المكيافيلية الدموية الإسرائيلية: من "سفينة باتريا" إلى مستشفى الشفاء
التاريخ: 
22/11/2023
المؤلف: 

ليس مستغرباً أن تكون إسرائيل قد استغلت ما جرى في مستعمرات قطاع غزة، أو ما يُطلق عليه "غلاف غزة"، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فسعت لـ "دعوشة" (اشتقاق من "داعش") المقاومة الفلسطينية، باتهامها بأنها ارتكبت خلال عملية "طوفان الأقصى" مجازر بحق "المدنيين" الإسرائيليين، وإحراقهم في السيارات وفي بيوتهم، وهي اتهامات بدأت التحقيقات الإسرائيلية نفسها تميط اللثام عنها، وتضعها في موضعها الحقيقي، بتأكيدها أن قتلى الحفل الموسيقي قرب مستعمرة رعيم، إنما قُتل عدد منهم نتيجة قصف مروحية إسرائيلية للفارين من موقع الحفل المفترض، وهو ما ورد في التقرير الذي نشرته صحيفة "هآرتس" في 18 تشرين الثاني / نوفمبر، أن مقاتلي المقاومة لم يكونوا أصلاً على علم بهذا الحفل.[1]

وكانت تقارير سابقة قد أشارت إلى أن الأجساد التي كانت محترقة داخل منازل في تلك المستعمرات، إنما احترقت بعد قصف جوي إسرائيلي استهدفها لغاية قتل عناصر المقاومة الفلسطينية الذين أسقطوا أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وترتيباته التكنولوجية "الكفيلة" بمنع أي اختراق للحدود، فضلاً عن إظهارهم، من خلال النجاح الذي فاق كل التوقعات لعملية "طوفان الأقصى"، الفشل السياسي والاستخباراتي والعسكري الإسرائيلي، والذي يسعى رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزرائها وقادة الجيش الإسرائيلي إلى التعمية عليه عبر ارتكاب المجازر الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، ولاحقاً إعلان نصر ربما يساهم في التخفيف من حدة هذا الإخفاق المتعدد الجوانب. 

المكيافيلية في أبشع صورها

منذ اللحظة الأولى لعميلة "طوفان الأقصى"، ظهر نتنياهو على وسائل الإعلام مشيراً إلى مجازر ارتكبتها "حماس" في المستعمرات الإسرائيلية، ووحشية تبدت من خلال إحراق أجساد المدنيين وقطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء، ولحقه بهذه الادعاءات جميع المحللين والصحافيين والسياسيين الإسرائيليين، بل امتدت تلك الادعاءات نحو الغرب (المتوحش) الذي روّج معظم قادته ووسائل إعلامه هذه الأكاذيب، قبل أن تبدأ بعض وسائل الإعلام الكبرى بالتراجع عن حملاته، بل الاعتذار عن عدم التدقيق في المعلومات التي وصلت من المصادر الإسرائيلية. لكن مسؤولين غربيين كان من المفترض أن يتراجعوا عن تلك الاتهامات بعد انفضاح زيفها، إلاّ إنهم واصلوا استخدام الادعاءات الإسرائيلية لتبرير ما ترتكبه إسرائيل من جريمة إبادة جماعية[2] في قطاع غزة، ولا سيما الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ورئيس الحكومة البريطانية (المهاجر من أصل هندي) ريشي سوناك، والمستشار الألماني أولاف شولتز، بينما تراجع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قليلاً، فلم يعد يكرر الأكذوبة، على الرغم من استمراره في دعم العدوان الإسرائيلي، والاكتفاء بالحديث عن "هدن إنسانية". 

انكشاف أكذوبة القيادة تحت "مستشفى الشفاء"

إحدى الشواهد البارزة على "المكيافيلية الدموية"، أكذوبة وجود القيادة المركزية لحركة "حماس" وقاعدة التحكم لـ "كتائب القسام" في مستشفى الشفاء وتحته.

لقد كرر المسؤولون الإسرائيليون من نتنياهو إلى الناطق باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري تلك الكذبة على مدار الساعة قبل أن تقتحم الدبابات مجمع الشفاء، وتعيث فيه فساداً، تطبيقاً للمبدأ النازي "اكذب ثم اكذب حتى يُصدقك الناس" الذي وضعه زعيم الدعاية النازية جوزف غوبلز، لتبرير ما يُخطط للمجمع الطبي الأكبر في فلسطين، والذي يخدم ربع الحاجة الطبية لقطاع غزة، وهو أمرٌ نُفذ بعد أيام من محاصرة المجمع بالدبابات، عبر إجبار المرضى، والمدنيين النازحين إليه، في 18 تشرين الثاني / نوفمبر، على مغادرته مشياً على الأقدام.

وبعد اقتحام الجيش الإسرائيلي مجمع الشفاء، نُظمت جولة لبعض وسائل الإعلام الغربية في المستشفى، لكن النتيجة جاءت بغير ما سعى المنظمون له، فقد كشفت شبكة "سي إن إن" التلفزيونية الأميركية، أنه من المرجح أن يكون الجيش الإسرائيلي هو مَن وضع الأسلحة في الموقع الذي جلب الصحافيين إليه، وذلك من خلال قيام الشبكة بتحليل اللقطات التي التقطتها قناة "فوكس نيوز" "التي مُنحت حق الوصول إلى الموقع في الساعات التالية"، ثم في اليوم التالي إدخال قناة "بي بي سي" البريطانية إلى الموقع، ولقطات بثها على مراحل الجيش الإسرائيلي. وخرجت شبكة "سي إن إن" باستنتاج أن مَن وضع الأسلحة هو الجيش الإسرائيلي نفسه.[3]

أمّا أكذوبة مجزرة الحفل الموسيقي، فقد كشفته صحيفتا "هآرتس" و"يديعوت أحرونوت" الإسرائيليتان، بنشرهما تقريراً أولياً للشرطة الإسرائيلية، ورد فيه أن طائرات حربية إسرائيلية هي التي قصفت الحفل، وكذلك الأمر بشأن المنازل المحترقة في مستعمرات "غلاف غزة"، والتي احترقت بمن فيها، عبر قصف جوي إسرائيلي أيضاً. 

تاريخ من "المكيافيلية الدموية"

ما استُخدم من أكاذيب منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر حتى حملة مجمع الشفاء، ليس استخداماً إسرائيلياً فريداً لإعمال مبدئي " الغاية تُبرر الوسيلة"، و"اكذب ثم اكذب حتى يُصدقك الناس"ـ إذ إن تاريخ الصهيونيين سابقاً وحاضراً يعج بالأمثلة التي تعرض هذه المقالة بعضها باختصار:

1 – تفجير السفينة "أس أس باتريا": في 25 تشرين الثاني / نوفمبر 1940: فجرت منظمة "الهاغاناه" الصهيونية الإرهابية التي ستُصبح بعد سنة 1948 النواة الأساسية للجيش الإسرائيلي، السفينة "أس أس باتريا" في ميناء مدينة حيفا وعلى متنها 1800 مهاجر يهودي، بهدف اتهام المقاومة الفلسطينية بالتفجير، والضغط على الحكومة البريطانية التي، في رأيي العصابات الصهيونية، كانت تعمل على الحد من تدفق المهاجرين اليهود من أوروبا إلى فلسطين.[4]

2 – اغتيال الكونت برنادوت: في 17 أيلول/ سبتمبر 1948: نفذت المنظمتان الإرهابيتان "إرغون" التي كان يترأسها مناحم بيغن الذي أصبح رئيساً للحكومة الإسرائيلية لاحقاً، و"شتيرن" التي كان يترأسها يتسحاق شمير الذي أصبح، بدوره، رئيساً للحكومة الإسرائيلية لاحقاً، جريمة اغتيال الوسيط الدولي السويدي الكونت فولك برنادوت بإطلاق النار على سيارته في أحد شوارع القدس الغربية التي كانت العصابات الصهيونية قد سيطرت عليها، وذلك في إثر إصدار برنادوت توصيات بشأن المسألة الفلسطينية، ضمنها بقاء القدس تحت السيادة العربية،[5] الأمر الذي أزعج الصهيونيين الذين كانوا يخططون للتوسع أكثر في فلسطين، وحتى خارج حدود المناطق التي استولوا عليها.

3 – تهجير يهود المغرب والعراق كنموذج: مثلما تصرفت العصابات الصهيونية مع سفينة المهاجرين اليهود "أس أس باتريا" وضحّت بهؤلاء المهاجرين في سبيل الضغط على بريطانيا إزاء التضييق ولو قليلاً على هجرة اليهود، فإن الحكومة الإسرائيلية التي نشأت في سنة 1948، عملت على إيذاء يهود البلاد العربية بهدف دفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين.

بشأن يهود المغرب، فإن المؤرخ الإسرائيلي "يغآل بن نون، من جامعة بار إيلان، المتاخمة لتل أبيب، كشف النقاب عن أن جهاز الموساد الإسرائيلي (الاستخبارات الخارجية) أرسل في أوائل الستينيات من القرن الماضي خلية كبيرة بأمر من القائد أيسر هارئيل، لتنفيذ أعمال إرهابية ضد اليهود، واتهام السلطات المغربية بذلك، لكي تسمح للحركة الصهيونية باستجلابهم إلى فلسطين المحتلّة."[6]

وفي السياق ذاته، عمل الموساد على تهجير يهود العراق، إذ خلص المؤرخ اليهودي البريطاني آفي شلايم، في كتابه "3 عوالم.. مذكرات لعربي-يهودي"، "بعد بحث شخصي مكثف إلى أنه بينما تم تنفيذ هجوم بقنبلة يدوية على كنيس مسعودة شمتوف في بغداد، والذي قُتل فيه 4 يهود في كانون الثاني/ يناير 1951 من قبل عربي، فإن تفجيرات أُخرى كانت من عمل الموساد الإسرائيلي"، بهدف "الإسراع بنقل 110 آلاف يهودي من العراق إلى دولة إسرائيل التي أُنشئت حديثاً في ذلك الوقت"، الأمر الذي دفع يهود العراق إلى الهجرة، ومعظمهم إلى فلسطين. ويرى شلايم، أن هذا المخطط نُفذ في دول عربية أُخرى، و"أدى إلى انتقال اليهود من جميع أنحاء الدول العربية من مواطنين محترمين إلى طابور خامس متحالف مع الدولة اليهودية الجديدة."[7] 

حبل الكذب تقطعه الوقائع

لقد عمدت إسرائيل، بهدف السيطرة على قطاع غزة بعد انكشاف الفشل السياسي والعسكري في إثر عملية "طوفان الأقصى"، إلى استخدام كل ما تملكه من وسائل خداع وتزوير، عبر اتهام "حماس" بارتكاب مجازر في مستعمرات قطاع غزة، وتساوق الولايات المتحدة وأكبر دول أوروبا مع هذه الادعاءات التي أعقبتها بإجراءات عقاب جماعي، فقطعت منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر، المياه والكهرباء وقصفت مخازن المواد الغذائية والمستشفيات بزعم استخدامها من المقاومة الفلسطينية مراكز عمليات، وأقفلت المعابر ورفضت إدخال الوقود (إلاّ بكميات ضئيلة لاحقاً)، فضلاً عن قصف تدميري للأعيان المدنية والمباني السكنية، وارتكاب عشرات المجازر التي تسببت حتى كتابة هذه المقالة بمقتل أكثر من 15.000 فلسطيني وجرح أكثر من 40.000.

لكن حبل الكذب قصير، وتقطعه الوقائع. لقد سيطرت إسرائيل على جميع مستشفيات شمال قطاع غزة، لكن لم تستطع إثبات أي من مزاعمها، وحولت مبنيي مستشفى الرنتيسي والشفاء إلى مراكز عسكرية.

إن الهدف من الحصار وتفريغ مستشفيات شمال قطاع غزة، واستهداف المستشفيات الواقعة جنوب القطاع، فضلاً عن القصف التدميري الذي دمر نصف مباني قطاع غزة، هو دفع الفلسطينيين إلى النزوح في مرحلة أولى من الشمال نحو الجنوب، وفي مرحلة ثانية من الجنوب نحو الأراضي المصرية.

لقد فشلت إسرائيل مجدداً، بعد فقدان حملتها الدعائية في الغرب زخمها، وتحوّل عدد كبير من الرأي العام الغربي نحو رفض الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، والخروج بتظاهرات بمئات الآلاف في لندن، وعشرات الآلاف في فرنسا والولايات المتحدة.

كما فشلت في دفع الفلسطينيين إلى النزوح من الشمال نحو الجنوب، إذ تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 700.000 من سكان شمال قطاع غزة، تشبثوا في البقاء في هذا الجزء من القطاع على الرغم من كل الجرائم والهمجية.

وفشلت كذلك في الضغط على مصر لفتح حدودها والتساوق مع مخطط تهجير الغزيين إلى سيناء، وهو أمر عكس نفسه أيضاً على موقف الولايات المتحدة التي أعلنت رفضاً علنياً، لكن ربما ليس حقيقياً، لعملية التهجير، على الرغم من تسويق خطة الترانسفير في بداية طرحها.

أمّا المقاومة التي توقعت إسرائيل وداعموها انتهاءها سريعاً، أثبتت قدرتها على مواصلة مقاومتها وإنزال خسائر فادحة بالجيش الإسرائيلي بعد توغله في شمال قطاع غزة.

وكي لا نغالي في التفاؤل، فإن القدرة العسكرية الإسرائيلية كبيرة، والدعم غير المحدود لها من واشنطن، ربما يمكّناها في النهاية، من تدمير قطاع غزة وجعله أرضاً محروقة، لكن غزة تكون قد أثبتت أن هذا الكيان العسكري المصطنع، قابل للكسر.

 

 

[1]  Josh Breiner, “Israeli Security Establishment: Hamas Likely Didn’t Have Advance Knowledge of Nova Festival”, Haaretz, 18/11/2023.

[2]  تنص اتفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، على محاكمة مرتكبيها أمام محكمة الجنايات الدولية وإنزال العقوبة بهم، وأيضاً باتت الأحكام التي صدرت عن محكمتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا جزءاً من الاتفاقية، وخصوصاً لجهة معاقبة المشاركين والمحرضين على تلك الجريمة. وهنا يقع كل رؤساء ومسؤولي الدول الغربية التي بررت وتبرر ما يُرتكب من جرائم في غزة، تحت سيف عقاب الاتفاقية. للمزيد انظر: وليم شاباس، "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، مكتبة الأمم المتحدة المرئية المسموعة للقانون الدولي، في الرابط الإلكتروني.

وانظر أيضاً: أحكام قانون جريمة الإبادة الجماعية في: "القاموس العلمي للقانون الإنساني"، موقع أطباء بلا حدود، في الرابط الإلكتروني

وانظر النص الحرفي للاتفاقية في: "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في الرابط الإلكتروني.

[3]  "تحليل لـCNN يشير إلى احتمال إعادة الجيش الإسرائيلي ترتيب الأسلحة قبل زيارة الإعلام لمستشفى الشفاء"، "سي إن إن عربية"، في الرابط الإلكتروني.

[4]  "قتلت مئات الحلفاء لتقوية الوجود اليهودي في فلسطين عندما فجرت الهاغاناه سفينة للمهاجرين"، "الدستور" الأردنية، في الرابط الإلكتروني

[5]  للمزيد عن مقترحات اللورد برنادوت، انظر: "الكونت برنادوت"، "الجزيرة نت"، 3/ 10/ 2004، في الرابط الإلكتروني

[6]  زهير أندراوس، "بحث إسرائيلي يكشف: الموساد قتل اليهود بالمغرب وأغرق سفينة للمهاجرين لتأليب الرأي العام العالمي ضد المملكة وإجبار الملك على السماح لهم بالهجرة"، "القدس العربي" (لندن)، 17/ 10/ 2013، في الرابط الإلكتروني

[7]  "مؤرخ بريطاني إسرائيلي: لدي إثبات على هجوم إسرائيلي ضد يهود العراق لطردهم من هناك"، "الجزيرة نت"، 19/ 6/ 2023، في الرابط الإلكتروني.