الفرار من الموت إلى الموت
التاريخ: 
21/11/2023
المؤلف: 

ينتابني الخجل وأنا أسرد معاناة عائلتي بينما يعاني بقية أهل غزة جرّاء أبشع أنواع الموت والتعذيب، بل أيضاً الإبادة الجماعية، لكن بحسب حديث والدتي، فأنا أرى أن الناجي من القصف لن ينجو من الموت جوعاً أو عطشاً أو قهراً أو مرضاً، وكل هذا التجويع والتعذيب والحرمان ما هي إلاّ وسائل إبادة جماعية لا تقل جرماً عن القتل بالصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً.

تحدثني أختي نور عن الأوبئة التي تتوغل شيئاً فشيئاً نتيجة تراكم النفايات في المكان، وتطاير الذباب حوله، وكذلك الطقس البارد ليلاً والحار نهاراً، فهم لا يملكون الأغطية الكافية ولا حتى الملابس الشتوية. هذا بالإضافة إلى المراحيض العامة، والتي يستخدمها حالياً آلاف السكان، الأمر الذي يمكن أن يتسبب لهم ولغيرهم بالحمى والإسهال والإنفلونزا وغيرها من الأمراض التي ربما يكون بعضها معدياً. يسعفني أحياناً الإنترنت لأجري معهم مكالمة فيديو، فأشاهد، ولو لجزء بسيط من الوقت ومن زاوية بسيطة هي زاوية التصوير، سوء البيئة التي تعيش فيها عائلتي حالياً؛ إذ أرى أكواماً من القمامة والذباب التي لا أتمالك نفسي عند رؤيتها. فهل يموتون من انعدام مقومات الحياة أم من انقطاع الدواء (بالنسبة إلى الذين يصارعون الأمراض المزمنة)؟ لمى، ابنة عمي، تعاني جرّاء الفشل الكلوي، وتحتاج إلى غسيل الكلى يومياً على مدار الأسبوع، لكنها حتى اليوم، 15/11، لم تتمكن من الغسيل سوى بمعدات بديلة بدائية قذرة تفتقر تماماً إلى التعقيم والفعالية المطلوبة، ويحدث هذا الغسيل داخل خيمة غير مسقوفة أو مؤهلة، بينما والدتها تنتظر بمرارة موت ابنتها، فربما تجد راحتها في الموت. حين تحدثت معهم، لم أتمكن من التعرف إلى لمى نتيجة احتباس السوائل والسموم داخل جسدها الهش، فكانت ملامحها قد دُفنت بالكامل تحت هذه السموم اللعينة، وقالت لي: "أنا بدي الصهاينة يوقفوا قصف المستشفيات، شو عندهم بمستشفى الرنتيسي حتى يقصفوها؟! وبدي يفتحوا معبر إيريز ليدخل علاجي، أنا ما بدي أموت." هذه البطلة التي لم تكن يوماً تخشى الموت، تتشبث الآن بالحياة لرفضها فكرة الموت من وحشية هذا العدو الذي لا يعي أي معايير للإنسانية، فهو لا يفهم إلاّ لغة واحدة، هي لغة الدم.

لعل أكثر ما يؤلمني هو قلقي على جوري، ابنة أختي ذات الخمسة أعوام، فهي الأُخرى تعاني جرّاء الصرع، والأدوية التي تتناولها قد انقطعت، مع العلم أن عدم انتظامها في تناول هذه الأدوية لمرتين يومياً يسبب لها تشنجات بليغة تصل إلى حد الشلل -لا قدّر الله- فمن المحزن أيضاً أنه لم يتم تشخيص حالتها المرضية بدقة، وذلك بسبب منعها وعائلتها من جانب دولة الاحتلال الإسرائيلية طوال السنوات الماضية من استخدام التحويلة الطبية من أجل خروجها من قطاع غزة للتشخيص وتلقّي العلاج اللازم. هذا وكان معظم أطباء الأعصاب في قطاع غزة ذكروا أن سبب ولادتها بهذا المرض يعود إلى استنشاق والدتها قنابل الفوسفور الأبيض المحرم دولياً، والتي أطلقها الاحتلال على القطاع في الحروب السابقة. أنا لا أملّ من سؤال أختي نور يومياً عمّا إذا تمكنوا من تأمين الدواء أم لا، مع يقيني التام بأن إجابتها ستكون "لا"، وتخبرني أن زوجها أحمد يقضي يومياً ساعات وساعات على أمل أن يجد بديلاً من دواء ابنته، لكنه يرجع خائباً.

وعلى الرغم من مرور خمسة أيام من دون أن أتمكن من التحدث إلى عائلتي، فإنني لا أتوقف عن إرسال الرسائل إليهم على أمل أن يصلني رد منهم، لكن محتوى هذه الرسائل في الأغلب يقتصر على سؤال: "هل وجدتم طعاماً لتتناولوه أم لا؟ وهل عثرتم على مياه صالحة للشرب أم لا؟ هل تمكنتم من توفير ملابس وأغطية وأدوات لتمكين الخيمة لتقيكم أمطار الشتاء التي كنتم تنتظرونها بفارغ الصبر؟" والآن، لا يستطيعون تحديد إن كان المطر نعمة لأن الله سقاهم المياه التي حُرموا منها، أم نقمة لعدم توفّر مأوى يحميهم من الأمطار، فما هي إلاّ خيمة من قطع قماش كانت قد سقطت عشرات المرات على رؤوسهم!

يخبرني والدي، منذ أسبوع، فيقول: "اضطررنا إلى تناول البسكويت المنتهية صلاحيته على وجبة الفطور"، أمّا بالنسبة إلى مياه الشرب، فلم يتمكنوا من الحصول على زجاجات مياه معدنية للشرب سوى مرتين منذ أربعة أسابيع، أي منذ نزوحهم إلى الجنوب. وحتى في حال حالفهم الحظ بتأمين وجبة طعام واحدة خلال اليوم، فإن أخي محمود يخبرني أنه يجبر نفسه على تناول وجبة واحدة يومياً حتى لو تضور جوعاً، وذلك لتجنب الوقوف ساعات في طوابير المرحاض! وعليه، لم يعد غريباً أن أرى وجوه عائلتي شاحبة نحيلة، بعد أن خسر معظمهم عدة كيلوغرامات من أوزانهم نتيجة جريمة التجويع التي يواجهونها، والتي بلغت ذروتها؛ هذه الجرائم التي لا يمكن لعدسات التلفاز ولا كلمات مواقع التواصل الاجتماعي إيصالها.

وفي مأساة أُخرى، تروي لي صديقتي جلنار- التي لم أتمكن من التحدث إليها منذ بداية العدوان سوى ثلاث مرات- معاناتها جرّاء النزوح مرتين من حي النصر، حيث بيتهم الدافئ الذي قُصف بلا سابق إنذار، ومن ثم من بيت عائلة زوجها الذي قُصف أيضاً بقذائف الدبابات الإسرائيلية، وهو ما أدى إلى استشهاد عمها، فنزحت مع زوجها إلى وسط مدينة غزة، ولا تعلم ما حدث لبقية أفراد عائلتها. فقدت جلنار أطفالها الثلاثة الأُول قبل إنجابهم، وقد عانت كثيراً للمحافظة على حملها واستمراره حتى الشهر السابع، لكنها فقدت الاتصال بطبيبها الخاص، ولم تتمكن من الحصول على الحقن التي تتناولها يومياً طوال فترة حملها للمحافظة عليه، وكانت تسرد لي، عبر رسائل الـواتساب، تفاصيل ما مرت به من نزيف وألم خلال الأيام الماضية، وكيف أنها لم تتمكن من الوصول إلى طبيب أو مستشفى، بالإضافة إلى آخر التحاليل التي أجرتها قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إذ كانت تأمل بأن تتمكن من التواصل مع طبيب خارج غزة، لعله يجيب على بعض أسئلتها، أو يحدد لها الجرعة التي عليها تناولها، أو موعد ولادتها، وإن كانت ولادتها ستكون طبيعية أم قيصرية.

أمّا عن ابنة عمي فاطمة، وهي الوحيدة التي تمكنتُ من التواصل معها منذ خمسة أيام، فقد أخبرتني أنها تخجل من أن تفصح عن ماهية المياه التي يشربونها والطعام الذي يتناولونه، وكيف لأختها جود ذات الستة أعوام، وهي مريضة السكري، أن تستوعب أنها لا يمكنها تلقّي حقنها حتى لو كانت متوفرة، فليس هناك صيدلية مفتوحة، وحتى إن عثروا على واحدة، ليس هناك ثلاجات لحفظها! وتتوسل إليّ كي أتوقف عن أسئلتي، لما تتركه الإجابات لديها من جرح وغصة. وهكذا تكون نهاية أي حوار مع عائلتي في جنوب القطاع؛ غيمة من الخيبة والعجز.

عن المؤلف: 

ريما صالح: متدربة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.