هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلّ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبّي الأملْ!
محمود درويش، "حالة حصار" (2002).
***
نحن في غزة بخير.
كيفكم؟ ماذا عن ضمائركم؟
قِيَمكم وكل شيء؟
نحن قلقون عليكم.
ريم أبو جبر من دير البلح، غزة. بُثّت هذه الأبيات على قناة "فرانس24" (FRANCE24) العربية في 16 تشرين الأول / أكتوبر 2023.
***
خلال مؤتمر عن الحرف التراثية عُقد في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، طرح أحد الباحثين سؤالاً عميقاً، مستفسراً عن مصدر التفاؤل والأمل لدى الشعب الفلسطيني، ومشيراً إلى استخدامي الكوميديا السوداء للفت الانتباه إلى الممارسات التراثية اليومية عند الفلسطينيين. داهمني هذا السؤال، فأنا للحظات لم أكن مستعداً للإجابة، لأن الأشخاص المتفائلين حقاً لا ينخرطون بالضرورة في التفكير العقلاني، ولا يمكنهم التعبير عن موقفهم بالكلمات، بل بدلاً من ذلك، يعيشونه بالممارسة.
في تلك اللحظة، ارتجلت جواباً أثَرْت فيه الانتباه إلى "مسيرات العودة الكبرى" المستمرة في غزة، والتي بدأت في آذار / مارس 2018، واستمرت لستة أشهر تالية وبالزخم نفسه. فقد شارك في هذه المسيرات أسبوعياً، وأحياناً يومياً، أطفال وشباب وشيوخ وفتيات وفتيان ورجال ونساء غزة الذين كانوا يتجمعون سلمياً عند السياج الحدودي، "السلك" الذي أقامته القوات العسكرية الإسرائيلية، بهدف منع الفلسطينيين في غزة من العودة إلى وطنهم الذي صار إسرائيل اليوم.
في كل يوم جمعة، كانوا يهرولون ويتجمّعون ويرفعون أصواتهم بالهتافات، بل يرشقون النقاط العسكرية الإسرائيلية بالحجارة، مدركين المخاطر المحدقة بهم، كإطلاق النار الحي عليهم، أو إمطارهم بالغاز المسيل للدموع، أو الإصابة، أو القتل، أو الاعتقال. ومع ذلك، كانوا يكررون مسيرهم هذا أسبوعاً تلو آخر لتسجيل رفضهم للحصار الذي فُرض عليهم منذ سنة 2007، ورفضهم لاستمرار تهجيرهم وحرمانهم من العودة إلى بيوتهم، متسلحين بالأمل بأن تتغير النتيجة في يوم من الأيام، فيجدوا سبيلاً للعودة إلى قراهم وبلداتهم التي هُجّروا منها من خلال هذه المسيرات الجماعية الرمزية. إن صمودهم وإصرارهم وشجاعتهم في مواجهة الخطر، تُظهر قوة أمل الشعب الفلسطيني، وتفاؤله الذي لا يتزعزع.
إن الأشخاص الذين يرزحون تحت نير الاستعمار العنيف وغير الإنساني وغير العقلاني بطبيعته، لا يمكن أن يخضعوا للمفاهيم التقليدية للعقلانية، وهذا لا يعني أنهم يفتقرون إلى العقلانية، بل إنهم ينسجون عقلانية يصوغها سياقهم غير العادي. أمّا المستعمرون الذين جُرّدوا من أرضهم وفضاءاتهم، فإن حياتهم وتطلعاتهم تتمحور حول الزمن الذي يمتلكون وفرة منه. وهكذا يصبح الزمن، في السياق الاستعماري، سلاح الضعفاء والمحرومين، والذي يمكن استخدامه في نضالهم الدائم. ونحن من منظورنا الخارجي، نسمي هذا المورد "الصمود" أو "الصبر"، ففي ظل الحصار المستمر، هناك فائض من الانتظار، ووفرة من الوقت، وحُزَم من الآمال والأحلام.
ولعل الانتقال من مستوى الـ "ماكرو" (غزة السجن الكبير) إلى مستوى الـ "ميكرو" (السجن ومركز الاعتقال الإسرائيلي) يساعدنا على فهم العلاقة العضوية بين الوقت والأمل. فلنأخذ على سبيل المثال أسيراً فلسطينياً محكوماً بالسجن المؤبد في السجون الإسرائيلية بسبب مقاومته سياسات الاستعمار الاستيطاني. إن فرص إطلاق سراح هذا الأسير ضئيلة، إن لم تكن معدومة تماماً، فلماذا إذاً يختار هذا الأسير الزواج والشروع في العملية المعقدة المتمثلة في "تحرير النطف" من أعتى منظومات الحجز والاعتقال لتمكين عملية الإخصاب التي يتم تتبّعها والإشراف عليها بدقة؟ أهذا كله على أمل إنجاب طفل قد لا تتاح له الفرصة أبداً لحمله بين ذراعيه؟ وفي المقابل، ما الذي يدفع امرأة إلى الزواج من أسير وإنجاب أطفاله في مثل هذه الظروف الصعبة؟ ففي عالم تبدو احتمالات تحقيق العدالة غير ممكنة، فإن الأمل الدائم والوقت غير المحدود يصبحان القوتَين اللتين تحركان الفلسطينيين للقيام بتصرفات لا يفهمها على الأقل مَن يراقبها من الخارج.
بصفتي مهندساً معمارياً وممارساً للحفاظ على التراث، شهدت بنفسي هذه التصرفات في أثناء ترميم التراث في المناطق التاريخية في غزة، إذ كنت محظوظاً لأداء دور في ترميم العديد من المباني التاريخية: دار السقا وسط المركز التاريخي لغزة في سنة 2013؛ دير الخضر الأثري في دير البلح في سنة 2015؛ دار الغصين في سنة 2020 على تخوم المركز التاريخي لغزة؛ وفضلاً عن ذلك، قام زملائي في "مركز المعمار الشعبي الفلسطيني" / "رواق" بترميم حوش الوحيدي، وساهموا في التخطيط لمشاريع ترميم أُخرى في سنة 2022.
فناء دار السقا المرمم، مدينة غزة، 2014. أرشيف "رواق"
نشاط خارجي للأطفال في مكتبة دير الخضر الأثري، أحد مشاريع "جمعية نوى للثقافة والفنون" في دير البلح، غزة، 2017. أرشيف "رواق"
القاعة المركزية لدار الغصين بعد الترميم، مدينة غزة، 2020. أرشيف "رواق"
حوش الوحيدي بعد الترميم، افتتاح "مركز بسمة"، مدينة غزة، 2022. أرشيف "رواق"
تُعتبر هذه المباني من الكنوز التاريخية لغزة، وهي جزء من الحياة البشرية المستمرة في غزة لآلاف السنين، إذ تُعدّ هذه المباني التاريخية والمواقع الأثرية أرشيفاً حياً لتاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط. وكل حضارة، سواء مرّت سريعاً بغزة أو أطالت بها المقام، تركت وراءها بقايا من حضورها، وحملت معها أجزاء من روح غزة. فميناء الزهور، وهو الميناء المهم لهذه المدينة، كان يقع على مفترق طريق الحرير وطريق التوابل الساحلي اللذين يربطان فراعنة مصر في الجنوب بملوك الفرس في الشرق، وكانا أيضاً بمثابة حلقة وصل للتبادل التجاري والثقافي مع الإمبراطورية الرومانية والقسطنطينية البيزنطية في الشمال، وهو ما سهّل تدفق البضائع والأفكار.
إن التاريخ الغني والدرامي لقطاع غزة، ولمدينة غزة خاصة، لا يعبّر عنه فقط العدد القليل من المباني التاريخية التي لا تزال قائمة في غزة، بل يمكن الإشارة إلى التمظهرات الملموسة لهذا التاريخ الغني من خلال بقايا أسوار المدينة وتحصيناتها القديمة، والأماكن المقدسة فيها من معابد وكنائس وأديرة ومساجد وأضرحة، فضلاً عن الأماكن العامة من حمامات وبازارات وسرايا، وعن قصور النخبة الخلابة التي تقف إلى جانب مساكن أكثر تواضعاً لعامة الناس. فهذه البقايا المادية مجتمعة تشير إلى مدينة نابضة بالحياة على مر العصور، فسجلّ "رواق" للمباني التاريخية في فلسطين (2006) يوثق أكثر من 400 مبنى تاريخي تتركز بشكل رئيسي في مدينة غزة. وقد دُمّر جزء كبير من مباني قطاع غزة التاريخية خلال العمليات العسكرية في الحرب العالمية الأولى، بينما أزيلت مبانٍ أُخرى لإفساح المجال للتوسع الحضري السريع لاحقاً بسبب تدفّق اللاجئين من ساحل فلسطين في أعقاب نكبة 1948، إذ شُيّدت المباني الشاهقة لاستيعاب الزيادة المفاجئة في عدد السكان.
ونُفّذت مشاريع الترميم التي ذكرتُها في أعقاب سلسلة من الهجمات الوحشية على غزة: دار السقا بعد حرب 2012؛ دير الخضر الأثري بعد حرب 2014؛ دار الغصين بعد العدوان المتواصل في 2018 / 2019؛ حوش الوحيدي بعد حرب 2021. وتم تطويع هذه المباني التاريخية من طرف "رواق" لتكون مقارّاً لمراكز مجتمعية ونسوية، ومراكز أطفال وأنشطة ثقافية فيما يعرف بالمكان الأكثر كثافة سكانية في العالم.
في سياق غزة، يحفّز المفهوم الكامن وراء الترميم، بمعنى إعادة المباني والمنشآت إلى ما كانت عليه سابقاً، على طرح أسئلة مثيرة للقلق: ما هي أهمية ترميم المبنى عندما نكون في شكّ من نجاته من موجة التدمير التالية؟ فمثل هذا التساؤل هو جزء لا يتجزأ من البيان التنظيمي لبينالي رواق الخامس (2015 - 2016) الذي تناول فكرة الاستدامة، إذ أعيد حينها تصور هذا المصطلح في غزة باعتباره "احتفالية التدمير ثنائية الحول" (Biennale of Destruction)، مع أن الدمار هو ما نتوقعه، إلّا إننا نصلي لتجنّبه.
والسؤال الأكثر صعوبة هو: ما الذي يعنيه أصلاً الشروع في جهود "إعادة الإعمار ما بعد الحرب" عندما تصبح المنشآت المشيدة حديثاً أهدافاً للحرب التالية؟ إن الرد المدوِّي والوحيد هو "الأمل". يظل الأمل هو القوة الدافعة لصمود سكان غزة الذين يلهمون الجهات المانحة، والوكالات المنفّذة المتفانية، والعاملين في مجال التراث مثلي، لبدء مشاريع تركز في جوهرها على المستقبل حتى عندما يكون هذا المستقبل محفوفاً بالمخاطر.
وبينما يحمل سكان غزة آراء متنوعة بشأن تمثيلهم السياسي وتعدد الأحزاب السياسية، يسود إجماع ملحوظ على جدوى المقاومة، فسكان غزة يطمحون إلى العيش في بيئة "أمن وأمان"، لكن ليس على حساب القبول بالاستعمار. وكثيراً ما يتم نسج ثنائية ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة تصوَّر فيها رام الله على أنها خاضعة ومسالمة وتسعى للازدهار والسعادة، في حين تبرز غزة باعتبارها عاصمة للمقاومة والحرب، ومكاناً خصباً للانحدار والمعاناة.
ركبت مرة سيارة أجرة من معبر بيت حانون إلى دير البلح، وأجريت محادثة معبّرة مع سائق سيارة أجرة كان من الواضح أنه من ذوي الدخل المحدود لأنه أبدى استعداده لإمضاء يوم كامل معي في دير البلح في مقابل عشرين دولاراً فقط، معلناً بحزم أن “الكرامة هي الأهم، ومن دونها تفقد الحياة معناها." فمن وجهة نظره، فإن الحفاظ على كرامة الإنسان في مواجهة الشدائد له الأسبقية على كل شيء آخر، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة القوات الإسرائيلية عند الضرورة.
لماذا يُعتبر ترميم التراث في غزة بمثابة نافذة فريدة يمكننا من خلالها أن نلقي نظرة على روح غزة وجوهرها، وعلى قوة الأمل في ظل ظروف تبدو "يائسة"؟ لقد أعرب جورج ماركوس، المشرف على رسالة الدكتوراه خاصتي في جامعة كاليفورنيا، إرفاين (The University of California, Irvine)، ذات مرة، عن حسده لي لتقمّصي دوراً مزدوجاً كمهندس معماري وعالم أنثروبولوجيا، مشيراً إلى أنني، كمهندس معماري، أستطيع إجراء بحث إثنوغرافي بالطريقة نفسها التي أصمم بها البيوت والمباني في الإستوديو الخاص بي. ففي الإستوديو، يتفاوض المهندس المعماري باستمرار بشأن سلطته وديناميات القوة مع زبائنه، وغالباً ما يشعر بإحساس بالعجز. ولذا، عندما يعمل علماء الأنثروبولوجيا في عالم إنتاج المعرفة في حقل مجرّد من أي أحكام مسبقة أو سلطة مفترضة، يكون منغمساً فعلياً في إنتاج معرفة أخلاقية، معرفة تحررية ما بعد استعمارية.
عند تصميم مشاريع الترميم في غزة، يكون المعماري في مواجهة هذا الواقع، فهو يواجه سياقاً لا يشكّل الطريقة التي يفكر بها في الأشياء فحسب، بل الأهم من ذلك أيضاً أنه يملي الطريقة التي يجب أن يتعامل بها مع عملية إنتاج هذه الأفكار والمفاهيم. وهكذا تصبح غزة مثالاً حياً للتفاعل الملموس بين مجالات القوة والمعرفة والإبداع في مواجهة الشدائد.
أمّا في الضفة الغربية، وعلى غرار العديد من الدول أو المناطق الأُخرى، فإن المهندسين المعماريين والمرممين يتمتعون بحرية الاختيار بين مجموعة كبيرة من المواد والتقنيات والمعدات والأجهزة المتوفرة في السوق بسهولة. وعادة ما تبدأ عملية الترميم بفكرة مجردة تتشكل بالتدريج عندما تترجَم إلى واقع مادي على أرض الواقع. لكن في سياق غزة الفريد، فإن هذه العملية التقليدية تنقلب رأساً على عقب، ذلك بأن القيود الصارمة المفروضة على استيراد مواد البناء نتيجة الحظر الإسرائيلي تطال نحو سبعين من المواد والسلع الأساسية المدرجة في قائمة "الاستخدام المزدوج" المحتمل (إمكان الاستفادة منها لأغراض عسكرية). وهذه المواد الممنوعة تتضمن سِلَعاً يومية (كالمعكرونة والشوكولاتة وبلسم الشعر)، كما تشمل مواد البناء الأساسية مثل الخشب والحديد والأسمنت. لذا عند التصميم في غزة، أو لغزة، نبدأ بما هو متاح بشكل فوري من المواد، ونعمل بشكل عكسي نبدع فيه تصميماً يلائم محددات وإمكانات الموارد المتاحة. ويمكن وصف هذه الطريقة بأنها "مقلوبة"، مثل الطبخة الفلسطينية المشهورة التي تحمل الاسم نفسه. وتصبح عملية التصميم مليئة بالمفاجآت، إذ يرى المصمم، كما الطباخ، النتيجة بإحساس مبهج ومليء بالدهشة، حتى عندما تكون لديه فكرة معقولة عمّا يمكن توقّعه. إن الاستعداد للتكيف مع السياق يُظهر انفتاحاً وإبداعاً غير عاديين تجاه حل المشكلات، واللذين يجسّدان روح الناس في غزة.
بدأ "رواق" مهمة طموحة في سنة 2013 لترميم مبنى دار السقا التاريخي [الذي دمره الاحتلال بشكل كامل في حرب 2023] بتصميم شامل وتحضير جداول كميات مفصلة ومواصفات دقيقة للمشروع الذي أرسلناه إلى زملائنا في غزة لتنظيم زيارة للموقع مع المقاولين المحتملين لتنفيذ المشروع. وسرعان ما تبيّن أن تصميماتنا على الورق ليس لها أي قيمة تُذكر في غزة، ولذا قمنا بإعادة تصميم المشروع بالكامل، مركِّزين على المواد والتقنيات التي يمكن الوصول إليها في أسواق وورش قطاع غزة.
وخلال تجربتنا في المساعدة على ترميم تراث غزة المعماري، تأثرنا بشدة بالإصرار العميق الذي أبداه الطلاب والمتدربون والمهندسون والحرفيون المهرة والعمال الدؤوبون والمقاولون واسعو الحيلة، والذي هو على النقيض من العبارات التقليدية التي نواجهها في الضفة الغربية: "لا يمكن فعل ذلك"، أو "مستحيل"، أو "إن شاء الله"، كتعبير ملطف للرفض في معظم الأوقات. وحتى كلمة "صعب" بدت في غزة كأنها مفهوم أجنبي، بل كان هناك دائماً الاستعداد للمحاولة. لقد تفوقت المشاريع التي نفذناها في غزة على نظيراتها في الضفة الغربية من حيث الكفاءة، وجرى الانتهاء منها بنصف التكلفة، وبنصف الوقت المخصص لمثيلاتها في الضفة الغربية. وكان الجو المحيط بمواقع هذه المشاريع في غزة بهيجاً دائماً، تتخلله في أكثر الأوقات ضحكات وفرح من القلب.
إن كفاءة الترميم في قطاع غزة تمثل نقداً حاداً للنهج التغريبي الذي بات يتغلغل في وجودنا في الضفة الغربية، وخصوصاً في فترة ما بعد رحيل ياسر عرفات من سنة 2004 حتى الوقت الحاضر، وذلك من حيث الاندفاع نحو سياسات "التكييف البُنيوي" (structural adjustment)، والخصخصة، والتحلل من تقديم الخدمات العامة (باستثناء الأجهزة الأمنية)، والتي سببت الضغوط النفسية، والديون الكبيرة، وانتشار ثقافة الفردانية. وفي خضم هذا كله، تبرز غزة كرمز للمقاومة يقف في مواجهة مَن يرغب في حرماننا من الخيارات التي نسعى نحن، كفلسطينيين أينما نكن، لتحقيقها. وهنا لا بد من طرح أسئلة مهمة: مَن الذي يعاني من الحصار حقاً في نهاية المطاف؟ ماذا يعني أن يكون لديك جسد متحرر نسبياً (أو صورياً)، لكنه حبيس طبقات متعددة من المخاوف والقلق؟
بينما أكتب هذه الكلمات الأخيرة في أوائل تشرين الثاني / نوفمبر 2023، يُطلّ قطاع غزة كشاهد هشّ على القدرة على الصمود وسط الدمار المتواصل. فمباني غزة وبُنيتها التحتية وأحجارها ورمالها وبحرها المائج عانت آلاماً لا تطاق، وفقدت آلاف الأرواح، وتغيرت حياة آلاف أُخرى إلى الأبد بسبب محاولات المحو لمجتمع بأكمله، غير أن غزة طائر فينيق أسطوري يُذهلنا مراراً وتكراراً، بنهوضه من رماد اليأس. وطبعاً، لا يمكن للأمل أن يعيد إلى الحياة مَن سقطوا، أو يرمم مشهد غزة الممزق، لكنه قادر على بعث الروح فينا، وعلى إيقاد نار في مخيلاتنا من خلال استحضار مستقبل بديل. وإذا كان المقصود أن تعيش غزة وجرحها مفتوح، فإنها بجسدها المكلوم باتت شاهدة على شجاعة استثنائية، وهذه شهادة على الروح الإنسانية المتينة التي تتحدى القمع والاضطهاد، وتسعى كطوفان هادر نحو الحرية.
* تُنشر هذه المقالة هنا بالعربية بالتزامن مع نشرها بالإنجليزية في مجلة Jerusalem Quarterly.