هدنة وحرب: العودة إلى البيت والوطن
التاريخ: 
27/11/2023

مع بدء سريان أول أيام الهدنة صبيحة يوم الجمعة الموافق 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بدأ أهالي شمال غزة محاولات العودة إلى بيوتهم وأراضيهم، أماكن الذاكرة والطفولة والحياة والصمود، لكن العدو ينازع الفلسطيني الأرض والسماء وما بينهما؛ فيحاول استملاك واستعمار الأرض وقصتها وأماكنها وبيوتها وفرحها على الرغم من الجروح، كما يعمل على بتر العودة الفعلية والمجازية إلى الأرض والبيت والأطلال.

ما حاول الاستعمار صناعته هو هدوء نسبي في جنوب قطاع غزة، وهدنة هشة، هدنة يمكن اعتبارها استكشافية، أُرغم عليها. أما الفلسطيني، فإن هذه الحرب ستعيد إليه الأسئلة الأولى؛ التحرير والوطن والعودة، وأسئلة الشرعية الثورية واستمراريتها التاريخية وبلاغتها، والتي ترى فلسطين كقضية تحرر وطني وإنساني في مواجهة حركة صهيونية استعمارية فاشية. والذي استجد في قاموس الحرب هنا هو مفردات الفلسطيني ذاتها منذ قرن من الزمن، من نضال ومقاومة ونكبة وتهجير ونزوح وعودة وتحرير وهدنة وتبادل أسرى، وغير ذلك من مفردات الحرب التي تعود إلى معجم الصمود والتحرر والمقاومة والمواجهة التي لم تتبدل في لغة الفلسطيني.  

عودة وعدوان صهيوني: محاربة الحلم والممارسة

تشير روايات العائدين وشهاداتهم إلى تصدي الجيش الإسرائيلي بقوة النار لعودة النازحين (الذين نزحوا خلال الحرب من شمال قطاع غزة) إلى منازلهم. فقد حاول أهالي الشمال، ممن نزحوا إلى المحافظات الوسطى والجنوبية في قطاع غزة، استغلال وقت الهدنة من أجل العودة إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم ومخيماتهم للاطمئنان والاستكشاف، أو ربما للوقوف على الأطلال، لكن بعضهم حُرموا حتى البكاء على هذه الأطلال، أو حتى رؤيتها؛ فالرؤية وفعلها هما فعل لرواية المكان والزمان والذكريات.

يقول شاب، وهو أب لأبناء نازحين: "... فش هدنة، أنا مروح على غزة أشوف بيتي وأهلي وعيالي وكل حالنا هناك، جاي أنا وأولادي نازحين وبدنا نرجع ما فش رجوع، الناس بتوصل وبترجع ثاني، في [يوجد] إطلاق نار وفي دبابات..." وقال رجل آخر: "أنا ساكن غزة، تم النزوح إلى الوسطى، جاي اليوم أطلع أشوف [أرى] بيتي والعدو الإسرائيلي كالعادة مخترق الهدنة، ونحن اليوم في هدنة، فهناك إطلاق نار كثيف على الشاب، الناس كلها رافضة بدها تدخل على بيوتها زي ما تهجروا من بيوتها، هذه الهدنة تعتبر هشة، ويجب فتح ممر آمن من الشمال إلى الجنوب والعكس صحيح، لن نتنازل عن أرضنا، سندخل غصباً عنهم، هذه أرضنا لن نسمح لهجرة 1948 أن تكرر... نحن نزحنا من مكان إلى مكان وحنرجع في القريب العاجل."[1]

يعود الفلسطينيون إلى شمال قطاع غزة كونهم مرتبطين بالأرض والبيت، ويرفضون الهجرة أو الخروج إلى مكان آخر خارج القطاع، فما حدث لهم هو خروج من أجل العودة، ولحماية أطفالهم وأُسرهم، أي حماية المجتمع الفلسطيني وأفراده، من أجل البقاء والاستمرار، وهذا هو الصمود والتكيف أمام آلة حرب بربرية وحشية لا تبقي ولا تذر، وتحارب الذاكرة والمكان الأول والعودة كفعل وكممارسة وكحلم. يقول محمد شبير: "أنا نازح من مخيم الشاطئ، قالوا في [يوجد] هدنة وتبين أنها ليست لأهل غزة، وهي لأهل الجنوب رموا [الإسرائيليين] علينا مناشير [منشورات] قالوا ممنوع حدا يروح على الشمال، راحوا الشباب وكان في ناس مستشهدين على شارع صلاح الدين... نحن فكرنا أن الهدنة هي إنو نرجع إلى بيتنا ونستقر في بيتنا، لأنه هنا المعيشة: ما في فرشة ولا مخدة أنام عليهم ولا أستطيع توفير طعام الأولاد وأنا لا أعمل..."[2] هذه الرواية تؤكد العودة الفعلية إلى أرض المخيم، والمخيم هنا يمثل الهوية المكانية للاجئين إلى حين عودتهم الفعلية إلى أرضهم المستعمَرة في سنة 1948، فالعودة هي عملية تصاعدية، وفعل صمود وبقاء، واستراتيجيا مقاومة مجتمعية، فالحق لا يسقط بالتقادم، ويرفض الفلسطيني النكبة مرتين، على الرغم من أن النكبة مستمرة ولم تتوقف كما يصفها إلياس خوري.

تنص المناشير التحذيرية التي ألقاها الجيش الإسرائيلي على منع العودة إلى شمال القطاع، وجاء في نصها: "إلى سكان قطاع غزة، إن الحرب لم تنتهِ بعد! الوقفة الإنسانية مؤقتة ومنطقة شمال قطاع غزة هي منطقة حرب خطيرة وممنوع التجول بها. من أجل سلامتكم، عليكم أن تبقوا بالمنطقة الإنسانية الموجود في جنوب قطاع غزة وعدم التوجه إلى شمال القطاع. يمكنكم التوجه فقط من الشمال إلى الجنوب عبر طريق صلاح الدين. الرجوع إلى الشمال ممنوع وخطير جداً!!! مصيركم ومصير عائلاتكم بأيديكم! وقدر أعذر من أنذر. جيش الدفاع الإسرائيلي."[3]

يخاطب المنشور، بلغة التهديد، أهالي شمال قطاع غزة، ويحذّرهم من العودة إلى منازلهم في الشمال، وهذا جزء من محاولة استمرار عملية الإبادة الجماعية للقطاع. وقد حدد الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، بفيديو تحذيري لأهالي غزة، طبيعة التنقل خلال الهدنة: "تنقّلوا إلى جنوب وادي غزة، ولا تحاولوا الانتقال إلى شمال القطاع. ممنوع دخول البحر، وممنوع الاقتراب لمسافة كيلومتر من الحدود."[4] تمثل هذه الدعاية الاستعمارية جزءاً من استراتيجيا استمرار النزوح والتهجير وفتح مسار النكبة من جديد، ومحاولة ضغط أهالي شمال غزة في الجنوب من أجل استكمال عمليات التهجير والضغط والانفجار المجتمعي للخروج في اتجاه الحدود مع مصر.

كما لا تخفي تلك الخطابية الاستعمارية حالة الخوف من العودة إلى شمال قطاع غزة، وهي تعني فشل العملية العسكرية البرية في الشمال، وعملية بتر العلاقة بين أهالي قطاع غزة وبيوتهم ومنازلهم وأماكنهم، حتى في حالة تحولها إلى خراب ودمار وركام، فهي تبقى جزءاً من الذاكرة والتجربة اليومية والمعاشة، فالعودة ليست مجرد حلم وخيال وحنين، بل أيضاً هي جزء من ممارسة المقاومة والتحرر، وتكثيف لمعنى أن تكون فلسطينياً.

العودة فعل الـ"عناد" والابتسامة

تقول امرأة فلسطينية عادت إلى منزلها في شمال القطاع: "دمار شامل.. دمار، كل حرب بتيجي علينا زي ما إنت شايف البيت بيتدمَّر، كل حرب بتيجي البيت بيتدمَّر، طب إحنا لمتى بدنا نظل زي هيك؟ لمتى بدنا انضلنا نعاني من هيك، من دمار ومن نكايب [نكبة] وحسبي الله ونعم الوكيل، تقريباً 7 من العيلة الحمد الله راحوا غير جيراننا وحبايبنا وغير كثير من أحبائنا، الحمد الله استشهدوا تحت ركام هذا البيت، الشعور إللي إحنا عايشينه الآن شعور لا يوصف طبعاً، إحنا الآن بنفكر يعني هياتنا روحنا، قالوا هدنة، وين بدهم يسكنوا؟ وين بدنا نعيش؟ وين بدنا نروح؟ قاعدين بنلملم أكم حطبة، وأكم حاجة عشان نعمل هيك خيمة، حاجة الواحد يتدارى تحتها، والله ما في أثر إشي إنه يستر عائلة، طبعاً هذا البيت مش لأول مرة بينهد [يهدم]، في حرب 2008 انهد، وفي 2014 انهد، وبالـ2023 انهد، والحمد الله وإن شاء الله يضلوا ينهد ونبني ونعمر من ثاني ونعاند.. ونبني إحنا عناد؛ هذا كله عناد في اليهود خليهم يدمروا وإحنا بنعمر."[5]

تشبه هذه القصة إحدى العمليات الحيوية في جسم الإنسان، والتي تسمى الأيض (التقويض/ الهدم والبناء)، فقد استعادت المرأة، على ركام منزلها، ذكريات الحروب والصمود والبقاء، وثابرت على العودة إلى منزلها على الرغم من الدمار، وبشّرتنا ببناء المنزل، وتوقف مفهوم البقاء في لغتها وثقافتها الشعبية عند كلمة "العناد"؛ والعناد فعل تمرد وعصيان على الواقع على الرغم من الألم الكبير. ويعيدنا هذا الفعل إلى "الجكر" وثقافة المقاومة والصمود والبقاء في القدس، فقد مارس المقدسيون طقوس مقاومتهم وفق فهم لواقعهم المقدسي، واستطاعوا الانتصار في أكثر من واقعة، سواء بإزالة البوابات الإلكترونية سنة 2017، أو في فتح مصلى باب الرحمة سنة 2019، أو في رفض النكبة في حي الشيخ جراح سنة 2021.

نشرت وسائل الإعلام المرئية وصفحات التواصل الاجتماعي مشاهد لعودة عالقين فلسطينيين من قطاع غزة في مصر، فمع دخول أول أيام الهدنة، عاد العالقون إلى القطاع، ورصدت الكاميرات ابتسامات وإشارات النصر وتكبيرات؛ وتمثل هذه الابتسامات، على الرغم من الوجع، دفئ العودة إلى الوطن المنكوب بحرب إبادة جماعية، كما تشبه تلك الابتسامات والإشارات ابتسامات الأسيرات والأسرى الأطفال المحررين خلال أيام الهدنة، فالعودة هي فعل تحرر وبقاء وصمود في فقه الفلسطيني، سواء أكانت عودة إلى البيت، أم إلى الأرض المستعمرة، أم إلى الحرب.

وهنا يكمن السؤال: "هل يعود الإنسان إلى بلاد أكلتها الحرب والإبادة الجماعية؟" عادة، يهرب الإنسان من آلة الحرب والموت العمياء الوحشية، وربما الإجابة في رسم ابتسامات العائدين الهادئة وإشارات النصر التي رفعوها، فالعودة نصر، وصاحب البيت وأهالي الأرض وأصحابها يفرحون بالعودة إليها حتى لو كانت تخرج من أتون الحرب أو حتى هي في إوارها. لقد مارس الفلسطينيون العودة، ولن يتخلوا عن أرضهم، ولم يفعلوا ذلك يوماً.

لقد مثّل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 عودة للأمل، وعودة الفدائي للعبور إلى الأراضي المحتلة، وعودة الأهالي إلى أراضيهم المحتلة سنة 1948؛ إذ مارسوا هذا الفعل في لحظة زمنية أعادت تشكيل الوعي ومعنى العودة والتحرر، وليس هذا إلاّ محاولة لإثبات العلاقة بالمكان والانتماء إليه. وترتّب على 7 تشرين الأول/أكتوبر عودة الأسيرات والأسرى وتحريرهم، فقد عادوا إلى دفء عائلاتهم. إن حالات العودة الفلسطينية إلى الأرض المحتلة كثيرة وعديدة، فقد رجعت عائلات فلسطينية بعد النكبة إلى فلسطين، ورجع الفدائي إلى الأرض المحتلة مقاتلاً في سبيل شعارات التحرير والعودة وتقرير المصير، ففعل العودة هو فعل التطهير من الاستعمار ومحوه.

 

[1] "رغم الهدنة جيش الكيان يستهدف النازحين"، "رؤيا فلسطين"، 24/11/2023.

[2] "العودة للشمال ’ممنوعة‘ رغم الهدنة"، "الشرق للأخبار"، 26/11/2023.

[3] نص المنشور الذي ألقاه الجيش الإسرائيلي كتحذير للسكان.

[4] أفيخاي أدرعي، "رسالة مهمة لسكان غزة في فترة الهدنة المؤقتة"، 25/11/2023.

[5]"’خليهم يدمروا وإحنا بنعمر‘"،" الجزيرة"، 26/11/2023.

 

عن المؤلف: 

أحمد عز الدين أسعد: محاضر في جامعة بيت لحم، وباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

 

A Palestinian activist holding a national flag towards a bulldozer damaging a street during an Israeli raid in the centre of Jenin in the occupied West Bank on September 2, 2024. (Photo by RONALDO SCHEMIDT/AFP via Getty Images)
نادين صايغ, شمس هنية
A man picks up a Lebanese flag from the rubble after an Israeli airstrike on an apartment block, on October 3, 2024 in Beirut, Lebanon. (Photo by Carl Court/Getty Images)
مايا ك.