُّها الوجهُ المكرَّرْ

أنتَ لا تحتلُّ وجهيَ

إنَّما تحتلُّ قبرَكْ.

 ***

هبة أبو ندى (1991 - 2023) استشهدت في 20 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

[روحٌ مجرَّة] 

إِنْ كنتَ تحسبُني ذكرتُكَ

لَوْ لمرّة

فلقدْ نسيتُكَ في القصيدةِ

ألفَ مرّة 

في المقطعِ الصوتيِّ

للصمتِ الطويلِ

وحيثُ لا تَجِدُ الحواسُّ

فماً ونظرة 

وهناكَ في كوخِ الغيابِ

على شُعَيْراتِ

الحصيرِ المُقْشَعِرَّة 

في غرفةِ النسيانِ

حيثُ الشمسُ لا تدنو

إلى صدأِ الأسِرَّة 

وعلى النواعيرِ المقامةِ

فوقَ أنهارِ التلاشي

المستمرّة 

وكأنّهم مسحوا بساتينَ

النخيلِ وما تبقّى في

الغياهبِ روحُ تمرة 

قدْ مرَّ طوفانُ الأسامي

تحتَ أقلامي ولَمْ تَعْلَقْ

بِهِ في شبهِ

قطرة 

بزغتْ مراعي الشوقِ

لَمْ تومِضْ لثانيةٍ

ولَمْ يصهلْ عليْكَ

خيالُ مُهْرَة 

أطوي دروبَ الغائبينَ

ولا أفتّشُ عنكَ فيها

لَوْ كَعَثْرَة 

في شارعِ التَّحْنانِ، أبداً

لا تمدُّ الذكرياتُ يداً

لماءٍ أو لكسرة 

خبزُ الكلامِ هناكَ أمسى

يابساً

والحبُّ في غمّيضةِ الذكرى

تَعُدُّ لَهُ لعشرة 

قشّرتُ ذاكرتي

وسرتُ أحيكُ مِنَ البدايةِ

للفؤادِ الطفلِ

سترة 

وسلختُ حنّاءَ الحنينِ

فلي يدانِ ستنجبانِ

الضوءَ بكرَة 

مِنْ بعدِ ما نضجتْ جروحي

دهشةً، والوردُ مثلُ الجمرِ عندي

محضُ حُمْرَة 

مِنْ بعدِ ما اكتملتْ مقاساتي

بِها، لا أرتدي حلماً صغيراً

بينما روحي المجرّة 

مِنْ بعدِ ما فهمتْ مخيّلتي

قداسةَ نفسِها

لَنْ تستطيعَ بها الحلولَ

ولو كفكرة 

لا أصنعُ الحلوى لأنسى

فالطعامُ المرُّ أقوى

والقصيدةُ

بَعْدُ

مُرَّة 

هذا لأنَّ نبوءَتي قالتْ: سأدرِكُ

حكمةَ الصلصالِ،

لَنْ أبكي لجرّة 

ظهري - وإنّي لا أقولُ كسرتَهُ-

لكنّ شيئاً مِنْ خلالِكَ

شاءَ كسرَه 

الآنَ أجنحتي الّتي قَدْ آلمتْني

في سماءِ العنفوانِ

تطيرُ حرّة 

[أعيذك]

(1)

أعيذُكِ

في الفروضِ

والاستخارة

وأرقي كلَّ مأذنةٍ

وحارة 

مِنَ الصاروخِ لحظةَ

كانَ أمراً

مِنَ الجنرالِ

حتّى صارَ غارة 

أعيذُكِ، والصغارُ

قُبَيْلَ يهوي

تغيّرُ بابتسامتِها

مسارَه 

(2)

أعيذُكِ، والصغارُ هنا

نيامٌ

كما نامَ الفراخُ بحضنِ

عشِّ 

ولا يمشونَ للأحلامِ ليلاً

لأنَّ الموتَ

نحوَ البيتِ

يمشي 

ودمعُ الأمّهاتِ غدا يماماً

ليتبعَهُمْ بِهِ

في كلِّ نعشِ 

(3)

أعيذُ أبَ الصغارِ وبعدَ قصفٍ

يشدُّ البرجَ حتّى لا يميلا

يقولُ لِلَحظَةِ الموتِ

اِرْحَميني

"فماذا لو تأخّرتِ

قليلا؟" 

يقولُ: "لأجلِهِمْ أحببتُ

عمري،

هبيهِمْ مثلَهُمْ

موتاً جميلا". 

(4)

أعيذُكِ أنْ تصابي

أو تموتي

بعزِّ حصارِنا

وببطنِ حوتِ 

شوارعُنا تسبّحُ كلَّ

قصفٍ

وتدعو للمساجدِ

والبيوتِ 

فحينَ القصفُ يبدأُ

مِنْ شمالٍ

ستبدأُ مِنْ جنوبٍ

بالقنوتِ 

(5)

أعيذُكِ أنْ تصابي

أو تعاني

فقدْ حوّطتُ بالسبعِ

المثاني 

مِنَ الفسفورِ طعمَ البرتقالِ

وألوانَ السحابِ

مِنَ الدخانِ 

أعيذُكِ

إنَّ مَنْ عَشِقا وماتا

سينقشعُ الغبارُ

ويضحكانِ.

 ***

رفعت العرعير (1979 - 2023) استشهد في 6 كانون الأول / ديسمبر 2023.

إذا كان لا بدّ أن أموت* 

إذا كان لا بدّ أن أموت

فلا بد أن تعيش أنت

لتروي حكايتي

لتبيع أشيائي

وتشتري قطعة قماش

وخيوطاً

(فلتكن بيضاء بذيل طويل)

كي يبصر طفل في مكان ما من غزّة

وهو يحدّق في السماء

منتظراً أباه الذي رحل فجأة

دون أن يودّع أحداً

ولا حتى لحمه

أو ذاته

يبصر الطائرة الورقيّة

طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت

تحلّق في الأعالي

ويظنّ للحظة أن هناك ملاكاً

يُعيد الحب

إذا كان لا بد أن أموت

فليأتِ موتي بالأمل

فليصبح حكاية. 

* ترجمها عن الإنجليزية: سنان أنطون. علي هذه في آخر القصيدة

 ***

مريم حجازي (1995 - 2023) استشهدت في 18 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

[قصص]* 

"إناث البلاد تجدل قصصها نحو التلفزيون

يقف الصحفي بكاميرته يسرق احمرار وجنتيها

صفير صوتها، يقول تتواجد معي قطعة سكاكر

مَن يرغب في علكة

تتحول قصصنا إلى سكاكر يمضغها الناس

يبصقونها في الشارع حينما ينتهون

وهكذا تُروى قصص النساء

بين أرصفة الشوارع والأزقة

قصة ما قبل النوم"

*ينشر هذا النص بإذن من معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت، مشروع "شهادات نساء من غزة".

 ***

 سليم النفّار (1963 - 2023) استشهد في 7 كانون الأول / ديسمبر 2023.

ليلٌ لا يُشبه ليل الناس 

الليلُ هنا، لا يُشبه ليلَ الناسْ

نحنُ الآنَ بلا نومٍ

يا أسياد النومِ العربيِّ؛

فالنَّارُ هنا من أخمصِ أرضيَ حتى الراسْ

الوقتُ يمرُّ ثقيلاً

محقوناً بدمي

برحيقِ الأنفاسْ

وأنا أركبُ خيلَ الحلمِ

وأفتشُ عن نرجسةٍ في حقلِ الآسْ

الليلُ هنا، لا يُشبهُ ليل الناسْ

في شرفتهمْ أكوابٌ مختلفةْ؛

ومساقاتٌ لحديثٍ مشغولٍ بمسرّةْ؛

وقصيرٌ ذاكَ الليلُ، فليس بهِ حرّاسْ

لكنْ:

الليلُ هنا مخطوفٌ من ليلٍ

لا يزرعُ فينا غير الخوفِ، وغير الوسواسْ

لا شرفةَ في بيتي تفتحُ ضوء الشمس

مسروقٌ صبح مدينتنا

فرح الأطفالِ، ونومي مسروقٌ

تَعبٌ من نارٍ تطفحُ بالحقدِ

لكنْ:

ما زلتُ على أملٍ

لا أُظْهِرُ عندي فزعاً للأولادْ

رغم الأوجاع المدفونةِ في صدري

أو أصداءِ الخنّاسْ

حين يجنّ القصفُ المجنونُ

لا أعرفُ إنْ سقطت نافذةٌ

أو أنَّ يدي ضربتْ رمل الوقتِ بلا أجراسْ

فالليلُ هنا، لا يُشبه ليل الناسْ

الناسُ تنامُ وتصحو، على وقتٍ في حبر أجندتها

لا ضيرَ بأنْ تعبثْ: في هامشِ جدولها

تلهو من كدرٍ، فتؤجلُ ضحكتها

لكنْ:

في غزةَ لا تأمنَ أنْ تلهو بالوقتِ وبالإحساسْ

هزَّاتُ الأرضِ قويةْ،

تكسرُ"ريخترْ" لو حاولَ أيَّ قياسْ

وحشٌ منفلتٌ من عصرِ حضارتنا

لا يُشبه أيَّ الأجناسْ

موهومٌ بالقتلِ،

وكأنَّ دمَ الأطفالِ يُديمُ خرافاتِ العرشِ

في الخوذاتِ الفاسدةِ

أيَّ سماءٍ ترجو

أيَّ فضاءٍ تعلو

أيَّ مواتٍ تدنو؟؟ 

لماذا تذهبين الآن؟* 

وحيداً أقودُ الوقتَ

إلى رايةٍ في الأعالي

لماذا تركتِ يدي الآنَ

ألمْ نتفقْ يا حبيبةْ: معاً،

أنْ نواصلْ قتالَ الليالي؟

ألمْ نتفقْ: أنْ نواصلْ نشيدَ الصعودِ،

نحو يافا

وأحلامِ الفتى،

ذاكَ الذي تعشقينْ؟

أيا مصطفى قلبِها:

لم ينمْ نبضُ قلبكَ في وريدِ الزمانْ

كلَّما هبَّ الحنينُ

تناديكَ ليلى بكلِّ الصِّفاتْ،

تلكَ التي لم تغبْ،

عن سماءِ الذكرياتْ

صاحياً صوتُها لا ينامُ

يُداري هبوبَ الصَّدى صورةً

يُلمعها الندى، يُعطِّرُها الأرجوانْ

لماذا إذاً ترحلينَ الآنْ؟

تعبتِ تُرى،

أمْ جدالٌ عقيمٌ

على دربِ حلمٍ بنا،

لم يعُدْ يكفي شروحاً

على ما مضى من حنينٍ هنا

في سجلات الخوالي؟

وحيداً

تركتِ الفتى يا مُعلمتي

يواصلُ عتمةً في الطريقْ

عقودٌ مضتْ من تفاصيلِ المسيرةْ

وكنّا على مهلٍ نُضيءُ الفوانيسَ

على كلِّ مُفترقٍ،

نرى فيهِ حلماً عتيقْ

أُعيدُ الآنَ من شاشةِ التّذكارِ،

شكلَ عينيكِ، حينما أيقنتْ دربي إلى غزةْ

تداعتْ إليكِ تفاصيلَ يومٍ قديمْ،

قلتِ في حينها: أنَّ المرايا تعودُ الآنَ

إلى نهرها؛

تشطفُ الصبح المُخبأَ في الغمام العميقْ

تُعلي بيارق مَن تنادوا في الزمانْ

لكنهم رحلوا… فهلْ يأتونَ من وجعٍ نُسمّيهِ السلامْ

وأردفتِ دمعاً ساخناً في يَدِي

وأطلقتِ موجاً من كلامْ:

اذهبْ بنيَّ

إلى ما نشتهي من حلمنا

في حيِّزٍ في المكانْ

ربما نصطفي ساعةً في طريق المنامْ

ربَّما

ربَّما يفرحُ القلبُ

ولو بعدَ حينٍ من ظلامْ

ربَّما نسوقُ جيشَ الأماني

على موج تداعى في ضلوعِ الزَّمانْ

لكنَّها قالتْ:

تمهّلْ حبيبي

فإنّي أرى ما لا يُرى في هشيمِ السنينْ

يا رفيقَ الزمان الجميلْ

أرى الآن أفراحي

يُغالبها وجيعُ الوقتِ مُنثالاً على لهبِ الحريقْ

لا يُطامنني سؤالٌ

هنا… في اندياح المعاني

على رِسْلها موجاً يُضاهي الكبرياءْ

كاذبٌ هذا المهرّجُ

فلا بحرَ من خلفنا، لا

ولا فرسانَ في قممِ الضِّياءْ

وجوقاتُ الأغاني هنا،

ليستْ سوى ذاكَ النعيقْ

وحيداً

تركتِ الحلم يا قلبي

لماذا الآنَ،

وأنتِ التي كاسرتِ أعباءَ الطريق

لمْ تُهزمي ذاتَ دربٍ؛

لكنْ: تنامينَ الآنَ من وجعٍ عميقْ

لا يستوي حلمنا في شقاقِ الرفاقْ

هكذا قلتِ ذات صبحٍ،

حينما ضجَّ الكلامُ،

هارباً من نُسغهِ ذاكَ البريقْ

وحيداً

أعاني ندوباً على سطحِ حلمي

أُعرّي جروحي لملحِ الليالي

أُضيءُ الوقتَ في شمسنا الخافتةْ

لعلَّ الحبَّ يُسعفنا

لعلَّ الشعر ينقذنا

في انفضاض القافلةْ

وحيداً

تركتِ الفتى في الليالي الباردةْ.

 * إلى ليلى الأم دائماً.

***

هيا عبد الرحمن أبو نصر

أمام باب الكنيسة 

واصفرَّ قلبي، وكيف يصيرُ اعتلالُ المريضِ نعيماً؟

ومَن ذاقَ مُرَّ الحنين، تداعى له سائرُ الكون رفقاً وسلوى

وماتَ الشَّاهُ في رقعةِ الشطرنج، وانسلَّ الدمعُ غيماً

قد كان يوماً عاصفاً، وسَلَبتُ الريحَ قسراً

ما لقلبي من بعدِ انتحابِ الأُيَّلِ ظِلاً...

أعياني الشوقُ، وإن كابرتُ بسمةَ الودّ، فما لي طريقٌ

كيفما مرَرتُ، لاحقني الطيرُ وصوتُ الطيرِ حزنٌ

والريحُ، رغم ازدحام الريش، عزلة... 

قد كان قداسُ الكنيسةِ يعلن في الأبد عشقاً

فؤادي، وإن كابرتُ شوقي

فكيفَ من بعد طيبِ المسكِ أنساني؟

وهل ماتَ المسيحُ أمامَ الكنيسةِ؟

أم كانَ صولجانُ الكنيسةِ قدّاساً للهوى؟

أقمنا الصلاةَ جنباً لجنب

قد كنتُ ذاتَ الولاء، وكان الولاءُ ابناً قد دلّلتُهُ

وأذَلَّني... 

نشوةُ الحبِّ أباحت لسليمانَ حقَّ البكاء

وإن أنكرتُ قلبي، كيف أُحيى من بعد ما

شرب الفؤاد أثرَ السَّلى؟

وانسلَّ من خاصرتي دمي

كلما رأيتُه عذّبتُهُ، أنكرتُهُ

لقيطٌ أنت، قلتُ، وما لي من بعد انحنائي

كفٌّ تناجيني؟

حمَّلتُ قلبي تميمةً فوق صدرِ مُسافِرٍ

أنَّى بلادٌ قد دلَّته لأرضِها؟

ودَّعتْها وودَّعتْه، وودَّعتْنا أغنيةٌ رتيبة

قد قال شاعرٌ ذات مرّة: "لا تحاول"، ولكن كم حاولنا...

كم من مرةٍ قد حاولنا؟

لننقِذَ من الملوكةِ عرشَها ونعشَ هذا التفاضل

ودَّعتُهُ وودَّعْتَني، ورحلنا سوياً كأغنيةٍ رتيبة

لندركَ أنَّ شيئاً بيننا وبين الأرض أقسى من لحنِ (صوفا)

قالوا: هذا ما نسميه "الوطن"

ألّا نحيا سوياً

وأن نُصابَ بحسرةٍ وأن نَمُرَّ بمزرعةِ النحلِ نبكِي

لشيءٍ يُرديني من جرحٍ إلى جرح، يعايشُني ويوجِعُني

أهكذا يكونُ الوطن؟ قالوا هذا هو الوطن... 

شاعٌر لم يمُتْ وحيداً

قد مُتَّ وحدَكَ، يا ابنَ الُّلغة

وحفيدَ نَرجِسَةٍ فوقَ عُشبٍ غارقٍ في سَمْتِهِ

ماذا جنينا مذ جَسَستَ الريحَ على الشفتين؟

وطعمُ الدمعِ مالح...

مُرٌ فؤادي،

في الرثاء، أحد عشر عاماً من حنين الطير

والطيرُ مُذ رحيلِ الريح، أنّى يهذّبُه الوداع؟ 

يطير.. يَحُط

وقلبي هناك إلى حين احتسينا قهوةً في مرةٍ أولى

أو مرةٍ حتّى أخيرة...

ماذا لو التقينا على بُعدِ ستين إنشاً؟

كان لي أن أكتبَ في الحبّ نصّاً

والحانوتيُّ مثلي كلّما دقَّ التراب

تذكَّرَ كيف حطَّ السنونو على خاصرةِ الفأس حين مال...

يا آخرَ الحضور

وجُرحَ السماءِ في الأرض

يا دليلَ الكَرْم وانصياعَ النار

كرّستُ كلّ الوقتِ، كي أبكيك

وكيفما هبَّ الرحيلُ، بكيتُ نفسي...

يا ابنَ اللغة، وحفيدَها

والنردُ لو تأخّرَ يوماً

لاكتفيتُ بقولِ قصيدةٍ عن حبٍ خاسر

راهنتُهُ.. لكنَّ الخسارةَ في الموتِ مجدٌ

والحياةُ في جفافِ الروح عبءٌ..

يا فؤادي، ليس يهويني السهر

قد كان طعمُ الوقتِ حراً

بعد التجلِّي في الفناء

يصيرُ طعمُ الأرضِ مِلحاً

والسِّيّان حلواً

هذا مذاقُ الصيف... 

إنّ اختلافَ الطقسِ يثيرُ الغرابةَ

والغرابةُ حُسْنُ طالعٍ للشّمس

هكذا تُنَكَّسُ أعلامُ البلادِ حُزناً

لا الدّخانُ يرفعُها ولا هتافاتُ الشجر... 

قد أيقظتُ حَدسي تحت أقدامكم

يا سادتي

بكيتُ قلبي حينما أحسَسْتُ أني لستُ قادرةً

على كتابةِ نصِّ حدسٍ في الهُوية

ليس يُنسيني البكاء

تذكُّرَ جنازتِكَ القديمةِ مرّتين... 

لكُلٍ مِنّا تجربةٌ في الوداع

كَنِّس فؤادَكَ ها هُنا ...

ذَرَتِ الرمالُ أثرَ المسير

والقوافلُ إنِ اتّبَعتْ أثرَ المُسافرِ

كيف يُرجِعُها الفَلَك؟

حيث نجلِسُ ها هنا

والحزنُ في جنباتنا ملاكٌ حارِس

أو نائب...

قد غطَّ عزرائيلُ نوماً

إنَّ إحصاءَ النتائجِ مُتعِبٌ

قد كان عزرائيلُ عبداً مخلصاً

فأنّى لنا حقُّ العِتاب؟

أمواتُنا.. أحياؤنا

انظُرْ بعيداً

هكذا لا ينسى أيلولُ الخيانةَ في الرحيق... 

هذا تاريخُ الغَجَر، وإنِّي دون بلادي

قصيدةٌ مهجورةٌ

رمَتْها الوحيدةُ حينما فقدَتْ تراتيلَ الأغاني

وأصابَ العشقَ طرشٌ إثر إنذاِر الحرب 

آهٍ يا فؤادي، حَربُ الوجودِ فَناءٌ

يا زرقاءَ اليمامةِ

لو صدّقتِ الريح.. لو صادقَكِ الريحُ

لما تنازلَ ذاك الرُّمحُ يوماً عن هدفِ اليمام...

ولو اختاروكِ رمزاً للبلاد

لما جَلَسْنا في رثاءِ الملحميّةِ

نَحصُدُ حسرتَنا في البقاء...

يموتُ الطيّبون هرباً من خَللِ الإيقاع

إنّ ابنَ آدم سريعُ التفاني

والتفاني سوءُ طالعٍ واقتباسٌ سيّىءٌ لزهرِ اللوتس...

إنّا اختلَطْنا في النثرِ حيناً

والمأساةِ حيناً

غنَّيتُ ما غنَّيت

لو أنَّ عزرائيلَ تأخرَ أكثر

لأحببتُكَ حياً...

قلبي ممرٌ للراحلين

كَثُرَ الحديثُ عن الحنينِ حتّى

سمعتُ من حدّ الزُّبى رنينَ الدمعتين

أسدلتُ الستارَ، وطارَ الحمام

فأعِدْني إلى حيثُ ينثرُني الوطن

أثراً للمهاجرِ حيثُ الشّمال...

 ***

خالد جمعة

قليل ممّا ستقول غزة عمّا قليل 

هذا دمي، يبدأُ من حيثُ يسكتُ النشيد، ومن حيث يتسلى الموتُ على طريقتِهِ بطفلين زائدين عن قدرةِ الساسةِ على احتمالِ الحقيقة.

هذا دمي، لمَن أخلى مساحةً ليورِدَ النارَ في منشأةِ القلبِ، يفركُ يديهِ ليحتمي بالنومِ من رؤيةِ الحريقِ على باب المعنى، يسخرُ المعنى من المبنى، وتقولُ لغةٌ لقائلِها: ليسَ من أجلِ هذا خُلِقتُ، ويضحكُ عابرٌ في ممرٍّ ضيّقٍ ويرفعُ صوتَهُ بدعاءٍ قديمٍ فيهِ خطأٌ شائعٌ، وتنهارُ حولَهُ بنايتانِ من خجلٍ على أرضٍ لم تشربْ خشونةَ الأرقام بعدُ، فيصابُ الغيمُ بالحيرةِ، فلم يأتِ محمّلاً برغبةِ الغسيلِ، وكانت كلُّ قطرةٍ في السحابةِ تحلمُ أن تكونَ لوناً في ورقةِ شجر، مشهدٌ لا يشبِهُ شيئاً أن ترى غيمةً مخذولةً وناياً يحرُسُ الحنطةَ في المكانِ بديلاً عن ساقيةٍ ويدينِ وثوبٍ شعبيٍّ يقاتِلُ وحدَهُ.

سينتفضُ سيّدٌ من رائحةِ النَّحلِ الغاضبِ ومن بقايا الصهيلِ في قصص البطولاتِ، ويلجأ عارياً إلى الغاباتِ كي يبدأ القولَ من أوَّلِهِ ويعطيني لقبَ مدينةٍ، ويتسلى ببعضِ المراسمِ في وقتٍ سأكونُ فيهِ مشغولةً بالجنازةِ التي لا تنتهي، سأقولُ كلاماً يجرحُ الجميعَ وسأنتهي سريعاً من طقوسي لأخبرَ كلَّ مفتونٍ بدورِهِ في الروايةِ بما كان يجبُ عليه ولم يفعلْه، وسيكونُ الوقتُ قد مرَّ طويلاً وصارَ تاريخاً حين يتذكَّرُ الذي لا ذاكرةَ لهُ، أن قليلاً من الكلامِ كان يعني بقاءَ أغنيةٍ على قيد الشفاه، والولدُ الذي لم يعدْ يغني، فَعَلَ هذا فقطْ لأنّهُ ماتَ قبلَ أن يقولَ لأمِّهِ كم يحبُّها، ومأساة أمِّهِ كانت أنّهُ مات قبلَها بأغنيتين، ولم يعدْ هناكَ مَن يتذكَّر الأغاني ولا العائلة.

سأقولُ كلاماً يجرحُ الناظرين، عمّا قليلٍ حين أفرغُ من دفنِ يديَّ، ونبضتين من قلبي الغارق في الحداد، سأقولُ ما لا تحتمله حضارةُ الآخرين، لن أجعلَ النائمينَ يشعرونَ بالندم، ولا الجيوشَ المرصوصةَ على الرفوفِ تخجلُ من شاراتِها، لن ألومَ حرّاسيَ ولن أغرزَ حسرتي في جِلدِهمْ، فقطْ، سأقولُ كلاماً يجرحُ الناظرينَ كي لا ينظروا فيزيدُ الدمعُ في الكُتُب، سأحفظُ أولادي في ثلاجةٍ من حنينٍ إلى الأبد، ولا أريدُ مَن يصبُّ ماءً على جرحي كي أقيمَ صلاتي وحدي دونَ إمامٍ أو تابعين.

ما سأقولُهُ عمّا قليلٍ سأقولُهُ عمّا قليل، فلا تجرحوا زوجاتكم بالغضبِ الظاهرِ في مكانكم القريبِ من الشاشةِ. الأشياءُ تبدو أعظم حينَ ترويها الإذاعاتُ، فلا تصدقوا موتاي، ولا جرحاي، ولا أراملي ولا اليتامى تحت إبطي، لا تصدقوا انهياري ولا انفجاري، لا تصدقوا لغتي، ولا حيرتي أمامَ الجهات، وصلّوا من أجل أنفسكُم، فقط من أجلِ أنفسِكم.

هذا دمي، نعمْ، هذا دمي

وعمّا قليلٍ سأقولُ كلاماً من دمٍ، فلا تخطئوا التفسيرَ، فنحنُ المُدُنُ يجرحُنا مَن يوقفُ النشيد، فنقولُ كلاماً لا يُحْتَمَل. 

لم يأتِ أحد!

غزةُ وليدةٌ، أنجبتها أمها وحيدةً على الرمل، استعارت أكاليل الغناء من ملائكةٍ مروا هناك مصادفةً، أحاطت جسد الوليدة بالنايات، وغسّلتها بالزيتِ المقدّسِ ومسّدت ذراعيها بالقبلات، مشّطت شعرها القليل بأصابعها، وانتظرت على ممر القوافلِ مليونَ سنةٍ، ولم يأتِ أحد.

غزة طفلة، زوّقت السقف من أجل ميلادها، أحصت الشموع ألف مرة، غطت المائدة المهترئة بأوراق هدايا كي لا تراها صديقاتها، استعارت آنية من جاراتها كي تعجب المعلّمة التي سترافق ابنتها إلى الحفل كما وعدت، غطت الشق في جدار البيت القديم بألوان مدرسية، ارتدت فستانها الذي كانت تنظر إليه في الخزانة كل ثلاث دقائق، فكت جدائلها لتبدو أجمل بشعرها المتطاير، لمّعت حذاءها، ربطت شريطاً أحمر حول الفتحة في جوربها الأبيض، رفعت صوت الموسيقى كي تناسب جو الحفلات، وحدها ظلت هناك، ولم يأتِ أحد.

غزة، تفرك عينيها بالياسمين هذا الصباح، وترتدي قرطاً بلون البحر، وفستاناً للعيد بزركشاتٍ شجرية وملمس مخملي، تتهيأ لزيارة أولادها، أعدت الحلوى ككل عيد، الشاي والقهوة وعصير البرتقال على الطاولة أيضاً، والخبز البيتي بجوار أطباق اللبنة والزيت والزيتون الذي لم يتخلل إلى النهاية بعد، صينية الفاكهة، الشبابيك مفتوحة، والأرض مرشوشة بالعطر والحيطان منمقة بالحنّاء، غزة تنتظر، ولم يأتِ أحد.

غزة تعتني بحديقتها، لا يجوز أن يأتي العاشق ويرى العشب مهروساً تحت أقدام الغرباء، أو يرى وردةً تذوي على غصنها، بللت التراب بماءٍ معطّرٍ بالأدعية، شذبت كل غصنٍ ناشزٍ عن أمّه، رتّبت حجارة السورِ بفنيّةِ امرأة محبة، رتبت قنوات الماء الصغيرة بين الأحواض، نظفت النعناع والحبق ورقة ورقةً، وضعت كومة سكّر في زاوية الحديقة كي تلهي النمل عن جذور النبتات الضعيفة، أعطت الدعسوقات [أم سليمان] الحريّةَ في المكان، الفراشات تعاطفن معها وملأن الهواء بالألوان، نفّضت أعشاش العصافير، وجلست مقابل الباب، ولم يأتِ أحد.

غزة تجهز أغنياتها للعرس، تدعو الجميع، تقطف برتقالاتها بعناية عن الشجر، "اللوج" جاهز للمدعوين، شاشتها البيضاء، ثوبها المطرز بحرير "مونس"، حزامها المرصع بالزغاريد، ورقصتها العجيبة المرافقة ليدين تلوحان في الهواء كمَن يقطف أقماراً، شراب الليمون في القدر الكبيرة وأوراق الليمون اللامعة تسبح على سطحه، الزينة معلقة بشكل قطري، ورود وخراخيش أطفال، علب الملبس المملوءة بأدعية قديمة، كل شيء جاهز، ولم يأتِ أحد.

غزة تهيىءُ تابوتاً من خشب المندلينا

تُعِدُّ جنازتها قرب البحر، تلضمُ الفصول كمسبحةٍ في عنقِها

ودون دعوةٍ يأتي الجميعُ

ولم يتأخر أحد.

 ***

بيسان عبد الرحيم

[رثاء] 

أخذوا دمك

غسلوا بهِ الطريق

ماءٌ يسقي عطش المغتربين

عنبرٌ يعطرُ خطانا

يسمح خطايانا 

مَن باع اسمك يا رفيقي؟

كفكفنا الأيادي

وتصافحوا 

وحدي

أرش الحنَّة على أعتاب الغياب

أجدل خصل العتاب

خطواتك زالت على الباب

وما زلت أمشِّط رمل الخيام

أفرك يدي بالريحان.

أيوب أعرني القميص

فما بال عينيَّ! 

ما كنت أعرف أن الطريق

طويل

طويل

طويل

مَن كان يعرف الطريق غيرك

فاختصرته فالغياب

تصافحوا...

 ***

عثمان حسين

[شبعتُ موتاً] 

(1)

شبعتُ موتاً،

حتى امتلأتُ أنقاضاً ومفقودين،

وحكاياتٍ لا تصلح للأحفاد الثكالى.

يا موتُ انتظرْ،

أحتاج أن أبلع ريقي،

أو حتى ينتهي الجلاد من أشغاله.

يا موت

أيها المُنادى،

لا تليق بنا. 

(2)

أعزل وفي عزلةٍ،

أطل من نافذتي على بقاياي، أرى مَن يدفنون رؤوسهم في رمالٍ تتحركُ، رافعين مؤخراتهم شاراتِ نصرٍ مقلوبة، أراهم زرافاتٍ زرافات.

وفي عزلتي يكْذبُ المنجمون دائماً، أو يجهلون غايتي، لذا، أفاجىء العزلة أحياناً، فأترجل خارج كهفي، أركل علبة كولا فارغة عدة أمتار إلى الأمام، وأواصل الطريق الى ساحة الجندي المجهول، كي أحتار وأرتبك أمام خليط العابرين الذين تجمعهم عيونهم المطفأة، وتفرقهم خصوماتٌ، وقصائد جائعة، لا شِعْر فيها ولا كلاماً يُشبع جائعاً ملقى، لا يرى إلّا أحذية بالية وسيقاناً أنهكها المسير.

أنساب في الزحام كأفعى، معتقداً أنني لامرئي، وأن عزلتي تغلِّفني.

فاجأتها وترجلتُ خارج كهفها، حاملاً حلماً يتشكل في كل حين، يصطدم في رؤوس الناس، تتكسر الرؤوس، وتتوزع أشلاء الحلم أفكاراً وحكاياتِ موتٍ، ليلاً وكوابيسَ، وسحاباتٍ جوفاء تتجول مثلي. 

(3)

عاد جَدّي ليطعم الطير، ويغلق الباب المفتوح، أعزلَ، يحمل رأساً محشواً بحكايات خرساء.

اصطادَ رأسه جندي جاء للتو من بلاد بعيدة.

أبي لم يعد، ولم يصطده الجنود، لكنه ساقني إلى مصير ما زال منتصباً في وجهي، تُحلّق الكوابيس في فضائه المجهول.

عاد جدي ولم يصل.

 ***

نعمة حسن

[هكذا نهدهد الحرب لتنام] 

(1)

أريد أن أسمع جرس المدرسة

أرسم طابوراً على كيس الخبز الفارغ

وأصفق عالياً لصفّارة الصباح 

ضع الماء في جملة قبل أن ينفد

هكذا قالت المعلمة

رددوا موطني

الهتاف في الخيمة لا يُسْمَع 

لا كُتُب في حوزتي

أردت أن أصنع إبريق شاي

قبل موعد الشتاء

الكلمات تحرك جوف النار 

أين أمي

أصبحت كبيراً

لتبحث عنها في الركام

هذا هو الدرس الأول. 

قيام... جلوس

سجل أنا من غزة

ثم أَسْقِط العالم من سجل الحضور 

(2)

أين يقع العالم الآخر؟

- في حانة فارغة إلّا من رجل يمسك الجريدة،

عاقَرَ الحب كثيراً ولكنه تعافى بفنجان قهوة سادة 

كيف نصرخ دون أن يسمعنا أحد؟

- داخلك فارغ، باستطاعتك الجلوس في زاوية ما وتجربة الغناء مثلاً. 

هل الخوف مخيف؟

العناق طريقة جيدة لإيقاف ارتجافه. 

هكذا نهدهد الحرب لتنام. 

(3)

كلما حاولت الكتابة تخرج غزة بوجهها المتمرد... وترفع إصبعها الأوسط عالياً كإشارة نصر. 

(4)

مد يدك نحو سرب حمام قادم من الشرق

لا هروب من ولولة الريح

انفض خوفك

ورابط في قاع المدينة المعتم

ثم امسك بحنجرة الصياد 

لن نموت قبل أن تضاء إشارة المرور الحمراء

تمسك بقبعتك البالية

انحنِ قليلاً

ثم قُدِ العالم نحو الحافة

نخبك الأخير ينتظر 

النخلة في نهاية الشارع

تبحث عن رأسها

شئت أم أبيت

أنت مَن أكل العناقيد المحرمة

طاوع جنونك

وعانقني قبل أن يرانا الوطن،

مُدّ يدك نحو سرب حمام قادم من الشرق

لا هروب من ولولة الريح

انفض خوفك

ورابط في قاع المدينة المعتم

ثم امسك بحنجرة الصياد 

(5)

في الطابور

ننتظر استراحة القمح

وابتسامة الرجل المغبر بالطحين

وسقوط الرغيف حراً لأرض المعركة 

في الطابور

صبية تحاول أن تستذكر معنى أنوثتها

ورجل يغني للتنور

وآخر يحاول فهم صراخ الشارع المحترق

وأنا أقف في منتصف الحكاية

أجمع العصافير داخل رأسي

خوفاً من هروب الشجر 

في الطابور

عجوز تلعن الحقل والسنابل

وتسرد عليك أسماء المدن العالية

تخيط حبل الجوع

لتصنع كيس دقيق كبيراً

يكفي لحراس الخيام 

في الطابور

أنا وأنت

طفلة تقضم أظافرها

رجل يبصق على الحرب

وامرأة تضع أحمر شفاه تحت خمارها

لا مياه في المدينة تغسل ذنوبنا

ولكننا نتحدى الجحيم أن يُخْرِج رغيفاً طازجاً

قبل موعد الموت بلحظة 

(6)

- كيف تُبْنى الحدائق في المدن المهجرة؟

تُزْرَع في كف طفلة فقدت ذراعها وهي تلعب مع الحرب 

- هل للرصاصة شجرة عائلة؟

الرصاصة التي قتلت جندي الحرب كان لها جد في دير ياسين 

- في العالم الآخر هل للحرب أسماء أُخرى؟

ما معنى العالم؟ 

- الأطفال المحظوظون هل جاؤوا من لعبة اليانصيب؟

اسألوا دولاب الحرب 

- كيف ينجو الخوف؟

يترك لإصبعه الأوسط حرية التعبير 

- مَن يموت أولاً الحاكم أم الجلاد؟

ليس للعبة قواعد... ربما اللص يعرف الإجابة 

- أين تسكن الحرب؟

في المدينة المهجرة. 

(7)

الكثير من الأيدي المبتورة تحاول مصافحتي

ركوة القهوة تهتز على النار

والعزاءات لا تنتظر

هل استبدل المطر وجهته؟

يتساءل حفَّار القبور 

كم ليمونة على الشجرة؟

يخيفني قلق العصافير

وحموضة المواسم

وبكاء طفل شعره (كيرلي)

لم يعد لأمه بعد أن أغلقت أبواب الكنائس 

لديّ الكثير من الحب في قلبي

استهلكتُه في انتظار طابور المياه

سيجيء الشتاء قريباً

وأسطح المنازل غادرت

كيف سأقابلك الآن

وأنا مبللة بالموت

 *** 

وليد الهليس

اليراعات 

لا أتعوّد غيابهم؛

غيّرتُ غبار أقدامي،

وأقمت في لغات بعيدة..

أنزلت براويز وسامتهم عن الجدران،

حاولت..

لكنهم لا يستأذنون بالدخول..

يعبرون حديد السماء بلا ألم،

ينظرون إلى فراغ الجدار،

لا يقولون شيئاً

ثم، دون سلام، يغادرون

أسماؤهم تغيب عن الحفل

ووجوههم عن الكلمات

عن زوال السحر

عن الأوسمة

لكنهم لا يغيبون

لا أتذكر، الآن، غيرهم..

لا أفتح الباب لطارق،

ولا أجالس أحداً، سامراً،

سواهم 

في ضوء أسمائهم أسوق عتمتي إلى وكرها،

وألم حجارة البيت،

وأحمل آخر وردة في حديقتي

إليك 

العتم يوسع الخطو والطريق تضيق

ولا شيء يضيء للسراة

لا شيء

سوى يراعات تنوس وهي تبتعد 

مديح الشوكة

الشوكة، لا غيرها؛

حارس الضوع

واضحة، لا تثرثر، لا تتلعثم،

لا شيء يملكها

غير شوق لا يروي 

لا شيء؛

غير مجد العناد، بسالة اليأس، ووقفة المحارب 

الشوكة، لا غيرها، تكتفي بالقرب؛

لا تذل ولا ترغب

لا تعرف الانحناء

لا وهم يأخذها

لا رجاء 

الشوكة لا تريد شيئاً، يا أصدقائي،

ومثلها نحن أيضاً

لا نريد سوى أن نظل، هنا، أو هناك

يعذبنا اللون، وهو يحول،

معاً،

ورويداً نجفّ،

رويداً

ونحن نرى العطر يرحل 

لا ننحني،

ونموت:

شوكة لا تخون وردتها

 ***

نسرين سليمان

[بالأمس كنت هنا]

تحرر موتي من جسدي وصرت الآن فكرة تنتظر الزوال.

بالأمس كنت هنا، ولو مررت على اسمي وناديت، لقلت لك أَلَا لبيك،

ولكن اليوم، أنا نصف غبار، وعلى قلبي أحجار

قال مَن حولي بأن هذا بيتي. 

في محاولة عودتي وجدت حراساً

وأجراساً تطرق صوتها برأسي

وصلوات كثيرة

وهمهمات ودعاء

علمت أن هذا ضبابي

يا ليتني كتبت قبل الأمس رثائي،

وعلوت في ندائي، وخشعت في صلاة استجدائي. 

غادرتهم، كل الذين أحبهم،

غادرتهم وكانوا هم مَن سبقوني بنحيب الدم ونشجه،

هم مَن سبقوني باليتم والأنين،

في نعشهم نعشي،

وجميعنا الآن نحمل نفس النقش والوسوم. 

وَعَدْنا الحياة بالثبات ثم صرنا نحن أضحية وكبش فداء،

ولو كنا أنبياء لقصدنا الصبر ولكننا عِباد

نجري حيث تجري الغاية والقصود

يتيماً صار حلمي. 

بالأمس كنت هنا،

وكان ضعفي وقوتي،

واليوم أنا ماضية إلى جهلكم وعتمتي.. 

حرب غزة

تقطف ثماري قبل نضوجه،

وأنا البستاني الذي روى الثمر بحكاياته عن الأرض،

وعن التين والزيتون وعن رائحة الميرامية ورائحة البيلسان والبرتقال،

وعن صلوات كل العِباد وكل الديانات.

كنت قد عرفت موتي من فم جدي

قبل أن يكون هذا اليوم،

قبل أن أكرر مأساته بمأساتي.

 

*** 

عاهد حِلِّس

قصيدة غزة 

وأخذَتْ غزة من الموت زخرفها، وتزينت

لفضائيات عالم يشكو الملل

كم أنتِ جديرةٌ بالمديح يا غزة

وعنقكِ يتدلى على مشنقة

وكم أنتِ منسية

حين تنصرف الإذاعات عنك

ويسكت صوت المعركة

غزة لا تحيا

وغزة لا تموت

ولكن تأخذ قسطاً من الحياة

بين مذبحة ومذبحة

ولأنها عصية

ولأنها وفية

يسكنُ في عينيها

حزن العالم بأكمله

غزة ستبقى

وستعود بهية

وتعود ندية

ولكن مثل زهور المقبرة

وغداً

ستسكت المدافع

وينبت زرعها أخضراً

ويعود للعب أطفالها

ولكن وسط رماد المحرقة 

كل شيء يذوب في المطر

إلّا أنتَ يا جرح غزة

سوف تحيا في حجر

مَن نجا من الحرب نجا

لكنه لم يحيا ولم يمت

صار شجراً على ضفاف الألم

صار دخاناً على شفير العدم 

كل شيء سوف يعود

لا الشيء ذاته ولا الشيء غيره

ولكن مثل ثمر تأخر عن موعده

سوف نكون

فيا بحر غزة لا تَخُنّا

لا تكن بهياً في أعين الجنود

إنهم قتلة

ولن يتطهروا من روائح البارود

كن أي شيء آخر

ولكن لا تكن بحراً يا بحر

وخبّىء رائحة الملح حتى نعود

نحن أبناؤك

فاحفظ صوتنا

إن تغيرت ملامحنا خلف الحدود

وأنت حارس الحكاية

فدع صرخات الضحايا

تحيا بصمت

في عمقك العميق

أنت مَن سيروي عنا

جيلاً بعد جيل

فدوّن جراحنا

بحبر من السماء منك يسيل

واشهد أننا كنا وحدنا

وأن غزة

جرحت كف المستحيل.

 ***

دنيا الأمل إسماعيل

جنونها / جنوني 

كاملة من فرح،

تدخل غزة مأساتها،

ببهاء امرأة ثلاثينية،

تقشر عن جسدها،

أَلَق الحكايات المنسية،

تلملم ما تبعثر من دماء ودمع

فلا يبيض الوقت، فيما تسيل الشعارات كألم رفيع العناية

والسماء إذ تسقط بين يدي، مشحونة بالقلق والأسئلة المرة،

تمسح عن العينين هزيمة الرؤية، وضراوة الخيبة،

وهي تشد الجرح من انفعاله،

فتنذر نفسها للعنة تليق بطقوسها.

هي الغزة، من أطراف أصابعها تسيل الأغنيات،

ويزهر الحنون خجلاً من وحدة التراب.

هي الغزة، في حدها المسنون، رحمةً

في سياج فضائها فضاء،

وفوق أديم عزلتها حياة،

من نزف عينها دمعي،

أنا الملعونة بسحر الغوايات،

المفتونة بيوم طائش لا يأتي.

لا أرى سوى غفلة تفرُّ من طيش صحوها

هي: لا شيء يشبهها

سوى الجنون.

 ***

حيدر الغزالي

[حقائب خائنة] 

الشهيدُ النائمُ على العشبِ المبللِ بالندى

كان له اسم

ولقب

وضحكة مثيرة

تجادلتْ أمُّه مع أبيه

يومَ ولادته

فاختاروا له اسماً

يليقُ بقامته التي يغطيها الكفن

الشهيدُ النائمُ

على العشبِ المبللِ بالندى

كُتبَ على رأسِه

"مجهول" 

يا أمي

تلكَ الحقائبُ خائنة

لم تتسعْ لجدران البيت

لم تحملِ الذكريات

تلك الحقائبُ خائنة

ولن أحملَ سوى اسمي. 

كنتُ في السوق

حين رأيتُ خمسة شهداءَ

على باب المشفى الوحيد

خمسة شهداءَ على الرصيف

يرجون المارّين

أن ينقذوهم من الطبيعة

والبيولوجيا

كانت أصواتُ المدافعِ عالية

ولم يسمعهم أحد. 

أنا ابن تسعة عشر عاماً

عشتُ قتلاً كثيراً

أولُه حين كنتُ في الرابعة

لا شكّ أنني أخذتُ

نصيبي كاملاً من الوجع والخوف

والاشتياق

فمتى تُطلُّ عليَّ الحياة؟

 ***

جواد العقاد

ماذا لو كنتِ معي في الحرب 

(1)

أصابعُكِ تغوصُ في كفِّي

وتتمايل كالغزلانِ في غابةِ المخيلة

أَحلمُ بها ملجأَ دفءٍ

أو نهرَ سلامٍ لا يتّبعُ خجلَ الوردِ إلى حدائق صدركِ

يصيرُ في يباسِ اليتمِ أمومةً

وشموعاً تذوبُ في جسمكِ صلاةً أو خلاصاً.

أجيءُ إلى ذراعيكِ مسكوناً بالارتجافِ

الحربُ أمامي

ورائي

الحربُ فيَّ وفي جهاتي

فلا شارعَ يؤدي لشارعٍ

ولا دعاءَ يصعدُ...

أطلُّ على الدمارِ من ذاتي وأعود

أو لا أعود

أمشي إلى بيتي

والطريقُ طويل، الطريقُ ركامٌ

أدخلُ البيتَ باحثاً عن حروبي الصغيرة

أمسحُ غبارَ ذاكرتي عن مكتبي

وشرفتي التي حفظتْ أحلامي

وفي وقتِ الانفجارِ راحتْ تحضنُ القمر،

ولا تدري أن القمرَ انتحرَ في عينيّ فتاةٍ أخذتها الحربُ في رحلةِ الخلودِ صبيحة عرسها.

منذ تلك اللحظة كرهتُ الفعلَ (كان) وأَقْنِعَتَه وإخوته..

الذي يحوّلُ البيوتَ قبوراً

والأجسادَ هباءً

والموتَ العاديَّ فجيعةً

وقلوباً صغيرةً تُشعِلُ الأعراسَ في دمِ الفتياتِ النائماتِ على قنابل أحلامهنّ. 

(2)

وفي إيابي

عدتُ أحملُ خرائطَ الدَّمِ الموزعِ بالتساوي على بيوتِ الحي

أخذتُ حصتي،

أشعلتُ سيجارةً تُؤنسُ وحشةَ الارتباكِ في شرياني

ومضيتُ أحصي خطايَ خطوةً خطوةً

موتاً موتاً..

ماذا لو كنتِ معي؟ هل سأحصي الموتَ خطوتين خطوتين؟

أم أَشدُّكِ وتراً إلى روحي

وأهربُ من الخبرِ العاجل! 

(3)

يا حبيبتي،

أشتاقُ لكلِّ ما حدث قبل الحربِ وما كان حلماً:

النسيمُ في الحديقةِ يشتاقُ أنفاسَكِ

السماءُ تنحني لتأخذَ غيمَها من حريرِ خصركِ

ويحترقُ الرملُ جنوناً عند أصابعِ قدميكِ

أو يحلمُ ملامسةَ ثوبكِ الطويلِ حتى ينابيع رغبتي..

يشتاقُ درجُ الكنيسةِ عبورنا حالمين إلى سماء سكينةٍ وسلام..

وأنا أشتاقُ...

لكلِّ ما فيكِ وكلِّ ما فيَّ.. أشتاق،

إلى لقاء بعد مطر

أقشِّر لكِ برتقالة،

أُطعمُ خجلكِ قلبي

وكلُّ العصافير تُولدُ على تقاطع أصابعنا لحظةَ موتي وأُلُوهَتِكِ..

يا حبيبتي،

أشتاقُ لكِ يا مطري الأول

وذاكرتي البيضاء

ويا حروبي الصغيرة

يا كلَّ بساتين العمرِ

يا سلامي ودفايَ أشتاق لكِ. 

ليلة سلام

أفكرُ في ليلةِ سلامٍ واحدة

أنامُ في سريري حاضناً سنابلَ قمحكِ

وخيالاتِ الأطفالِ قبل الحرب..

لو كنتُ أعرفُ أن يومين تفصلنا عن المذبحة

لكنتُ أعنف في ممارسةِ الحبِّ،

وخلقنا أسطورتنا للحياةِ

كأن نتعاطى القُبلات طويلاً طويلاً فإذا قضّتْ الطائراتُ صباحاتِ الرغبة

أطلقتِ أنفاسَكِ المبللة، تغطي السماءَ ورداً...

ولا يقاومُ الموتُ الجمالَ فيموت.

وأ ن ا

أعانقُ ارتجافكِ

وأكون ليلاً أليفاً،

ليلاً ذا ضلوعٍ لا طائراتٍ

نبضي يهدهد نومكِ

ويسيل النعاسُ رعشاتٍ...

لي قوةٌ وألفُ حيلةٍ تردُّ عنكِ غابةَ شهقاتي

ولا أردُّ – ثانية - صوتَ الموتِ وهو يقبضُ أفئدةَ الضحايا...

أنا عاشقٌ ملعون لا أموتُ قبل أن آخذ قُبلةَ الحياةِ من شفةٍ تُبعثرُ الكلامَ شظايا ليكون موتي غناء!

 ***

يحيى عاشور

أَجُرُّها معي أينما حللت 

ما الذي سيعوّضني

لقاء كلِّ صاروخٍ سمعته ينفجر

لقاء كلِّ مرّةٍ دفعتني الحرب

إلى حافّة الموت

ولم أمتْ؟ 

ما زال دمي يغلي

كلّ مرّةٍ أتذكَّر فيها أنَّ حروباً

حاصرتني في البيت

بطحتْني على الأرض

قيّدتْني بالقلق. 

ما زال دمي يتبخَّر

كلّ مرَّةٍ أتذكَّر فيها عدد الصواريخ

التي سقطتْ قرب بيتي الليلة "الماضية"

رحمتك يا إلهي...

كلَّما حاولتُ عدَّ الصواريخ لا أحصيها! 

يقهرني ضيق معنى النجاة

لأنّي لم أنجُ بعدُ مِنْ أوَّل حربٍ شهدتُها

وها أنا "أنجو" مِنْ أوَّل حربٍ لا أشهدها. 

كلّ مرَّةٍ أكتب عن الحرب

أكتب الكلام ذاته

مع قليلٍ مِنْ التدوير والتبديل

ولا أكاد أصيب جسد الحرب أرضاً. 

جسد الحرب ملتصقٌ بجسدي

أَجُرُّها معي أينما حللت

أمّا روحها

فأخشى أنَّها أمستْ روحي. 

أيُّها العالم

حين تنتهي الحرب وتكون لنا فرصة لقاء

اسمحْ لي بالصراخ في وجهك

كلّما أدنيتُ يدك تربّتُ على كتفي

اسمحْ لي بالبكاء رعباً منك

كلّما حاولتَ أن تبكي من أجلي. 

اسمحْ لي بالجلوس صامتاً أمامك

في غرفة المؤتمر

وفي غرفة التحقيق

وفي غرفة النوم

ولا تسألني عن أيّ شيء. 

أمّا أنت أيّها الاحتلال

فما تزال نكاتك سخيفةً وغير مضحكة

لا أعرف كيف تدسّها حقائقَ في حليب العالم

العالم الذي يفرح بانتهاء الحرب كأنّها فيلم

ناسياً أنّك تعيدنا كلّ مرّةٍ إلى مسلسل الحصار. 

لم أصدّق نجاتي يوماً

اليوم فقط أظنّني تأكّدتُ

أنّني نجوتُ فعلاً مِنْ كلّ الحروب السابقة

ولم أصدّق نجاتي يوماً

حتّى توقّدتْ هذه الإبادة وأنا خارج غزّة. 

كلّ حربٍ عشتُها

كنتُ أظنّها آخر حربٍ أعيشها

ليس لأنّ الحياة كانت تأسف على شيء

بل لأنّ الموت كان الفكرة الوحيدة

التي يمكن أن تدور في رأسي

الموت كان الفكرة الوحيدة

الّتي اتّخذَتْ مِنْ رأسي ملجأً

ولم أكنْ ألجأ في نجاتي

إلّا للموت. 

كنتُ أفكّر دائماً:

سينهال السقف على جسدي في أيّ لحظة

ويغرسني في جوف الأرض أيّما غرس

أو ربّما ستصيبني قذيفةٌ

تقطّع أوصالي وتفحّمها

حتّى قبل أن تتمكّن روحي مِنْ مفارقتي

فلا يسعني أن أحلّق في السماء

ولن تنفعني يومئذٍ عرجتي. 

يا لحسرتي هذه المرّة

يا لحسرتي في نجاتي

الموت أبعد ما يكون عنّي

لكنّه يعانق بحرارته رفاقي

ويلاحق أطفالهم دون حلوى. 

لستُ في غزّة هذه المرّة

كي تسجّل الحرب حضوري

أو حتّى نجاتي مِنْ عدمها.

 ***

مصعب أبو توهة

في جنازة 

في الحرب تحتاج أن تغير ملابسك في كل جنازة تخرج بها،

فأنت لا تريد أن يقول الناس أنك لا تملك غير هندامٍ واحد فقط.

يحدث أن تغيِّر ملابسك أربع مراتٍ خلال ساعات،

كل هذا يعتمد على عدد الجنازات في المنطقة. 

حدث أن بحثت عن ملابس تحت ركام بيوت الجيران،

ملابس أصدقاء من مثل سنِّي. كنت أعتذر وأقول:

"آسف يا فلان، فربما اشتريت هذا القميص أو السروال قبل أيام

ولم تلبس أياً منها. لكن ها أنا ألبسها في جنازتك أو جنازة جارك.

أليس هذا جيداً؟"

أمّا بالنسبة للنعال، فمَن ينظر لها؟

فقط الموتى تحت الأرض يمكنهم تمييزها من الأسفل.

هم فقط مَن سيلاحظون ماذا سأرتدي.

 ***

وضاح أبو جامع

[صعدنا للحياة] 

صعدنا للحياة

كمَن يصعد سيارة فارهة

إلى نزهة قصيرة

واختلفنا كثيراً مَنْ فينا يجلس عند النافذة

أوهمنا الدفع الرباعي

وسرقنا الوقت

لنتلصّصَ على المناظر الخلابة

ونندهشَ من السرعة الفائقة

وتلك المركبات

التي حاولت الاصطدام بنا

وتجاوزناها

حتى نسينا تماماً

أن السّيارة مُفخخة

وكل المركبات التي سبقناها

جاءت

لإسعافنا 

في مدينتكِ البعيدة

تتراقصُ الحرب على جثث

الموتى

وغبار البيوت

وحين تقفزين من صوت القصف

أستيقظُ

في مدينة أُخرى

وعلى جسدي

آثار

تعذيب 

لديّ ابنة عمّ جاءت إلى الحياة بعد سنوات من زراعة النُّطف في أوردة القحط. توفيت إثر شظية طائشة اخترقت رأسها. لم يخطر لذهني قبل الحرب بأن الورود الاصطناعية قد تذبل. 

في عام 2008 حين بدأ وحش الحرب بالنهوض كنتُ أُحضّرُ نفسي لاختبار التاريخ المُعقد في اليوم التالي، ولم تمر سوى لحظات لأسمع لأول مرة في حياتي أول صاروخٍ لطائرة من طراز F16. ولم تغفل عيني حتى شاهدتُ أول رأسٍ مُلقى بعيداً عن جسد وبلا أي تقديمٍ للاختبار. احتسبوا علامة شبه كاملة لكل الطلاب الذين شاركوا في التأريخ. 

يقف الجميع في حيرة من أمره

بينما يُشاهد الفلسطينيّ يبتسم أمام ركام منزله

أو مُكبل الأيدي

في لحظة اعتقاله

وفي المرة التي يحملُ بها نعش ابنه في جنازة، وحدَه مَن يُدرك

بأن الموت

هو الذي يطلب منه أن يبتسم

ليأخذ له صورةً

جيدة.

 ***

حسين البرغوثي (1954 - 2002)

سلامٌ لغزة* 

"ستبقى بدونيَ أختي،

ويبقى بدونيَ أهلي،

ويبقى بدونيَ جزئي،

ويبقى بدونيَ كلِّي.

سلامٌ لمَن يصبر الآنَ في السجنِ،

وقلبي على مَن مات فيه

وقبلة عصفور لمَن يتبقَّى،

سلامٌ على حجرٍ مثل موج البحر أزرقَ،

مثل السماء، ومثل عيون الوعول، وأسراب الحمام

عليه السلام عليه السلام عليه السلامُ

عليه الآنَ

أحلام أرضٍ، وآمال أُمّةْ.

سلام على حجر حوله ضُمة من زهورِ

فإن عيون الصبايا تحاول ضمَّه." 

"سلام لغزةَ،

فقرُ المخيم للخبزِ،

لكنَّه يغتني الآن بالدماءِ،

فقرُ المخيم للأرض والخبزِ،

لكنَّه الآن يصعد للسماءِ.

سلامٌ لكل حمائم غزةَ،

حيث ترفُّ تلامس قلبي،

وتشرب مائي.

وأعزُّ من الكلامِ الصمتُ

إجلالاً لمن يتبقَّى." 

"سلام لرمشين مبتلين بالدمع والورد

في وجه طفل رفحي الرموش

سلام لمَن قدَّموا جسمهم للنعوشِ

وقبلة عصفور لمَن يتبقَّى

ماذا أقدم للمقبرة

إن الطريق إليها

طريق لنخرج منها خروج الإله

ليست يد التذبيح أقوى من سيول الحياةْ.

إنَّ الشوارع مثل العصافير واقفة

تشرب الآن من مطر،

حُرِّ النقاط، وحرِّ الغيومِ، وحرِّ السماءِ،

سلامٌ لهذا الشجرْ،

فهو أطول من غنائي."

 *قصيدة غير منشورة.