استهداف المخيمات الفلسطينية: استمرارية الإبادة واستمرارية المقاومة
التاريخ: 
04/01/2024

تستهدف المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، داخل فلسطين وخارجها، وذلك لضرب رمزية المخيم كحاضنة شعبية للمقاومة والعودة، كونه شاهداً مادياً وثقافياً وتاريخياً على النكبة المستمرة منذ سنة 1948. ولم يكن استهداف المخيمات الفلسطينية وليد لحظة 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإنما هو استهداف بنيوي ضمن سياق عملية الإبادة الجماعية التاريخية التي تستهدف المخيمات الفلسطينية كبنية مقاومة متصاعدة ومتواصلة ومنتشرة شبكياً وسياسياً. وعبر محطات الإبادة الصهيونية المتعددة، تعرضت المخيمات الفلسطينية لأكثر من استهداف ومجزرة، ومنها على سبيل المثال مجزرة مخيم البريج سنة 1953، كما تعرض مخيم الدهيشة لعملية إغلاق، ونُصبت بوابات وأسلاك شائكة حوله في الثمانينيات، وأصبح يُطلَق عليه مخيم الاعتقال الجماعي، بالإضافة إلى مخيم جنين الذي تعرض لمجزرة سنة 2002، ومجازر أُخرى متفرقة في الفترة 2022-2023، فضلاً عن مجازر متصاعدة ومستمرة في مخيمَي طولكرم ونور شمس سنة 2023 حتى اللحظة، وأضف إلى ذلك أن مخيم عقبة جبر شهد محطات متتالية من الاستهداف والتنكيل في الفترة 2022-2023. وتشهد المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية استهدافاً يومياً في الدهيشة، وبلاطة، والجلزون، والفوار، والعروب، ودير عمار، وقلنديا، والأمعري، وغيرها، وهذا إمّا بالاعتقال، وإمّا بالاغتيال، وربما بالاقتحام المتكرر وتدمير البنية التحتية والأملاك العامة والخاصة، والنصب التذكارية ومجسمات الذاكرة الفلسطينية.

محطات من استهداف المخيمات

بيّن تيسير محيسن أنه "في السنوات التي تلت حزيران/يونيو 1967، اتسم واقع مخيمات القطاع باحتضان العمل الفدائي المسلح وهو ما عرّضها لعمليات قمع قاسية. فرداً على أعمال المقاومة، تولى أريئيل شارون، قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال آنذاك، قيادة حملة (1970-1971) كان من سماتها: عزل القطاع وإحكام القبضة العسكرية على المخيمات؛ إعادة هيكلتها التنظيمية؛ توسيع الطرق داخلها وشق طرق عريضة جديدة تسمح بمرور الدبابات؛ تفجير آلاف المنازل وتشريد نحو 16,000 لاجئ؛ نقل معظمهم إلى العريش شمالي سيناء، وبضع مئات إلى الضفة الغربية؛ إبعاد نحو 12,000 من أقارب الفدائيين إلى مخيمات في صحراء سيناء."[1]  وهذا المشهد تكرر في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ إذ شهد مخيم جباليا وغيره عمليات إبادة ومحو وتهجير تشبه سيناريو السبعينيات، لكن بدموية أكبر.

كما بيّن جلال الحسني كيف أن المخيمات في الضفة الغربية وأبناءها تبنّوا أجندة منظمة التحرير الفلسطينية، وساهموا في الصمود، ورفضوا السياسات الإسرائيلية، وواجهوها. وعقب توقيع اتفاقية أوسلو، تخوف اللاجئون من التراجع عن قضيتهم كلاجئين، فرفضوا المشاركة في الانتخابات المحلية، وطوروا نموذج اللجان الشعبية في المخيمات، وحافظوا على خصوصية المخيمات ككيانات اجتماعية سياسية تجسد قضية اللاجئين.[2]  وقد نجحت المخيمات الفلسطينية في المحافظة على نفسها كتجمعات للعمل الوطني المقاوم، والسياسي، والشعبي، والجماهيري، وبقيت شاهداً على عمليات الإبادة والمحو التي جرت سنة 1948 وما تلاها، على الرغم من كل التحولات السياسية والمجتمعية التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني، بالإضافة إلى أنها أبقت قضية الصراع على كونها بين مستعمِر ومستعمَر، فحافظت على الرواية الفلسطينية، وأنجتها من بؤس السياسة، وكسوف الخطابات الرسمية والحزبية.

ولم تُستهدف المخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة فحسب، بل أيضاً طال الاستهداف مخيمات الشتات، وارتكب مجازر فيها، ولم يتوقف، وبقي مستمراً، كون هذه المخيمات تمثل قطار العودة الفلسطينية المنتظَر، والذي يزداد يوماً بعد يوم، بأعداد جديدة من العائدين.

استهداف المخيمات قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر وبعده

لم تتوقف عمليات استهداف المخيمات منذ الانتفاضة الثانية وما بعد انتهائها، لكنها ازدادت بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة، واختلفت طرق الاستهداف ونوعيته وحجمه؛ إذ شهدت مخيمات شمال الضفة الغربية حملة إسرائيلية متصاعدة لكبح جماح تصاعُد ظاهرة العمل الفدائي المسلح فيها، وكان أبرزها عرين الأسود في مدينة نابلس ومخيماتها، وكتيبة جنين في مخيم جنين، وكتيبة الرد السريع في طولكرم ومخيماتها، وسارت خلايا فدائية في مخيم عقبة جبر على النهج نفسه. وقامت السلطات الإسرائيلية بعمليات عسكرية متعددة ومتنوعة من أجل ضرب عصب المقاومة المتنامي في الضفة الغربية، وكلفها ذلك الانشغال عن ساحة غزة في الفترة 2020-2023، فوقعت السلطات الإسرائيلية السياسية والأمنية في فخ استراتيجي، ومُنيت بفشل استخباري كبير، كونها انشغلت بملاحقة جيوب المقاومة وخلاياها في الضفة، في الوقت الذي كانت غزة ومقاومتها تحشد مقدراتها وخبراتها وطاقاتها ليوم العبور العظيم في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ففي 3 تموز/يوليو 2023، اقتحمت قوات الاحتلال مخيم جنين للاجئين ومدينة جنين، ونفذت عدواناً بمشاركة أكثر من 1000 جندي من الوحدات البرية، وطائرات مقاتلة ومسيّرات، وذلك في محاولة لكبح جماح تصاعد أعمال مقاومة كتيبة جنين، وكانت قد افتتحت العدوان بقصف جوي استهدف موقعاً في المخيم، واستمر بعد ذلك [العدوان] أكثر من 48 ساعة، قامت خلالها القوات بعزل المخيم عن محيطه كلياً، واجتياحه بالكامل، واستشهد نتيجة ذلك 12 شهيداً، بينهم 4 أطفال. وقامت قوات الاحتلال بتجريف البنى التحتية داخل المخيم، ولحِق الضرر بـ3.9 كيلومترات من الطرقات بسبب التجريف، وتضررت 460 وحدة سكنية تقريباً، فضلاً عن 9 كيلومترات من أنابيب المياه والصرف الصحي، وهو ما جعل 100 أسرة خارج النظام الصحي، وأدى إلى انقطاع المياه بالكامل لأكثر من 3 أيام. كما هُجّر أكثر من 500 أسرة خلال العملية، ومن أكثر المشاهد انتشاراً خلال العدوان، رؤية المئات وهم ينزحون نحو المدارس أو المستشفيات، بهدف الاحتماء من بطش الاحتلال الذي دفعهم إلى مغادرة بيوتهم، ويصل عدد أفراد هذه الأُسر إلى 3500 فلسطيني، بحسب مكتب الأمم المتحدة، وبحسب مصادر أُخرى، فإن العدد لا يقل عن 4000 فلسطيني. كذلك، اعتقلت القوات خلال ذلك أكثر من 300 فلسطيني، بعضهم حققت معه ميدانياً وأفرجت عنه، وآخرون تم الإفراج عنهم لاحقاً، وبعضهم لا يزال معتقلاً.[3] 

بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، عادت السلطات الإسرائيلية، التي تكبدت خسارة استراتيجية، إلى الانتقام من المخيمات، واستهدفتها خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2023 في قطاع غزة، فشهدت المخيمات عدة مجازر وعمليات إبادة، ومنها مجزرة في مخيم جباليا، راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد في 2 كانون الأول/ديسمبر 2023، وبعدها بأيام قليلة، استُهدف المخيم بقنابل فوسفورية وحارقة.[4]  كما ركز القصف والاستهداف على مخيمات شمال القطاع ووسطه: الشابورة، والنصيرات، والمغازي، والبريج، والشاطئ. والمخيمات الأُخرى هي في دائرة الاستهداف، لكن المذكورة أعلاه شهدت استهدافاً مباشراً بالقتل والإبادة والتهجير والمحو والتدمير البنيوي للحياة فيها.

أمّا مخيمات الضفة الغربية، وتحديداً مخيمات الشمال والوسط، فقد تعرضت لمجازر وعمليات عسكرية إسرائيلية دموية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ فعلى سبيل المثال، شن جيش الاحتلال، في 8 كانون الأول/ديسمبر 2023، عدواناً على مخيم الفارعة جنوبي طوباس، بعد أن تسللت قوات خاصة من المستعربين إلى المخيم، وتبعتها تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، فجرى اعتقال شابين، واستشهد 6 أشخاص، بينهم طفل عمره 14 عاماً. وفي 12 كانون الأول/ديسمبر، شن الجيش عدواناً على مدينة جنين ومخيمها، فاستشهد 7 فلسطينيين، واعتُقل أكثر من 100 فلسطيني، وفي اليوم التالي، قصفت القوات صالون حلاقة في المخيم، واستمرت التعزيزات الإسرائيلية في محاصرة جنين ومخيمها لمدة 3 أيام متتالية.[5] 

كما اقتحم الاحتلال مخيم الفارعة جنوبي طوباس في 18 كانون الأول/ديسمبر 2023، ودفع بتعزيزات عسكرية كبيرة إلى المخيم، وكانت هذه هي عملية الاقتحام الثانية بعد عملية سابقة منذ 10 أيام، واستشهد 4 فلسطينيين، بينهم طفل. وفي 27 كانون الأول/ديسمبر، استشهد 6 شباب في مخيم نور شمس، بعد أن استهدفتهم طائرة مسيّرة، وأعاقت قوات الاحتلال وصول الإسعاف إليهم وهم جرحى. وفي 31 كانون الأول/ديسمبر 2023، أُصيب فلسطينيان بسبب قصفهما بمسيّرة إسرائيلية في مخيم نور شمس شرقي طولكرم، ولم تتمكن طواقم الإسعاف من نقلهما إلى المستشفى بسبب محاصرة الموقع، وشنت القوات حملة مداهمات واعتقالات هناك، وخلال ذلك، جرى اقتحام مدينة طولكرم ومخيمها بعدد كبير من الآليات العسكرية.[6] 

كما تحارب إسرائيل وجيشها الرموز الفلسطينية في المخيمات وخارجها، وتركز في حربها على الرموز والشواهد الثورية الفلسطينية، من أسماء، وصور، وأعمال فنية، ونصب تذكارية تخلد ذكرى المقاومة والبطولة الفلسطينية؛ إذ جرى استهداف مجسم الحصان في مخيم جنين، ونصب تذكارية لشهداء فلسطينيين في عدة مخيمات، كما قام الجنود بإنزال علم فلسطين عن مبنى مركز لاجئ في مخيم عايدة شمالي بيت لحم مرتين متتاليتين خلال الأسبوع نفسه، وهذا ما يؤشر إلى أنها كذلك حرب على الهوية والحكاية الفلسطينية.

خاتمة: استمرارية المقاومة

على الرغم من حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل بكل ما أُتيح لها من قوة وجيش ودعم مادي وسياسي واستخباراتي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وباقي التجمعات الفلسطينية، فإن تلك الحرب فشلت في قتل الفكرة أو اغتيالها، وكان اغتيال الشيخ صالح العاروري في لبنان في 2 كانون الثاني/يناير 2024 محاولة لتحقيق صورة انتصار، لكن الأمور كانت معاكسة، فكل من حالة التضامن واحتضان فكر العاروري وفكر الفدائي الفلسطيني لا يزال يسري في عروق المخيمات والقرى والمدن والبلدات، ويتجلى في أحواش البلدات القديمة في القدس ونابلس والخليل وغيرها، وينبعث في أزقة المخيمات، وبين شيبها وشبابها، فالمقاومة أضحت جدوى مستمرة لا يمكن أن توقفها حرب الإبادة الإسرائيلية.

ويمثل استهداف المخيمات محاولة إسرائيلية مستمرة لضرب رمزية المخيم كبيئة حاضنة للعمل المقاوم، لكن هذه السياسة الإسرائيلية المتجددة تفشل بصورة دورية، والمخيمات تجسد خزان الثورة، وتؤثر بصورة شبكية في محيطها الريفي والمديني، فهي تمثل نقاط الوصل بين الجغرافيا الفلسطينية المحلية والمباشرة التي تحيط بالمخيم، وتصدر العمل الفدائي وتُعيد بعث الهوية الفلسطينية كلما خبا وميض الفعل السياسي أو العسكري. كما أن المخيمات تمثل نقطة وصل تاريخي، وتعبّر عن الاستمرارية التاريخية للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني في مواجهة استعمار استيطاني إبادي.

 

[1] تيسير محيسن، "اللاجئون الفلسطينيون في قطاع غزة منذ 1967: حواضن للمقاومة"، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، استُرجع بتاريخ 24/12/2023.

[2] جلال الحسيني، "اللاجئون الفلسطينيون في الضفة الغربية: تصميم على التأثير بلا هوادة في جدول الأعمال الوطني"، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، استُرجع بتاريخ 24/12/2023.

[3] رازي نابلسي وآخرون (محررون)، "راصد الاستعمار الإسرائيلي وسياسات الفصل العنصري"، العدد 3 (تموز/يوليو 2023)، استُرجع بتاريخ 25/12/2023.

[4] رازي نابلسي وآخرون (محررون)، "راصد الاستعمار الإسرائيلي وسياسات الفصل العنصري"، العدد 8 (كانون الأول/ديسمبر 2023)، قيد النشر.

[5] المصدر نفسه.

[6] المصدر نفسه.

عن المؤلف: 

أحمد عز الدين أسعد: محاضر في جامعة بيت لحم، وباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

A Palestinian activist holding a national flag towards a bulldozer damaging a street during an Israeli raid in the centre of Jenin in the occupied West Bank on September 2, 2024. (Photo by RONALDO SCHEMIDT/AFP via Getty Images)
نادين صايغ, شمس هنية
A man picks up a Lebanese flag from the rubble after an Israeli airstrike on an apartment block, on October 3, 2024 in Beirut, Lebanon. (Photo by Carl Court/Getty Images)
مايا ك.