دعا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في اليوم الأول للعدوان جميع سكان قطاع غزة إلى مغادرة مدنهم وبلداتهم ومخيماتهم إلى خارج القطاع حفاظاً على حياتهم. وفي اليوم الثاني طلب دانيال هاغاري، الناطق باسم جيش الاحتلال، من المواطنين الفلسطينيين التوجه إلى سيناء. وانضمت إدارة بايدن ودول من الاتحاد الأوروبي إلى الجهود الإسرائيلية المبذولة من أجل دفع الحكومة المصرية إلى فتح حدودها، والسماح بإقامة مخيمات للاجئين في سيناء. وفي السياق قدمت أوراق إسرائيلية مجموعة خيارات للتخلص من سكان قطاع غزة بذريعة الحفاظ على سلامتهم، بينها: نقل سكان قطاع غزة إلى شمال سيناء بدعم أميركي – أوروبي وبتمويل عربي خليجي، ويتضمن هذا الخيار إقامة مدن من الخيم في شمال سيناء كمرحلة أولى، وبناء مدن في المرحلة الثانية وتهجير البعض إلى دول عربية وأوروبية، في مقابل تقديم مساعدات مالية للاقتصاد المصري المنهار.[1]
كذلك قدم عضوا الكنيست داني دنون (ليكود) وبن براك (يوجد مستقبل) خطة تمكّن من الانتقال الجماعي للاجئين من قطاع غزة إلى دول توافق على استيعابهم. وسرعان ما حظيت الخطة بتأييد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.[2] وثمة اقتراح جديد يتردد في أروقة الكونغرس الأميركي يربط المساعدات الأميركية لمصر وتركيا والعراق واليمن بموافقة هذه الدول على توطين أهالي قطاع غزة في أراضيها. ويتضمن المشروع المتداول إرسال مليون فلسطيني إلى مصر، ونصف مليون إلى تركيا، و250 ألف إلى العراق، و250 ألف إلى اليمن.[3] وسبق لرؤساء أوروبيين أن عرضوا على قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله الموافقة على إخراج العدد الأكبر من مواطني القطاع على سفن، وتؤمَّن لهم الحماية في عرض البحر، على أن تتم إعادتهم بعد انتهاء المعركة. وهذه كلها أمور تشير إلى أن مشروع تهجير المواطنين من قطاع غزة إلى الخارج طُرح ولا يزال مطروحاً على الأجندة الإسرائيلية والدول الداعمة لها، وإن تبدّل من صيغة التهجير القسري إلى التهجير الطوعي، على الرغم من الرفض الصريح والمعلن لدولتي مصر والأردن، بالإضافة إلى الرفض الفلسطيني. وبفعل الرفض الفلسطيني والعربي تراجع اندفاع الدول التي وافقت على التهجير مع بداية العدوان، وجاء هذا التراجع بناء على ما سمّي مبادئ طوكيو التي ينص بندها الأول على: "عدم التهجير القسري للفلسطينيين من غزة لا الآن ولا بعد الحرب."[4] لكن هذا البند لا يتحدث عن التهجير الطوعي الذي يستند في الواقع إلى تدمير مقومات البقاء، وفتح خيار يستجيب له الناس، أفراداً وعائلات، كملاذ للخروج من وسط دمار أتى على مقومات الحياة الطبيعية. هل تستطيع إسرائيل التخلص من الفلسطينيين أو من أجزاء كبيرة منهم في هذه الحرب تحت مسمى حق إسرائيل في القضاء على التهديد الأمني والخطر الوجودي الآتي من قطاع غزة؟
جذر التهجير
كتب تيودور هيرتسل عام 1895 ما يلي: "البلاد التي أعطيت لنا يجب أن نأخذها بالتدريج من أيدي أصحابها، سنحاول نقل السكان الفقراء بدون ضجة إلى خارج الحدود مع تأمين عمل لهم. لكن في بلادنا علينا منعهم من أي عمل."[5] وهو يقصد البلاد التي منحها الرب، بحسب النص التوراتي، وبعد ذلك منحتها الدول الاستعمارية عبر وعد بلفور، وصك الانتداب، اللذين اعتبرا فلسطين وطناً خاصاً باليهود يجب المساعدة على تحقيقه. بعدئذ رفعت الحركة الصهيونية شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهو شعار يتجاهل وجود شعب في الشكل، لكنه يعمل على التخلص منه في المضمون.
كذلك طرح مفكرون صهيونيون، مثل يسرائيل زانغويل ويعقوب تاهون، في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، اقتراحات لنقل العرب الفلسطينيين إلى شرق الأردن، وكان الفصل الأخطر في مشاريع التهجير، هو فصل التطهير العرقي داخل فلسطين وخارجها في الفترة في 1947 – 1949، المترافق مع تدمير مئات القرى وتحويل المدن الفلسطينية إلى مدن إسرائيلية، باستثناء مدينة الناصرة. وفي سنة 1967، جرى تدمير قرى اللطرون شمال غرب القدس وتهجيرها، وهي عمواس وبيت نوبا ويالو، وقرية بيت عوا جنوب غرب الخليل، وحي المغاربة وحي الشرفا في مدينة القدس.[6] وشكلت الحكومة الإسرائيلية بعد حرب 1967 لجنة سرية لتهجير عرب غزة إلى الأردن وأميركا الجنوبية لقاء أموال وتسهيلات. وفي الثمانينيات طرح مئير كهانا فكرة الترانسفير التي سرعان ماتبناها رحبعام زئيفي، وبنى على أساسها حزباً للترانسفير الطوعي، وأصبح عضواً في الكنيست، ثم وزيراً في الحكومة الإسرائيلية. والآن، بعد تدمير نصف بيوت غزة، بدأ التفكير الجدي في الترانسفير.[7]
الترانسفير الداخلي
يستند التهجير إلى فكر وسياسات وقوانين وبرامج ومناهج تعليم، وأهم عنصرين هما قانون القومية وبرنامج حكومة نتنياهو - بن غفير – سموتريتش؛ ينص قانون القومية على أن "أرض إسرائيل"، المقصود بها فلسطين التاريخية، هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وفيها قامت دولة إسرائيل، وممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي.[8] يلاحظ هنا التنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في وطنه التاريخي بحسب التعريف الدولي، وهذا يضع أساساً قانونياً لمواصلة التطهير العرقي والتهجير. أمّا برنامج حكومة نتنياهو - بن غفير، فقد جاء فيه: "للجمهور اليهودي حق حصري لا جدال فيه في جميع مناطق أرض إسرائيل"، وستعمل الحكومة على تعزيز الاستيطان وتطويره في جميع أنحاء أرض إسرائيل؛ في الجليل والنقب ويهودا والسامرة (الضفة الغربية) والجولان، وهذا يعني تغييب الحقوق الفلسطينية وشطبها ونزع شرعية وجودهم على أرض مملوكة حصرياً لدولة إسرائيل.
في عهد حكومة نتنياهو وغيرها من الحكومات يجري اتباع سياسة منع بناء وحدات سكنية ومدارس في مناطق جرى ضمها، كالقدس ومحيطها، وفي مناطق تسعى إسرائيل إلى ضمها، كالأغوار وجبل الخليل، والمستهدف من هذا هو مجتمع فلسطيني يتطور ديموغرافياً بمعدلات عالية، بما في ذلك منع بناء مدارس ومؤسسات ومراكز ثقافية ورياضية ومزارع، الأمر الذي يدفع المواطنين إلى البحث عن سكن ومدارس خارج مدينة القدس والمناطق المستهدفة. وتحرص السلطات على اختراق الأماكن السكنية ببؤر استيطانية طاردة للوجود الفلسطيني من خلال السيطرة الإسرائيلية على منازل بالقوة، أو عبر تزوير ملكيتها، أو تحويل أراضي التجمعات البدوية إلى مناطق عسكرية مغلقة، كما أن إجراءات المصادرة والهدم وكبح تطور المجتمع المدني تؤدي إلى إزاحات سكانية خارج القدس والأغوار وجبل الخليل، حيث ينتقل المواطنون إلى محيط القدس -الرام قلنديا وكفر عقب، وصولاً إلى روابي شمال غرب رام الله، وفي محيط البلدة القديمة في مدينة الخليل، وبالتالي تصبح المناطق الجديدة مكتظة بالسكان، وتغدو البنية التحتية فيها غير قادرة على استيعاب الزيادات. وهذا شكل من الترانسفير أو التهجير الداخلي، وهو أحد أخطر إفرازات نظام الأبارتهايد الاستعماري.
الحلقة الأخطر تهجير قطاع غزة
في الجولة الأولى من حرب الإبادة قُتل آلاف المواطنين، نحو 20,000 بين شهيد ومفقود، وأُصيب نحو ضعفَي هذا العدد بجروح، وتم تدمير45% من البنية التحتية التي تضم المنازل والمتاجر والمزارع والأسواق والمعامل والأفران والمساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات والاتصالات ووسائل الإعلام، وترافق هذا التدمير مع منع وصول الغذاء والدواء والكهرباء والوقود، بالإضافة إلى المس بالاتصالات ووسائل الإعلام وقتل الصحافيين، كما جرى أيضاً قطع الماء وتدمير الصرف الصحي وحظر الحركة والتنقل وهدم المعالم التاريخية والحضرية للمكان؛ هكذا وعدوا بإعادة غزة إلى العصر الحجري وفعلوا، فتهديد حياة المواطنين، وانعدام أبسط سبل حمايتهم، وتدمير البنية التحتية ومقومات البقاء، كلها أمور تؤدي، في حال استمرارها عبر حرب الإبادة، إلى إزالة المقومات الموحدة للمجتمع المدني، وهذا ما يؤدي بدوره إلى انفراط عقد الوحدة المدنية، ويخلق بيئة وشروطاً مؤاتية للطرد والتهجير القسري. فالآن يتم تهجير 1.7 مليون داخل قطاع غزة تحت طائلة الموت والمجازر إلى أماكن تفتقر إلى أبسط شروط الحماية والحياة الإنسانية. في هذا السياق، هناك قوى ودول تتعاطى مع مشروع تهجير مواطني قطاع غزة، ومع مخططات استيعابهم، بغطاء الدوافع الإنسانية، لكنهم يفعلون ذلك من موقع دعم الهدف الاستعماري الإسرائيلي.
لم تنته حرب الإبادة التي تدمر شمال قطاع غزة وتدفع المواطنين فيه إلى الهجرة إلى الجنوب، وإمعاناً في الذهاب بالحرب إلى أهدافها دعت دولة العدوان المواطنين في أجزاء من خان يونس ودير البلح المكتظة بالمهجرين من الشمال إلى المغادرة نحو ما يسمى منطقة آمنة قريبة من البحر. وفي حال اقتحم جيش الاحتلال منطقة الجنوب لاحقاً، سيكون نحو 2.3 مليون شخص أمام تهديد مصيري قل نظيره.
لقد تراجع خطر التهجير القسري لكنه لم ينته، وذلك بسبب الموقف المصري الرافض للتهجير، كما أن خطر التهجير إلى الأردن الذي طرح من جانب المستوطنين ظل في مستوى متدن، وقوبل برفض أردني معزز بانتشار الجيش الأردني على الحدود مع فلسطين. ثمة رفض فلسطيني وعربي ودولي للتهجير القسري، لكن الخطر يبقى قائماً ما دامت دولة الاحتلال تستمر في تدمير مقومات البقاء لأجزاء أساسية وحيوية من قطاع غزة، بالإضافة إلى عزم دولة الاحتلال اقتطاع شريط أمني من أراضي قطاع غزة لفائدة سكان الغلاف الإسرائيليين، كما أن استمرار الحرب والتهجير الداخلي يبقيان على خطر التهجير إلى خارج القطاع مطروحاً. إن وقف العدوان ودعم شروط بقاء الشعب الفلسطيني في غزة بمستوى يتجاوز شاحنات التموين والدواء والوقود، والتي هي أقل من الحد الأدنى، يشكل الدعم الحقيقي لشعب منكوب ومهدد، وهو الضمانة الأساسية لإفشال حرب الإبادة وأهدافها، وأولها تهجير المواطنين خارج بلدهم.
[1] عليان الهندي، "العدوان على قطاع غزة 2023 " (تقرير).
[2] يوسي ميلمان، "كيف تذكرت إسرائيل الترانسفير"، الأيام نقلاً عن "هآرتس"، 20/11/2023.
[3] "المساعدات الأميركية مقابل استقبال اللاجئين"، الجزيرة يوتيوب"، 30/11/2023.
[4] "بلينكن إلى المنطقة حاملاً مبادئ طوكيو"، "الشرق الأوسط"، 28/11/2023.
[5] يوسي ميلمان، مصدر سبق ذكره
[6] https://www.aljazeera.net/politics/2022/6/5/%D8%A8%D9%8A%
[7] يوسي ميلمان، مصدر سبق ذكره.
[8] https://www.palquest.org/ar/highlight/33419/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%8C-2018