مقدمة
تحولت القدس إلى الرمز الأكثر مركزية في الصراع على مستقبل فلسطين، وكلا طرفي الصراع ساهم في ذلك. فالجانب الإسرائيلي أعلن "وحدة المدينة"، منذ حزيران/يونيو 1967، كما ألحق ذلك في تموز/يوليو 1980 بقانون أساس، له صفة دستورية ينص على أن "القدس الموحدة والكاملة عاصمة لدولة إسرائيل"، ناقلاً إليها أهم المؤسسات التشريعية والإدارية والقانونية، وطالباً من العالم نقل السفارات من تل أبيب إلى القدس، اعترافاً بها كعاصمة لدولة إسرائيل، ومصادراً الأغلبية العظمى من أراضيها (نحو 87%)، ومشيداً عدداً كبيراً من المستعمرات على أراضيها.
ومنذ اليوم الأول لاحتلال الشطر الشرقي، استخدم جميع الآليات المتاحة لتغيير الوجه الحضاري لها، وضمن ذلك كي وعي سكانها وهويتهم الثقافية والسياسية. والآن، بعد 56 سنة على احتلال الشطر الشرقي، لم تستطع آليات الاحتلال الوصول إلى غاياتها، المتمثلة في اعتبار "قضية القدس" منتهية، وقد سلّم بذلك المجتمع الدولي من جهة، وممثلو الشعب الفلسطيني من جهة أُخرى. صحيح أن قيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس (إلى الشطر الغربي سنة 2018) يُعتبر نجاحاً إسرائيلياً مهماً في هذا السياق، لكنه لم يؤدِّ إلى قيام آخرين بالخطوة نفسها. وحرصت إسرائيل منذ سنة 1967 على تغذية الثقافة الإسرائيلية، واليهودية بصورة عامة، بمزيد من العناصر الروحية والمادية لتعزيز العلاقة بالقدس، مستعملة بذلك كل الأساطير التوراتية، ومستثمرة لتحقيق ذلك أموالاً طائلة، وجهوداً جبارة، وذلك لغرس مكانتها في نفوسهم، ومشكّلة حاجزاً متيناً، من الوعي والقوانين، أمام أي عملية قد تؤدي إلى تغيير واقعها كما حدده الاحتلال الإسرائيلي.
أمّا الجانب الفلسطيني، فقد اعتبر القدس الشريف عاصمة فلسطين بلا منازع، وعزز وضعه فيها فترة طويلة (ما قبل تفاهمات أوسلو)، وخصوصاً عبر نشاطات بيت الشرق ورمزيته؛ فقد حول القدس إلى عاصمة فلسطين كأمر واقع، مستقبلاً فيها رؤساء دول ووزراء خارجية ودبلوماسيين من مختلف أنحاء العالم بمن فيهم من الولايات المتحدة الأميركية. كما حاول الجانب الفلسطيني جاهداً دعم المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية وتثبيت وجودها، حفاظاً على هوية المدينة. وأنشأت السلطة الفلسطينية وزارة القدس، وعيّنت محافظاً لمحافظة القدس، وذلك في سبيل توفير مرجعيات للمدينة، واستمرار تقديم الخدمات للسكان، وربط المدينة بالسلطة الوطنية وبمنظمة التحرير، وذلك بغض النظر عن نجاح هذه الإجراءات. واستفاد الموقف الفلسطيني من الدعم الواضح أو الخجل لدول العالم، ولا سيما أن هناك إجماعاً دولياً، مع بعض الاستثناءات، على أن الشطر الشرقي من المدينة هو أرض محتلة مثله مثل سائر الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد عزز هذا الموقف الرأي الاستشاري لمحكمة الجنايات الدولية في قضية جدار الفصل العنصري (2014). كما يشار إلى موافقة الجانب الإسرائيلي في تفاهمات أوسلو على إدراج مستقبل القدس (من دون تحديد الشرقية) على طاولة مفاوضات الوضع النهائي، وهو اعتراف إسرائيلي ضمني بعدم واقعية القانون القائل بأن "القدس الموحدة والكاملة عاصمة إسرائيل."
والسؤال الذي يجب معالجته هنا، هو: إلى أي حد نجح الاحتلال في مسعاه المذكور، وما هي نتائج الحرب على غزة، والقمع غير المسبوق في الضفة الغربية الممارَس على مدينة القدس؟
الواقع
لا يُخفى على أحد أن معضلة أساسية وكأداء تواجه الاحتلال الإسرائيلي في القدس، فقد أصبح عدد الفلسطينيين من سكان ما يسمى "القدس الموحدة" نحو 400.000 نسمة، ويشكلون نحو 40% أو أكثر. كذلك فشلت جميع المحاولات الإسرائيلية للسيطرة على النمو الديموغرافي المتصاعد للفلسطينيين في المدينة، ولم تفلح آليات الاستيطان الكولونيالي المكثفة في تغيير المعادلة، بما فيها نقل أكثر من 220.000 مستعمِر إلى الشطر الشرقي من المدينة، كما لم ينتج من تضييق الحيز السكاني على المقادسة هجرة جماعية للفلسطينيين سوى تحويل أغلبية أحيائهم إلى عشوائيات، ونمو مزيد من أحياء العشوائيات الكبيرة بكثافة سكانية عالية، وخصوصاً خارج جدار الفصل العنصري، لكن ضمن حدود بلدية القدس، كما استقرت عليه نتيجة إضافة 71 كيلومتراً مربعاً من الضفة الغربية إلى بلدية القدس الإسرائيلية أحياء، مثل كفر عقب في الشمال ومخيم شعفاط وضاحية السلام في الشرق وغيرها من الأحياء التي تقع في الجنوب. ويعيش في هذه الأحياء أكثر من 120.000 مقدسي مرتبطين بكل مكونات حياتهم اليومية بالقدس، مثل العمل والتسوق والمدرسة والخدمات الصحية والاجتماعية والثقافية، علاوة على الارتباط بالأماكن المقدسة.
وبالتأكيد نجح الاحتلال في الإلحاق الاقتصادي والخدماتي للشطر الشرقي، وسيطر على المفاصل الأساسية في المدينة، وسيطر إلى حد تجاوز 50% على التعليم والمدارس في المدينة، كما سيطر كلياً على قطاع الصحة، وفصل المدينة عبر جدار الفصل العنصري عن سائر الضفة الغربية، وذلك بعد أن فصلها قانونياً (الهوية الزرقاء) وخدماتياً (البلدية). فلا يستطيع المقدسي اليوم تسيير حياته اليومية من دون الرجوع إلى المؤسسات الإسرائيلية، إلاّ فيما ندر. وصحيح أن الإلحاق فعل مفاعليه، إلاّ إن القدس ما زالت مدينة مقسمة إلى أربعة أقسام على أقل تقدير، ويمكن تقسيمها إلى أكثر من ذلك:
-
جزء من الشطر الغربي المتطور بهويته الغربية (الأوروبية) العلمانية الواضحة، يسيطر أفراده على اقتصاد المدينة وأغلبية الخدمات السياحية، علاوة على عملهم في المؤسسات الحكومية الإسرائيلية، لكن عدد هذه المجموعة ينقص بشكل مطرد بسبب هجرتهم إلى السهل الساحلي، أو إلى مدينة مودعين الواقعة بين القدس وتل أبيب، وقد أصبح عدد المهاجرين من المدينة من هذه الفئة أكبر من عدد القادمين إليها.
-
اليهود الأرثوذكس، من الممكن أنهم أصبحوا الأغلبية بين اليهود في "القدس الموحدة". يسكن معظمهم في الشطر الغربي، مع وجود بعضهم في المستعمرات في الشطر الشرقي، وخصوصاً في مستعمرتي ريخش (شعفاط) والنبي يعقوب. بعض هؤلاء (حركة ناطوري كارتا مثلاً) لا يعترف بإسرائيل، وآخرون لا يختلفون عن السابقين من حيث المبدأ، لكنهم مندمجون في المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته الحاكمة من منطلق الحفاظ على مصالحهم، ولهم ممثلون بعدد معتبر ومؤثر جداً في بلدية القدس الإسرائيلية. ويشكلون أسفل السلم الهرمي الاجتماعي، إذ إن الفقر يسود بينهم، ولا سيما أن الأغلبية العظمى منهم متفرغة تماماً للدراسات الدينية.
-
المستوطنون في الشطر الشرقي، تجاوز عددهم 220.000 مستعمِر، ورُبطت كل المستعمرات بالشطر الغربي عبر طرق توصلهم إليه بسرعة لا تتجاوز الدقائق. ويمكن تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات: الأولى، يهود علمانيون، ويشكلون الأغلبية العظمى منهم، سكنوا المستعمرات لرخص المساكن فيها نتيجة توفير حوافز حكومية. والثانية، يهود متدينون قوميون، ومعظمهم من اليمين المتطرف المرتبط أيديولوجياً بحركة الاستيطان وتعبيراتها الحزبية. والثالثة، اليهود الأرثوذكس، الذين سبق أن ذكرناهم أعلاه.
-
الفلسطينيون، وضمنهم أعداد غير محددة من فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948، وفي الغالب، لا يُدمجون في إحصاءات المدينة، إذ إن كثيرين منهم لم يغير مكان إقامته لاعتبارات انتخابية. ولا داعي ضمن هذه العجالة الدخول في خصائص هذه المجموعة، لكن من المهم الإشارة إلى أن الفقر مسيطر على أكثر من 60% منهم، وبالتالي تنتشر بينهم كل أمراض الفقر المعروفة. وتعمل الأغلبية العظمى من القوى العاملة الشابة في قطاع الخدمات والبناء في الشطر الغربي، أو في الداخل المحتل. ويعيش فلسطينيو القدس في أحياء مكتظة جداً وفقيرة الخدمات مقارنة بالشطر الغربي أو مستعمرات الشطر الشرقي، فقد فُصلت الأحياء الفلسطينية بعضها عن بعض عبر المستعمرات أو الطرق الالتفافية، فمُزق بذلك النسيج الحضري والاجتماعي. إن الفلسطينيين في القدس مسلوبو الحقوق الوطنية، وهم غير ممثلين لا على المستوى التشريعي ولا على المستوى البلدي، ويخضعون للقوانين الإسرائيلية كافة، بما فيها قوانين التخطيط والبناء التي جرى صوغها للسيطرة عليهم، وعلى حيزهم، وعلى مساكنهم، وعلى حركتهم اليومية؛ أي على جميع مفاصل حياة الفلسطيني في المدينة.
ولا بد من إفراد فقرة عن البلدة القديمة، التي تجمع بين أسوارها الرموز الدينية التي أصبحت أيضاً رموزاً وطنية، وتحولت إلى مركز الصراع الأساسي، وتشهد استخداماً مكثفاً لكل أدوات الاحتلال للسيطرة عليها وعلى هويتها. وبعد مرور 56 سنة على بداية تهويد القدس القديمة عبر تدمير حارة المغاربة في حزيران/يونيو 1967، ومصادرة حوالي 12% من مساحتها سنة 1969، جرى إعلان تشكيل حي يهودي فيها. ويسكن في البلدة القديمة نحو 40.000 نسمة، منهم أقل من 10% من المستوطنين والباقي من الفلسطينيين. وعلى الرغم من استعمال جميع الأدوات الممكنة لتمديد السيطرة اليهودية على سائر أحياء البلدة القديمة والسيطرة على العقارات، فإن نتائج ذلك باهتة، إذ جرى السيطرة على نحو 80 عقاراً أو أكثر بقليل، أكثر من نصفها أملاكاً يهودية تعود إلى يهود قبل سنة 1948. وعلى الرغم من كل محاولات السيطرة، فإن القدس القديمة لا تزال مدينة عربية في مظاهر حياتها كافة، بحيث تسيطر قبتا الصخرة والقيامة على أفقها، وهي محاطة بأسوار عثمانية، وتبرز في سمائها المآذن وأبراج الكنائس، وما زالت أسواقها عربية فلسطينية مثل سكانها.
في أثناء الحرب على غزة
كسائر الضفة الغربية، استعملت إسرائيل القبضة الحديدية المبالغ فيها للسيطرة على المدينة، فنشرت أعداداً كبيرة من الجند ورجال الشرطة وحرس الحدود في جميع أرجاء المدينة معلنة حالة طوارئ. فجرت اعتقالات واسعة طالت أغلبية الناشطين والمعتقلين السابقين، ووضعت المكعبات الأسمنتية على مداخل معظم الأحياء لإغلاقها حين الضرورة، وقضت على الحياة اليومية عبر تقييد الحركة. ومنذ بداية الحرب لم تخرج الأغلبية العظمى من السكان إلى العمل، وتحولت أسواق القدس إلى أماكن مهجورة، وأغلق معظم المدارس مدة شهر تقريباً، وغابت السياحة ففرغت فنادق القدس ومطاعمها وأماكنها السياحية، وأُغلقت تقريباً كل أسواق البلدة القديمة، ولم يُسمح لغير سكان البلدة بدخولها. كذلك اقتصرت الصلاة يوم الجمعة في المساجد ويوم الأحد في الكنائس على مَن تجاوزوا سن السبعين عاماً، وحتى هؤلاء منعوا في كثير من الأحيان. ولا يمكن تصور أن عدد مَن استطاعوا أداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى لم يتجاوز في كل أيام الجمع خمسة آلاف مصلٍ طوال فترة الحرب.
يتم الاعتقال لأتفه الأسباب، وكثير منها يتم بلا سبب. ويُعتبر جهاز الجوال سبباً رئيسياً للاعتقال، فيجري تفتيش أجهزة الجوال بحثاً عن صورة لغزة أو لشهيد، وهذا سبب كافٍ للاعتقال، كما أن استعمال شبكات التواصل الاجتماعي وإبداء الرأي أو المشاهدة أو المشاركة كافية للاعتقال. هذا، طبعاً، علاوة على ارتقاء العديد من الشهداء. وفضلاً عن ذلك، تكثفت أعمال هدم المباني، إمّا بحجة عدم الترخيص، وإمّا هدم بيوت المناضلين المعتقلين أو الشهداء.
استشراف المستقبل القريب
في مدينة غاية في الأهمية، وتمثل رمزاً عالمياً من الطراز الأول يرتبط بها أكثر من نصف سكان المعمورة، يصعب التنبؤ بما هو مقبل، فالمصالح كثيرة ومتداخلة، وما هو أكيد أن القمع الشديد سيستمر بوتيرة متسارعة، الأمر الذي يجري عملياً طوال الوقت، واشتد أكثر منذ سنة 2017 (هبّة البوابات الإلكترونية أمام أبواب المسجد الأقصى)؛ فقد تعرضت القدس لسلسلة من الهبّات المتواصلة التي قُمعت، لتبدأ هبّة جديدة. ومن المتوقع، بعد الحرب على غزة، أن يزداد القمع والاعتقال لأتفه الأسباب، كما سيزيد النفي إلى خارج المدينة، وستقوم الجرافات الإسرائيلية بالاستبسال في هدم المباني، كما سيعاني العمال المقادسة في المؤسسات الإسرائيلية المتعددة جرّاء الاضطهاد القومي والطبقي بشكل لم يسبق له مثيل، وسيواجهون بشعار "العمل العبري"، وهو أمر من المتوقع أن يسري على عمال الضفة الغربية العاملين في إسرائيل.
وبعد أن حسمت إسرائيل موضوع الأرض في القدس، وأكملت تقريباً السيطرة على أغلبية مفاصل الحياة في المدينة، بقي أمامها ثلاث معضلات أساسية، من دون التقليل من أهمية باقي التحديات:
الأولى، النمو السكاني الفلسطيني: كما ذُكر أعلاه يشكل الفلسطينيون أكثر من 40% من مجموع سكان ما يسمى "القدس الموحدة"، ويبدو أن هذه النسبة ستستمر في التصاعد، لا بسبب النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي الذي أصبح متواضعاً، وأقل من سائر الضفة الغربية، وإنما نتيجة الهجرة اليهودية من القدس والتي تساهم في ارتفاع نسبة المقادسة. وهناك احتمالان أمام السلطات الإسرائيلية للتعامل مع الأمر: تكثيف عوامل الطرد السكاني من القدس في اتجاه الضفة الغربية في القرى المحيطة وحتى التي أبعد من ذلك، وهو أمر نلحظ وجوده بشكل ملموس، وقد يبادر الاحتلال إلى إضافة مزيد من العناصر وتكثيف استعمالها، مثل: سحب الهويات (حق الإقامة)؛ استخدام مكان الإقامة؛ استحداث مكان العمل كمركز للحياة؛ حجب بعض الخدمات، مثل التأمين الصحي والتأمين الاجتماعي (التأمين الوطني). أمّا الخطوة الثانية والتي من الممكن أن يقوم بها الاحتلال تتمثل في سحب حق الإقامة لكل المقادسة القاطنين خارج جدار الفصل العنصري، مثل كفر عقب ومخيم شعفاط وضاحية السلام، إلخ. وستؤدي هذه الخطوة، إن تكللت بالنجاح من ناحية تشريعية إسرائيلية (تعديل حدود بلدية القدس)، على الرغم من صعوبتها، نظراً إلى وجود تيار واسع في الكنيست بشهية واسعة، إلى مزيد من ضم الأراضي. إلاّ إن مثل هذه الخطوة ستحرم ما لا يقل عن 120.000 مقدسي من حقهم في الإقامة بمدينتهم، وسيخفض عدد فلسطينيي القدس ليصلوا إلى أقل من 250.000 نسمة.
الثانية، البلدة القديمة والمسجد الأقصى: كما ذكرنا حُوّلت البلدة القديمة، بما فيها المسجد الأقصى، إلى رمز يهودي إسرائيلي من الطراز الأول وبشكل مبالغ فيه، بتسخير كل الأساطير التوراتية، واختلاق مزيد منها في مصنع جُهز للقيام بذلك، ويزداد الأمر سوءاً بازدياد توجه المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين واليمين المتطرف والتدين. ومن المتوقع أن تزداد الهجمة الاستيطانية في البلدة القديمة وحزامها (ما يسمى الحوض المقدس)، وخصوصاً في سلوان والشيخ جراح، وذلك في محاولة لتغيير هوية المكان وأسرلته وتهويده. وضمن هذه الهجمة، سيستمر الضغط على المسجد الأقصى بشكل تراكمي وبوتيرة أكبر مما سبق، وسيتضمن ذلك مزيداً من سحب البساط من تحت أقدام دائرة الأوقاف الإسلامية، وبالتالي من تحت أقدام الأردن. وإن كنا قد لاحظنا في الماضي محاولات أداء الصلوات اليهودية في باحات المسجد، إلاّ إن الأمر سيصبح زمنياً أطول، وستتسع الظاهرة بحماية قوات الأمن. وبالترافق مع ذلك، سيزداد التضييق على المصلين المسلمين من حيث الأعداد والأعمار، وسيكون هناك هجمة كبيرة على كل المعتكفين (المرابطون)، وقد تتجرأ إسرائيل على اقتناص جزء من المسجد (منطقة باب الرحمة، على سبيل المثال) وتخصيصه للصلوات اليهودية.
الثالثة، الهوية والوعي والانتماء: شهدنا خلال السنوات الماضية فشلاً إسرائيلياً في كي الوعي، وقد تم التعبير عن ذلك عبر الهبّات النضالية المتواصلة والمرتبطة بالمسجد الأقصى وسلوان والشيخ جراح والحروب على غزة، وقد تيقظ الإسرائيلي إلى هذه المسألة بعد أن اعتقد أنه استطاع إنجاز الفصل بين الضفة الغربية (الشعب الفلسطيني بصورة عامة) وفلسطينيي القدس. ومنذ سنوات يواجه التعليم في القدس هجمة شرسة، بهدف تفريغ المنهاج الفلسطيني من محتواه الوطني، وفرض المنهاج الإسرائيلي، حتى بات ممنوعاً على الطالب الفلسطيني في القدس أن يستعمل كتاباً مدرسياً عليه شعار السلطة الفلسطينية، إذ يجري، حتى قبل الحرب على غزة، تفتيش حقائب الأطفال بحثاً عن هذه الكتب. ويرافق ذلك حملة لتشجيع الطلاب المقادسة على الدراسة في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، وتوفير الدعم الحكومي لتحقيق ذلك، ويتضمن ذلك إقناع الطلاب بأن خريجي الجامعات الفلسطينية لن يتم توظيفهم، في حين أن توظيف خريج الجامعات والمعاهد الإسرائيلية مضمون. وتم نشر مجموعة كبيرة مما يسمى "المراكز الجماهرية" التي تُنظم الكثير من النشاطات الفارغة من أي محتوى له علاقة بالهوية والوعي، وتنشر فكر الانغماس في الحياة اليومية ومشاكلها، وتنظم نشاطات ترفيهية خالية من أي مضمون.
تنتظر القدس وسكانها أياماً صعبة. وما ذُكر أعلاه، هو ما تسمح به هذه المراجعة المختصرة، ومن الممكن سرد الكثير. ولا بد من لفت النظر إلى أن الإجراءات المذكورة لن تنفّذ من دون مقاومة، ولا توجد ضمانات لنجاح السلطات الإسرائيلية في تنفيذها، فقد اعتاد المقادسة مثل هذه الإجراءات، واستطاعوا في كثير من الأحيان النجاح في التصدي لها، أو جعل تكلفة تنفيذها غالية، ولهم قدرة كبيرة على التمرد والعصيان، علاوة على التعلق الشديد بمدينتهم، لكنهم بالتأكيد سيدفعون أثماناً غالية.
قائمة المصادر والمراجع
-
قاسم، أنيس فوزي. "الممارسات الإسرائيلية و’احترام‘ الدور الأردني في القدس: دراسة قانونية". الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 14 حزيران/يونيو 2023.
-
الزعانين، غسان وعلي شبيطة وعيد السلايمة وفاطمة الغصين. "تهويد مدينة القدس... وآليات المواجهة". رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات، 27 آب/أغسطس 2018.
-
الشرقاوي، محمد. "ترامب والقدس: قراءة من الداخل". الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 18 شباط/فبراير 2018.
-
عبد اللطيف، ملكة. "تهويد القدس: قراءة في الخطة الحكومية 3790". مركز دراسات الوحدة العربية، 17 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
-
شلهوب – كيفوركيان، نادرة. "القدس والإهالة الصهيونية: تتبّع تحولات الاستلاب اللامتناهي". "مجلة الدراسات الفلسطينية". العدد 136 (خريف 2023)، ص 90 – 107.
-
سعد الدين، نادية. "البعدان التعليمي والاقتصادي في المشروع الإسرائيلي ضد القدس المحتلة". مركز دراسات الوحدة العربية، 6 تموز/يوليو 2020.
-
الجعبة، نظمي. "سلوان: إرادة صمود في مواجهة سياسة السلب". "مجلة الدراسات الفلسطينية". العدد 134 (ربيع 2023)، ص 121 – 144.
-
Qadah, Anwar. Education in Jerusalem: A Tool of Soft Colonialism. Jerusalem Quarterly, vol. 95 (Autumn 2023), pp. 100-105.
-
Schwake, Gabriel. Red Pitched Roofs: A (Post)Colonial Genealogy of Architectural Identity in the Jerusalem Area. Jerusalem Quarterly, vol. 95 (Autumn 2023), pp. 6 – 30.
-
Jubeh, Nazmi. Shaykh Jarrah A Struggle for Survival. Jerusalem Quarterly, vol. 86 (Summer 2021), pp. 129 – 148.
-
Saeed, Qudsia. In Colonizing Textbooks, Israel Redacts History. October 17 2022.
-
Farah, Philip. Jerusalem and the Continuing Nakba. Jerusalem Quarterly, vol. 88 (Autum 2023), pp. 82 – 87.