غزة والكندي الطيب، أو "دراسة في الطاعة"
النص الكامل: 

"كل طفل مهم"

في المخيلة الشعبية الكندية نزعة رومانسية لوصف الإنسان الكندي الحديث بالطيب أو المهذب. وهذا الوصف لا يبدو غريباً إذا احتكمنا إلى الجاذبية الكبيرة التي يحملها رئيس الحكومة جستين ترودو، فهو يمتلك من الكاريزما ما يجعل أكثر الوجوه عبوساً يُشرق بالألفة والأمل. والده، بيير ترودو، أو ترودو الكبير، كان أيضاً كاريزماتياً، لكن ليس بالضرورة لبقاً أو مهذباً. وقد ربط باحثون اجتماعيون سمات الشخصية الكندية بحقيقة أن الشعوب الكولونيالية هي نتاج جمعي من القيم والخصال التي جاءت مع المستعمرين الأوروبيين. فجون ماكدونالد، أول رئيس حكومة كندي (1878 - 1891)، كان له نظرية خاصة في هذا الأمر، وهي أن الشعب الكندي شعب تابع، فهو لم يعتَدْ إلّا على قوة مركزية تحكمه: فرنسية أو بريطانية. وماكدونالد كان مؤسس كندا الحديثة، ومؤسس الخطوط الحديدية العابرة من المحيط إلى المحيط، وأيضاً مؤسس نظام المدارس السكنية الكندية الهندية (المدارس الداخلية).

قبل أسبوع من أحداث 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، احتفلت كندا بـ "يوم الحقيقة والمصالحة"، وهو يوم يتذكر فيه الشعب الكندي والسكان الأصليون ما حدث في الفترة 1883 - 1996، حين أُجبر نحو 150,000 طفل من السكان الأصليين على "الاندماج" داخل المجتمع الأبيض، وفُصلوا قسراً عن عائلاتهم، وأودعوا في مدارس داخلية من أجل تعليمهم الدين الجديد واللغة الجديدة بعيداً عن أهلهم وبيئتهم الأصلية. فبقاء الطفل مع أهله "المتوحشين"، وفقاً لماكدونالد، لن يخلصه من عادات الهنود وطرقهم في التعلم. ببساطة، جُلّ ما سنحصل عليه هو "طفل يعرف القراءة والكتابة، لكنه سيظل طفلاً متوحشاً."[1] ووفقاً لمؤرخين وأكاديميين كثر، فإن ما حدث كان إبادة ثقافية حقيقية، كما أن التعامل الرسمي معها كان، ولا يزال، سطحياً إلى أبعد الحدود. ففضلاً عن الجمل الافتتاحية الفارغة التي يتم تكرارها في كل اجتماع واحتفال، بشأن الاعتراف بأن الأرض مُلْك لسكانها الأصليين، يحرص الكنديون على ارتداء قمصان برتقالية كل عام بمناسبة "يوم الحقيقة والمصالحة". وسعر القميص 20 دولاراً، ويأتي مع رسمة من التراث وجملة تحتها تقول "كل طفل مهم". 

هيستيريا الموقف الرسمي

مع انتهاء الأسبوع الأول وتصاعد حدة الضربات الجوية الإسرائيلية وقسوتها، خرجت المسيرات المنددة بقتل المدنيين الفلسطينيين، الأمر الذي لم يرق للكثيرين لأن الضحية تمّت تسميتها مسبقاً، وهي ضحية واحدة، ولا مجال إلّا لرواية واحدة. أمّا الرواية الأُخرى التي تتحدث عن سياق تاريخي أو استعمار أو تطهير عرقي أو عنصرية صهيونية، فمحض كراهية أو لاسامية، أو في أفضل الأحيان جهل واستعمال خطأ للمصطلحات التاريخية والسياسية.[2] وقد وُجِّهت اتهامات بالجملة إلى كل مَن تكلّم بلهجة فيها مديح للمقاومة، أو حَمَل العلم الفلسطيني، كما أن تظاهرات الأسبوع الأول، والتي كان هدفها دعم أهل غزة، لم يتم الترخيص لها بحجة أنها داعمة لحركة المقاومة الإسلامية / "حماس"، إلى درجة أن بعض الجهلة حاول انتزاع العلم الفلسطيني من أيدي المتظاهرين لأنه "علم حماس". وقد أصدر رؤساء البلديات الكندية، يميناً ويساراً، بيانات ذات مضمون واحد: إدانة ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، والدعوة إلى نبذ الكراهية واللاسامية. وطبعاً، هناك مَن استغل ذلك ونشر أكاذيب عن محاولات فلسطينيين ومسلمين التحرش بأفراد يهود، أو الإضرار بتجمعات أو مؤسسات يهودية، فتم نشر رجال الشرطة على كل تقاطع مهم وسط تورونتو ومونتريال وكالغاري وفانكوفر. وأصبح المشهد أشبه بحالة حرب أهلية تغذيها قنوات الإعلام الرسمية ورؤساء البلديات وأعضاء الأحزاب الرسمية الثلاثة: الليبرالي والمحافظ والاشتراكي. أمّا الحزب الديمقراطي الاشتراكي، المعروف بمناصرة الفلسطينيين ولو بشكل نسبي، فأوقف إحدى عضواته لأنها تحدثت عن حصار غزة وقتل المدنيين الأبرياء بلا حساب.[3]

بالعودة إلى المخيلة الشعبية الكندية والكندي الطيب، فإن ردة الفعل الكندية الرسمية صادمة نظراً إلى "الغيرية" الكندية أو عامل الاختلاف، على الأقل بالنسبة إلى الجار المشاغب في الشقة السفلى بتعبير روبن ويليامز، أو "الأميركيين الخنازير الذين يريدون شراءنا" بتعبير مارغريت أتوود في روايتها Surfacing. [4]فالحكمة الشعبية تقول إن الكنديين مختلفون عن الأميركيين: هم رأسماليون ونحن خليط من هذا وذاك؛ هم مستعمرون ونحن خليط من هذا وذاك؛ هم قتلوا هنودهم أو دفعوهم إلى ما وراء المسيسيبي، ونحن وقّعنا معهم اتفاقيات ووضعنا أبناءهم في المدارس. 

"بريزدنت بايدن، هل علينا أن نقول وقف إطلاق نار؟ ليس بعد؟ ربما هدنة إنسانية موقتة؟ ليس بعد؟ حسناً"

في خضم حديث الشرفات بين ترودو الصغير وبايدن، كان الشارع ينتظر، ثم جاء قصف المستشفى المعمداني، فكَبُر الشارع وامتد أبعد فأبعد. وعلى الرغم من شجاعة بعض النقابات العمالية والكتل الطلابية في الأسبوع الأول، فإن الزخم الحقيقي للتضامن نما بثقة كبيرة بعد القصف الوحشي للمستشفيات وارتفاع عدد القتلى من الأطفال، كما أن طلاب المدارس والجامعات أغلقوا تقاطعات الطرق ومحطات المترو وارتدوا الكوفيات ورفعوا الأعلام. أمّا الفئات التي لم تشارك في التظاهرات الأولى فوجدت لها مكاناً الآن. غير أن التنمّر على قيادات النقابات والمجموعات الطلابية لم يعد يحمل قوة الردع نفسها، فالعصا التي لوحت بها الجامعات مثل جامعة يورك في كندا مثلاً، أو كولومبيا في أميركا، اللتين جمّدتا عمل مجموعات طلابية مناصرة لفلسطين، جاءت بعكس ما أرادته، ذلك بأن العمل الطلابي خرج من حدود الجامعة، وشرع يفاجىء السياسيين والمصالح التجارية الكبرى وأصحاب الرأي في مكاتبهم وأماكن اجتماعاتهم وقاعات احتفالاتهم. 

النهر الذي تحت الأرض

اتصل بي صديق يعمل في سلطة تورونتو للحفاظ على البيئة كي يطمئن عني ويسألني عن رأيي فيما يحدث هناك. التقينا في مطعم، وجلسنا على طاولة صغيرة، وكان بجانبنا شابان أبيضان يتحدثان عن غزة. لاحظت الشغف الكبير في حديثهما عن "الشرق الأوسط وتعقيداته"، لكن أحدهما كان أكثر تحرراً في مناقشة تلك التعقيدات. "علينا أن ننتقل إلى طاولة أُخرى، ربما؟" قال صديقي. قلت "لا بأس". فيما بعد، أخرج تلفونه وفتح خريطة تورونتو، ثم أسقط عليها خريطة غزة، وحاول المقارنة بين الجغرافيتين. قال: "نستطيع وضع قطاع غزة كله في وسط تورونتو." تحدثنا عن أنهار في وسط تورونتو جفّفها المستعمر الأوروبي، ثم أتى رجل المال والأعمال الإنجليزي وأخفاها في أنابيب تحت الأرض. تحدثنا عن النهر الصغير، نهر تادل، الذي كان يمشي بهدوء في أراضي جامعة تورونتو في أواسط القرن التاسع عشر،[5] لكنه الآن تحت الأرض، وفوقه شارع عريض ومنتزه سمّته البلدية "طريق الفلاسفة". أي فلسفة تدفن نهراً تحت جامعة؟ قلت بصوت خفيض، ثم أشرت إلى الخريطة على التلفون. "هنالك واد في غزة، وله روافد كثيرة"، قلت. تفاجأ بحجم الحوض المائي وطول الروافد. أمضينا بعض الوقت في تعقّب مسار الروافد التي تنبع خارج القطاع، في أراضٍ سبق أن سكنها آباء وأجداد سكان غزة الحاليين، والذين يبادون الآن بينما نتحدث ونأكل ونحلل. انتبه صديقي إلى الحقول الزراعية الممتدة على الحدود: "أرض خصبة"، قال. "ومليئة بالتاريخ" قلت. 

"دراسة في الطاعة"

خمس روايات ومجموعات قصصية ترشّحت على القائمة القصيرة لجائزة غيلر الكندية للرواية، وهي من أكثر الجوائز الأدبية العالمية كرماً منذ تأسيسها على اسم الصحافية الراحلة دوريس غيلر وبتمويل من زوجها جاك رابينوفيتش، وبعد ذلك بتبنّي سكوشابنك للجائزة، والذي رفع سقف الجائزة إلى 100,000 دولار. في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، أقيم حفل إعلان الفائز وسط حضور كبير من الروائيين والشعراء وأصحاب دور نشر ورجال أعمال. سارت أمور الحفل على نحو سلس ومهذب حتى اللحظة الأخيرة، لكن بثوانٍ قليلة قبل أن تعلن الفائزة بجائزة العام الفائت اسم الشخص الذي فاز بالجائزة هذه السنة، ركض ثلاثة فتيان وفتيات إلى منصة الحفل وهتفوا "سكوشابنك يُموّل الإبادة"، في إشارة إلى مساهمة بنك سكوشا بحصة تُقدّر بـ 500 مليون دولار في شركة تصنيع أسلحة في إسرائيل. وهنا علت صرخات الاستهجان وسط القاعة، وحاول الصحافي والكوميدي ريك ميرسير تمزيق اللافتات من أيدي المتظاهرين، ثم حضر رجال الأمن واقتادوهم إلى الخارج. واستمر احتجاز المحتجّين على الرغم من احتجاج ما لا يقل عن 1700 كاتب وكاتبة في رسالة شدّد فيها الموقّعون على أن من واجب المؤسسات الأدبية الكندية، ومن ضمنها جائزة غيلر، أن "ترفع صوتها في الوقت الذي التزمت حكومتنا ووسائل الإعلام الصمت." كما أكد الموقّعون ضرورة وقف إطلاق النار والضغط على الحكومة الكندية لإنهاء تمويلها العسكري لإسرائيل. والمفارقة اللاذعة أن كاتبة الرواية الفائزة، سارة برنستين، وضعت توقيعها على الرسالة التي تطالب بالإفراج عن الشجعان الثلاثة، بينما لم يفعل ذلك أحد من الحضور. مفارقة أُخرى هي أن عنوان الرواية الفائزة: "دراسة في الطاعة". [6] 

الوضوح الأخلاقي

في مقابل الوضوح الأخلاقي لدى جيل المدارس الثانوية والجامعات، هنالك حذر وارتباك في وسط الكتّاب والفنانين والأكاديميين، ولغة فيها بلاغة أرشيفية من النوع الذي اعتادت عليه المجتمعات الغربية التي لا تقبل بأي نقد لإسرائيل، وتتعامل مع أي نقد حقيقي بحساسية كبيرة. وهناك مَن يدعو إلى حوار بين الأديان، كأن جلسة روحانية كجلسات الاعتراف الكاثوليكي تكفي لحل نزاع سياسي وجودي عمره 100 عام وأكثر، بينما هناك مَن يدعو إلى تأليف عرائض تفاهمية مشتركة لا همّ لها سوى رسم خطوط متوازية بين الجلاد والضحية، وبين اللص وصاحب البيت، وبين السيف والرقبة. إن الوضوح الشديد الذي رافق التجربة الأوكرانية ليس قائماً الآن، لأن ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 غير معقول في ذاكرتهم الانتقائية، كأن الفلسطيني قبل ذلك كان له دولة وكيان وكرامة وحياة، ولسبب ما وبشكل غير مبرر قام بخطيئته التي لا تُغتفر.

ثمة مَن يعيب على الجيل المنتفض أنه صنيعة الإنترنت وعصر الديجيتال،[7] المعجب بجسده وصوته، وأكبر همِّه متابعة آخر الموضات والشعارات التي بالكاد يفهمها، لكن هذا "الفوران" كله سينتهي حين يتم "تصحيح المفاهيم" عن طريق مناهج حديثة "غير راديكالية" تقوم بتذكير هذا الجيل بالقيم الغربية وأصولها. ويتبع ذلك طبعاً تذكير الجيل الأبيض، المسيحي و"اليهودي الكاره لذاته"، بأن الآخر هو آخر، شكله مختلف، ولغته مختلفة، وقِيَمه مختلفة، ولا يريد لنا ولكم الخير. إذاً، نحن أمام مجتمع أورويلي،[8] تحكمه طبقة تريد تنظيم حياة الناس وأفكارهم وأحلامهم، حيث القيم الإنسانية تفقد دلالاتها، والمعاني السامية تفقد جوهرها، وحيث الخداع والمعلومة الخطأ والمراقبة الدائمة واللصيقة هي دعائم الحياة السعيدة.

إن الذين يهاجمون هذا الجيل وهذا الوعي لا يدركون أنه خلال العشرين عاماً الماضية جرت مياه كثيرة تحت الجسر، والمياه التي تجري لا تعود. فقد تبدلت أمور كثيرة في أميركا الشمالية، منها أن الجيل الجديد لم يعد يثق بالمؤسسة الرأسمالية الكولونيالية الرسمية التي خدعت جيلين كاملين قبله. الجيل الجديد في كندا وأميركا أقرب إلى الحقيقة وموازينها من الأجيال السابقة: أجيال الشركات العملاقة والعبودية لرأس المال. فهذا الجيل لا يخاف، بل يقرأ بصدق ويسمع بصدق ويرى بصدق، ويتحدّى تبعية "البيبي بومرز / Baby Boomers" (1946 - 1964) وارتباك "جيل إكس / Generation X" (1965 - 1980). الجيل الجديد لا يؤمن بالإعلام الرسمي والأيديولوجيات القديمة وثنائيات الخير والشر والظلام والنور وفقاً للديانات الكبرى والذنوب الكبرى، قديمها وحديثها. وهو جيل يدرك حقيقة أن كل طفل في هذا العالم مهم، وأن التغيير المناخي حقيقي وليس أداة لصناعة عالم رأسمالي جديد، وأن لا عدالة مناخية على أرض محتلة، وأنه لا يمكنك استخدام حزنك وألمك لقمع الآخرين والتسبب بحزنهم وألمهم. معانٍ بسيطة لكنها تضرب في عمق الإفلاس الأخلاقي والإنكار العظيم الذي تعانيه غزة وأمها فلسطين.

 

المصادر:

[1] Tristin Hopper, “Here is What Sir John A. Macdonald did to Indigenous people”, National Post, Aug 28, 2018.

[2] Marsha Lederman, “Why do People Hate Israel?”, “The Globe and Mail”, November 10, 2023.

[3] Katherine DeClerq, “Ontario MPP Sarah Jama Censured and Removed from NDP Caucus over Israel-Gaza Comments”, “CTV News”, October 23, 2023.

[4] Margaret Atwood, Surfacing (Toronto: McClelland & Stewart, 1972).

[5] Jamie Bradburn, “Toronto Feature: Philosopher's Walk”, “The Canadian Encyclopedia”, July 2, 2015.

[6]Sarah Bernstein Wins $100K Scotiabank Giller Prize for Novel Study for Obedience”, “CBC Books”, November 13, 2023.

[7] Mark Bauerlein, The Dumbest Generation: How the Digital Age Stupefies Young Americans and Jeopardizes Our Future (Or, Don't Trust Anyone Under 30) (New York: TarcherPerigee, 2009).

[8] George Orwell, Nineteen Eighty-Four (London: Penguin Books, 2021).

السيرة الشخصية: 

أشرف الزغل: شاعر ومهندس وباحث فلسطيني، ينشر الكتابة الإبداعية والنقد الإيكولوجي، تورنتو، كندا.