بعد أشهر قليلة من انتقالي إلى برلين، حضرت أمي لزيارتي. كانت هذه الزيارة مخططة مسبقاً، لكنها تزامنت مع موعد دفن ابن عمها، اللاجىء من سورية، والذي توفي في منفاه الجديد، برلين. اجتمعتُ يومها لأول مرة مع الجزء المهجر من عائلتي، من عائلة أمي، والذين حضر كثيرون منهم للمشاركة في الدفن من عدة مدن أوروبية، هُجّروا إليها قسراً للمرة الثانية.
لم تكن هذه التجربة هي الوحيدة التي أشعر فيها بوجود علاقة استثنائية بين الفلسطينيين، وربما فلسطين وبرلين. إذ صادف أيضاً أن التقيت أحد أقربائي، من عائلة أمي، في أحد مطاعم المدينة. ففي مطعم فلسطيني في برلين، اكتشفنا أننا نحمل في هواتفنا الصورة ذاتها لعائلة جدته، أخت جدي، أو "ستّه أخت سيدي" باللهجة الفلسطينية التي ما زلنا نتحدث بها نحن الاثنين. نسختان لصورة واحدة وجدت طريقها إلى ألبومات الصور لعائلتين، واحدة في سورية، والثانية لدى عائلة فلسطينية نجت من "الانفجار الكبير"،[1] وتعيش اليوم في فلسطين 1948، ومنها إلى هواتفنا النقالة.
لا مكان يشبه تجربتي في بلدي مثلما أعيشها اليوم في برلين. ففي أول أيام الحرب على غزة، وكما في كل مرة أشتاق فيها إلى البلد، صرت أتردد كثيراً على شارع زونين آليه (Sonnenallee) الذي يعني بترجمة حرفية "شارع الشمس"، وبات الاسم الشائع له هو "شارع العرب"، وفي تسمية أُخرى، أكثر تنميطاً وأقل شيوعاً، هو "قطاع غزة". وإذا أردنا تسمية أكثر دقة في وصف التجربة المعاشة السائدة في الشارع، فيجب أن يُطلَق عليه اسم "شارع فلسطين"، لكن لا مكان لفلسطين في ألمانيا. ليس في هذه الأيام تحديداً.
الهجرة الفلسطينية إلى برلين
كانت برلين وجهة لكثير من اللاجئين الفلسطينيين في ثمانينيات القرن المنصرم وتسعينياته. وقد اجتمعت عدة ظروف عزّزت هجرة الفلسطينيين إلى الشمال، بينها هجرة قليلة العدد نسبياً، في الستينيات لطلبة فلسطينيين وعمالة فلسطينية كانت حصيلة اتفاقيات بين شركات أوروبية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأـدنى (الأونروا)، مثل شركة فولفو في السويد، والتي سمحت بوصولهم إلى الشمال الأوروبي.[2]
ومثّلت هذه الشبكة الصغيرة نسبياً حاضنة اجتماعية للهجرات التي تلتها، حين أدت ظروف برلين السياسية، دوراً في زيادة عدد اللاجئين الفلسطينيين فيها، وخصوصاً بعد أحداث "أيلول الأسود" في الأردن، ومجزرة تل الزعتر والحرب الأهلية ومجزرة صبرا وشاتيلا والاجتياح الإسرائيلي ولاحقاً حرب المخيمات، في لبنان. وفي ضوء الظروف السياسية الخاصة بألمانيا في تلك الفترة، فإن هذه كانت أكبر موجة من موجات هجرة متعددة للاجئين الفلسطينيين إلى شمال أوروبا، وتحديداً ألمانيا.[3]
آنذاك، كانت الطائرة تهبط في مطار شونيفيلد، الواقع في شرق برلين، ومنه، وعبر تأشيرة عبور كان من السهل الحصول عليها،[4] يعبر اللاجئون إلى برلين الغربية التي كانت توفر فرص عمل أفضل. لم يعترف الشطر الغربي بالحدود مع الشطر الشرقي، وعُرفت برلين الغربية بـ "المدينة المفتوحة" التي رحّبت باللاجئين القادمين من الشرق، وقد سهّل هذا الأمر قوانين اللجوء التي كانت بين قوانين الدول القليلة التي تعرّف الحقّ في اللجوء كحقّ فردي أساسي، إذ كان يكفي أن تنطق بكلمة لجوء ليسمح لك شرطي الحدود بالعبور.[5]
لم تبقَ سياسات الهجرة إلى ألمانيا مفتوحة وسهلة مثلما كانت عليه، ذلك بأن أعداد اللاجئين من الشرق فاقت كثيراً أعداد اللاجئين الوافدين من الكتلة الشرقية، الأمر الذي حضّ الدولة على تغيير سياسات اللجوء، فليس هذا هو الشرق الذي خططت أن تفتح له ألمانيا أبوابها.[6] ومن خلال مساعٍ حثيثة، وعبر تعديلات قوانين الهجرة منذ نهاية سبعينيات القرن المنصرم، حاولت جمهورية ألمانيا الاتحادية الحدّ من زيادة عدد اللاجئين من ناحية، والتضييق قدر المستطاع على مَن وصل إليها في السابق، في محاولة لإجباره على العودة إلى بلده. أمّا الفلسطيني، فلم يكن في إمكانه العودة إلى بلده.
شكلت المكانة القانونية الخاصة للفلسطينيين، وبعض المجموعات اللاجئة الأُخرى، كالأكراد مثلاً، تحدياً للاجئين، لكن أيضاً للنظام الألماني البيروقراطي الحداثي. فمن ناحية، وُسم اللاجئون الفلسطينيون تحت تعريف "لاجىء" أو "طالب لجوء" وليس تحت وسم "لاجىء سياسي"، الأمر الذي مسّ بمكانتهم القانونية وبتأشيرات إقامتهم، ومن ناحية أُخرى تقلصت حقوقهم المستحقة من الإقامة، والتي وصلت في عدة حالات إلى حالة بينية مستدامة من "تأجيل الترحيل" تحت تأشيرة تسمى "دولدونغ" (Duldung).
عادة يسجَّل اللاجىء في المنظومة البيروقراطية في ألمانيا تحت اسم بلده، لكن لا وجود لفلسطين في هذه المنظومة، ولهذا سُجل اللاجىء الفلسطيني بداية، تحت بند "عديم الجنسية" (Stateless)،[7] ثم في سنة 1984، خُصص للفلسطينيين مع مجموعات أُخرى ليس لديها جوازات سفر، بند آخر هو "غير واضح الجنسية" (ungeklärte).[8] وقد تغيرت القوانين منذ ذلك الوقت، وحصل جزء من اللاجئين الفلسطينيين على إقامات أكثر ثبوتية، وفي بعض الأحيان جنسيات ألمانية، وإن كانت هذه الجنسية لا تضمن له الحقّ في زيارة بلده، ولو كسائح.
"شارع العرب"
يقع "شارع العرب" في المنطقة الحدودية بين الشرق والغرب. وعند سقوط جدار برلين، ومع الوقت، تحوّل هذا الشارع المهمّش إلى مكان سكن كثيرين من اللاجئين الذين ليس لديهم إقامات ثابتة، وإلى شارع مركزي. غير أن تراكم الظروف والشروط الكثيرة جعلت من الشارع والمنطقة المحيطة به، مشهداً مركباً فيه كثير من التناقضات. فمن ناحية، تسببت سياسيات الهجرة، قبل تضييقها، بزيادة عدد اللاجئين الذين شكّلوا نقطة جذب في شبكة الهجرة إلى الشمال، لقدوم مزيد من اللاجئين الفلسطينيين، حتى بعد تضييق سياسات الهجرة. ومن ناحية أُخرى، "تورطت" ألمانيا بالفلسطيني الذي لا وطن لديه كي ترحّله إليه.
لكن سياسات الهجرة نفسها ساهمت في إفقارهم من خلال حرمانهم الحقّ في الحصول على التعليم والعمل اللائقين، الأمر الذي دفع العديد منهم إلى أعمال ذات طابع اقتصادي حر. واستقطبت هذه المصالح مزيداً من العمالة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية، ولا سيما في قطاعات المطاعم وتجارة المنتوجات الغذائية. لاحقاً، ومع زيادة اللجوء العربي إلى المدينة، وخصوصاً بعد استقبال ألمانيا كثيراً من اللاجئين السوريين، زادت هذه المصالح، وزاد أيضاً الطلب على المنتوجات العربية عامة، فأصبح من السهل أن تجد الطحينة والزيت والزيتون المستوردة من بلدنا، فضلاً عن بطانيات النمر، وتزيينات البيوت المذهبة، وكثير من الآيات القرآنية المأطرة للزينة، وأيضاً الكوفية.
علاوة على ذلك، امتلأت جدران الشارع والمنطقة المحيطة بشعارات "غرافيتي" الفلسطينية والملصقات لدعوات إلى نصرة الأقصى والأسرى يتصدرها اسم حركة "صامدون" التي تم مؤخراً اعتبارها حركة خارجة عن القانون في ألمانيا، كما كثرت فيها الملصقات لحفلات عربية. هذه التجربة البصرية، إلى جانب تجارب أُخرى، شكلت حالة حسية مكثفة جعلتني أنسى أحياناً أن الفلسطينيين والعرب في هذا الشارع لا يشكّلون الأغلبية من سكانه، بل أتخيل في كل مرة أزوره بأني رجعت إلى شارع صلاح الدين، حين سكنت في القدس في بداية الألفية الثالثة.
وعلى الرغم من الدفء الذي تمنحه هذه التجربة القريبة من الوطن في منافي الناس القسرية والمختارة، فإن تجربة هذا المشهد لا تخلو من الجوانب الأقل جمالاً. فمثلما هي الحال في كثير من أحياء اللجوء في العالم الغربي، وبفعل سياسات التهميش والتمييز، فإن الفقر وقلّة التعليم يتركان آثارهما أيضاً على التجربة المعاشة في "شارع العرب". فالانطباع العام في ذلك المكان هو أن مساحات التنوع الثقافي، أو التنوع في أنماط الحياة، محدودان، الأمر الذي ربما يجعل العرب والفلسطينيين الذين لا يمارسون نمط حياة ملتزماً ومحافظاً اجتماعياً، لا يشعرون دائماً بالراحة عند وجودهم في شارع العرب. وقد يختار بعضهم أن يتجنب تصرفات وممارسات سائدة في حياتهم اليومية العادية في برلين، عند وجودهم في تلك المنطقة، وهو ما يضفي مرة أُخرى شعوراً مألوفاً، كأنك في زيارة آنية للبلد التي تركها البعض هارباً من تجربة العيش في برلين.
ما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023
في الأسابيع الأولى بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، ومثلما هو الأمر في بلدنا في أوقات الحروب والانتفاضات الشعبية، حين يتعالى الناس عن الخلافات والاختلافات، فإن حيزاً استثنائياً تؤجَّل فيه التناقضات ينشأ في لحظة مهرجانية خارجة عن المألوف. وهكذا تشكلت في شارع العرب حالة من الاستثنائية، فقد شعرنا، نحن "الوافدين الجدد" على برلين من الفلسطينيين والعرب، بترحاب من أبناء وبنات الجالية القديمة. وبخلاف السائد، فحين تلتقي العيون والألسن بالسلام والكلام يتم تجاوز الشعور بالشك والاغتراب. وهكذا، اجتمعنا في مقربة من "مقهى فيروز" وفي مقاهٍ أُخرى، وتبادلنا الحديث والتحايل على الوجود المكثف للشرطة في الشارع، كما أن الكوفية التي لبسها معظم الناس موّهت الفرق بين مختلف المجموعات التي اختلطت في الشارع: مناصرون أجانب؛ وافدون عرب؛ أبناء وبنات "البلد" من الجيل الفلسطيني الثالث في ألمانيا.
في تلك الأسابيع تعرّفت إلى مجموعات نضال مشتركة تتشكل من الجيل الفلسطيني الثالث، وكثير منهم لا يتحدث العربية بطلاقة، ومن مجموعات شابة أجنبية فيها حضور نسائي لافت، وقد عمل جزء منها في توزيع منشورات توعية عن القضية الفلسطينية. أمّا البعض الآخر فاهتم بتوثيق الاعتداءات الوحشية لقوات الشرطة، بينما اهتمت مجموعات أُخرى بالإشارة إلى وجود مساعدة قانونية لممارسات قوات الأمن غير القانونية.
كانت التظاهرات الداعمة لغزة وفلسطين ما زالت ممنوعة آنذاك في ألمانيا، وجاء التجمع منذ ساعات ما بعد الظهر في "شارع العرب" كبديل من التظاهرات. وفي مساء كل ليلة، كانت المجموعات المتنوعة تحتشد عند الساعة السادسة مساء لتهتف "الحرية لفلسطين"، ولتتضامن مع الأهل في غزة. أمّا الشرطة فكانت تحاصر المتظاهرين والمتظاهرات في محاولة لمنعهم من الخروج من منطقة معينة سبق أن طوّقتها قوات شرطة مكثفة، بينما أطلقت مجموعات أُخرى انطلقت من الشوارع الفرعية، في مشهد لا يخلو من الإعجاب، مئات من المفرقعات بين سيارات الشرطة وفي مقابلها، لتضيء سماء برلين كأنها في احتفالات رأس السنة.
نعم اعتُقل بعض الشباب والصبايا، وفي الأيام والأسابيع التالية، انتقمت الشرطة من آخرين استمروا في البقاء بكثافة في الحي، ومارست التضييق وتفتيش كل مَن بدا لها "مشبوهاً"، أي صاحب ملامح شرقية، أو كل من توشّح بالكوفية، مع أنها لم تكن قد اعتُبرت خارجة عن القانون. غير أن قوات الشرطة المدججة بالسلاح وبوسائل منع التظاهرات عجزت عن ملاحقة شباب هربوا منها بخفة ساحرة.
لم يكن للإضراب الذي أُعلن في 20 تشرين الأول / أكتوبر 2023 أن يظهر بهذا النجاح لولا التزام أصحاب المصالح التجارية في شارع العرب به. فقد كان من الممكن أن يشعر المرء بالإضراب في برلين، مثلما في عواصم غربية أُخرى، فقط من خلال معرفته بأصحاب مصالح ملتزمة بالإضراب، وعادة ما تكون هذه الأماكن، متفرقة جغرافياً.
تتصدر المؤسسة الرسمية في ألمانيا قيادة موجة معاداة الفلسطينيين، وتغذّي سياساتها مناخ المعاداة وتشرعن تضييقاً ممؤسساً على نشاطات وممارسات مناصِرة لتفكيك الاستعمار في فلسطين. ومن الضروري تسليط الضوء على هذا المشهد الذي يبرز مؤخراً في مختلف وسائل الإعلام. غير أن التحدي الأكبر أمام ألمانيا هو ماضي وحاضر ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين فيها. فالظروف الواردة أعلاه تشير إلى أن فكّ الارتباط بين برلين وفلسطين صعب، فألمانيا تحاول محو فلسطين عبر تغييبها من سجلاتها من خلال محاربة الفلسطينيين، لكنها لا تستطيع أن تُخرج الفلسطينيين منها ما دام المخيم أصل الحكاية، وما دام "شارع العرب" مليئاً بالعرب والفلسطينيين.
المصادر:
[1] عبد الرحيم الشيخ، "الزمن الموقوت: نكبة فلسطين ومسارات التحرر"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 118 (ربيع 2019)، ص 16 – 26.
[2]Mohamed Kamel Doraï, “Palestinian Emigration from Lebanon to Northern Europe: Refugees, Networks, and Transnational Practices”, Refuge, vol. 21, no. 2 (2003), pp.23-31.
[3] Katharina Koch and Nora Jasmin Ragab, Mapping and Study of the Palestinian Diaspora in Germany (Maastricht: Maasticht University, Maastricht Graduate School of Governance, 2018).
[4] كان هذا حتى سنة 1986، حين وُقّعت اتفاقية بين شرق المانيا وغربها، وبموجبها لم يكن في مستطاع ألمانيا الشرقية بعد استصدار تأشيرات عبور إلّا لمَن يحمل تأشيرة عبور من ألمانيا الغربية.
[5] Ralph Ghadban, “The Impact of Immigration Policies on Palestinians in Germany”, in: The Palestinian Diaspora in Europe: Challenges of Dual Identity and Adaptation”, edited by Abbas Shiblak (Ramallah and Jerusalem: Palestinian Refugee and Diaspora Center/SHAML, and Institute of Jerusalem Studies, 2005), pp. 32-43.
[6] Ibid., p. 35.
[7] للمزيد بشأن هذا التعريف، انظر:
Margarida Farinha, “ ‘What about it is Unclear? I Mean I was Born Here: ‘Ungeklärte Staatsangehörigkeit and the (re-)production of de facto statelessness in Germany”, Citizenship Studies, vol. 26, no. 6 (2022), pp. 799-815.
[8] يضع هذا التعريف تقييدات أكثر على شروط الحصول على الجنسية، وأمور أُخرى ذات صلة بتأشيرة الإقامة. للمزيد عن ذلك انظر:
Ghadban, op. cit., p. 32.