شهادة من السجن: عدوان قاسٍ غير مسبوق ضد الأسرى
التاريخ: 
20/11/2023
المؤلف: 

في وقت يواجه شعبنا ومقاومته في قطاع غزة هجمة فاشية غير مسبوقة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لا نبالغ إذا ما وصفناها بالإبادة الجماعية والتهجير القسري، وذلك أمام عدسات التلفزة العالمية، في انتهاك فاضح لجميع المواثيق والأعراف الدولية التي تحدد قواعد الحرب، وفي وقت يواجه شعبنا في الضفة الغربية، وفي القلب منها القدس، حملات القمع والتنكيل والاعتقال، وتُنفَّذ بحقه المجازر كل يوم، كما يواجه شعبنا في داخل الداخل الفلسطيني ليس فقط حملات الأسرلة المتواصلة، بل أيضاً مخطط إغراقه بالجريمة المنظمة وحملات الاعتقال وتكميم الأفواه، وبينما يُلاحَق أبناء شعبنا في بعض الشتات الفلسطيني، ويتم حرمانهم من حقهم الطبيعي في إعلاء الصوت ضد الفاشية الاستعمارية الصهيونية المنفلتة من عقالها في فلسطين التاريخية، فإننا هنا، في الجغرافيا السادسة لانتشار أبناء شعبنا، كما سمّاها الدكتور عبد الرحيم الشيخ، أي في سجون المستعمرين الصهيونيين الممتدة على طول الوطن وعرضه، نواجه أيضاً هجمة فاشية شرسة هي الأولى من نوعها منذ سنوات الأسر الأولى، في إثر نكبة شعبنا الثانية سنة 1967.

لقد طالت الهجمة كل إنجازاتنا وجوانب حياتنا كأسرى، بما يشمل الطعام والشراب ومواد التنظيف والنزهة اليومية والوضع الصحي وزيارات الأهالي والتلفزيون والراديو والكتب والأقلام والدفاتر والمقتنيات الشخصية، كالملابس وصور الأهل، ووسائل الحماية من البرد القارس مع اقتراب حلول فصل الشتاء....إلخ. 

الأسرى في قلب طوفان الأقصى

لم يعد وصف سياسات المستعمرين الصهيونيين ضدنا كأسرى بالقتل البطيء تعبيراً مجازياً عن واقع استهدافنا الدائم من قبل المنظومة الاستعمارية، سواء في الزنازين ومراكز التحقيق أو في السجون نفسها. فقد بات القتل البطيء واقعاً ملموساً يمارس يومياً بمختلف الوسائل ضد جميع الأسرى، بدءاً بالتعذيب الممنهج وصولاً إلى الضرب المبرح، ولا سيما ضد الأسرى الجدد، علماً بأن جزءاً غير قليل منهم هم أسرى محررون، وأيضاً ضد المعتقلين من قطاع غزة، وخصوصاً العاملين منهم في الداخل الفلسطيني، الأمر الذي أدى إلى استشهاد ستة أسرى عُرف منهم: عمر دراغمة، وعرفات حمدان، وعبد الرحمن مرعي، وثائر أبو عصب، وماجد زقول، وأسير آخر من غزة لم تُعرف هويته بعد، بالإضافة إلى إصابة العشرات، بمن فيهم كبار في السن، إصابات بليغة، من دون أن يتلقوا أي نوع من العلاج. والضرب المبرح المشار إليه لا يمارسه أفراد وحدات القمع المنتشرة في عوفر فحسب، بل أيضاً أفراد شرطة مديرية مصلحة السجون العاملون في السجن، وفق شهادات عدد من الأسرى الذين تعرضوا له. مع الإشارة إلى أن هذه الممارسة تشمل إطلاق الرصاص المطاطي، وإرغام الأسرى الجدد، الذين يتم اقتيادهم إلى تحقيق الشاباك والشرطة، على إحناء ظهورهم ورؤوسهم بصورة كاملة، وكل مَن لا يمتثل لهذه التعليمات يتعرض للضرب المبرح! يضاف إلى هذا كله الصراخ والشتم بصورة متواصلة، والاستفزازات التي تحدث خلال التعداد اليومي، وخلال فحص الشبابيك والأرضيات، وذلك بهدف استفزاز الأسرى ودفعهم إلى الرد، وبالتالي استخدام القوة المفرطة في القمع. إلاّ إن وعي الأسرى للهدف من وراء هذه الممارسات، يجعلهم حريصين على ضبط النفس لقطع الطريق على الاستهداف والقمع، وحتى القتل، كما أُشير آنفاً.

وبالتالي يمكن القول إن سياسات الإماتة عبر التعذيب والضرب المبرح، باتت على أجندة مديرية مصلحة السجون الإسرائيلية، في ترجمة عملية للسياسات التي دأب على ترويجها وزير ما يسمى بالأمن القومي إيتمار بن غفير.

وكانت وسائل الإعلام العبرية قد كشفت، مع اندلاع الحرب الإسرائيلية ضد شعبنا في قطاع غزة، أن الأجهزة الأمنية الصهيونية تعتبر الفرصة مؤاتية لتنفيذ خطة بن غفير للانقضاض على الأسرى، وعلى الإنجازات التي تمكنوا من انتزاعها من خلال معارك الأمعاء الخاوية منذ ما يزيد على خمسة عقود، إذ لم يعد ثمة خشية من تفجر الأوضاع نتيجة حساسية قضية الأسرى، فالأوضاع باتت متفجرة، وحرية مقاتلي الحرية أصبحت في قلب طوفان الأقصى. إذاً، وبمنطق الفاشية الصهيونية العارية تماماً، أصبح مقاتلو الحرية الفلسطينيون في الأكياس الحجرية هدفاً للانتقام، ولتنفيذ سياسات ظلت حبيسة الأدراج، وبالتالي لم يعد أحد في مديرية مصلحة السجون وفي إداراتها يتحدث عن قبضة حريرية وسياسات احتواء الأسرى، وإنما يتحدثون عن قبضة حديدية، ومحاولات إخضاع بالقوة وبمزيد من القوة، في تعبير جليّ عن العودة إلى وسائل السيطرة القديمة، أي تلك الخاصة بالسنوات الأولى لتبلور الحركة الأسيرة. وفي القلب من هذا، هناك "العنف البنيوي" المباشر من خلال التعذيب والضرب المبرح باستخدام هجمات الكلاب البوليسية، والتعذيب غير المباشر الذي يترجم عملياً بمنطق "دعوهم يموتون"، أي عبر التجويع، والإهمال الطبي، والتعرض للبرد القارس، وعدم توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية، وفرض حصار خانق على الحركة الأسيرة.... إلخ.

العقوبات الجماعية ضد مقاتلي الحرية

الشبع ممنوع بقرار! إذ تقتصر وجبة الإفطار لكل أسير على ملعقة لبن وشرحة بندورة أو فليفلة! ويقتصر الغداء على كمية محدودة من الأرز غير الناضج في كثير من الأحيان، مع بضعة حبات من العدس المسلوق أو الذرة أو الفاصوليا أو البازيلا، وأحياناً يضاف إليها النقانق أو "شنيتسل"، ويتم تقديم الحبش غير مطهو في الأقسام، فلا يستلمه الأسرى. أمّا العشاء فهو عبارة عن ملعقة حمص، وأحياناً بيضة مع حبة بطاطا، وبالنسبة إلى الفواكه فهي بحكم الممنوعات منذ بدء الهجمة. كل هذه الأمور جعلت الأسرى يشعرون بجوع حقيقي؛ جوع يسري في عروقهم، ويحاولون إسكاته بتناول قطعة من الخبز مع شربة ماء، في حال توفرت.

لم يكن الأمر على هذا النحو قبل الهجمة الفاشية؛ فقد كان الأسرى السياسيون يديرون مطبخ السجن، لكن في الوقت الحاضر يُمنع عليهم القيام بهذا الأمر، كما كان يمكن إعداد الطعام في "الغرف" بوجود البلاطة الكهربائية، التي تمت مصادرتها، وتعويض النقص الكبير في كمية الطعام ونوعيته بالشراء من كانتينا السجن، فضلاً عن شراء بعض أصناف الخضار والفواكه التي كانت مسموحة أحياناً، لكن الوضع تبدل، فالكانتينا مغلقة، وتم حظر تحويل أي مبالغ مالية إلى الأسرى، سواء من ذويهم أم من السلطة الوطنية.

ناهيك عن هذا كله، فإنه لا يُسمح للأسرى سوى بتناول الماء من بين مختلف السوائل، وحتى الماء يتم قطعها أحياناً، وبصورة متعمدة، وبالتالي بات الحصول على الشاي والقهوة ترفاً يعود إلى زمن مضى! تماماً كما السجائر، التي انتهى ما كان متوفراً منها، علماً بأنها أبرز عناصر الضغط على الأسرى المدخنين أصلاً.

كذلك شملت العقوبات الجماعية ضد مقاتلي الحرية الفلسطينيين في باستيلات الفاشيين الصهيونيين قطع الكهرباء نهاراً (الإضاءة) عن زنزانات العزل الجماعي، والتي تضاء في ساعات الليل فقط لتسهيل عملية المراقبة والفحص كل نصف ساعة، إذ تشي هذه الممارسة، تماماً كما بقية الإجراءات، بتفشي شهوة الانتقام والإمعان في الفاشية. وفيما يتعلق بالفورة أو النزهة اليومية، فقد جرى تحديدها بمدة لا تزيد على 15 دقيقة لكل زنزانة، وهي في العادة فترة مخصصة لاستحمام ثمانية أسرى، وللمشي قليلاً، وللتفاعل مع أسرى الزنزانات الأُخرى عبر شبك أبوابها الحديدية!

إن وصف واقع الرعاية الصحية للأسرى حالياً بـ "الإهمال الصحي" لم يعد وصفاً دقيقاً؛ فقد كان هذا يصلح لوصف الواقع قبل الهجمة الشاملة، التي لا تزال متواصلة ومتصاعدة، أمّا الوصف الأدق حالياً فهو "غياب الرعاية الصحية"؛ ففي حين ما زال الأسرى الذين يعانون جرّاء الأمراض المزمنة يتلقون أدويتهم كل أسبوع، فإن المرضى الذين يعانون جرّاء الأمراض الطارئة والموسمية، كالإنفلونزا مثلاً، لا يحصلون لا على دواء، ولا على رعاية صحية، ولا على علاج في المستشفيات، وبالتالي يتدبرون أمورهم من خلال استخدام بعض الأدوية المتبقية لديهم من أوقات سابقة.

وبدا واضحاً خلال الأسابيع الماضية عدم حضور طبيب عام إلى الأقسام لفحص الأسرى المرضى. وحتى الأسرى باتوا يترددون كثيراً في طلب الرعاية الصحية، على الرغم من حاجة الكثيرين منهم إليها، وذلك خشية أن يتحول مشوارهم إلى العيادة إلى حجة للاعتداء عليهم بالضرب، الأمر الذي يبرهن منطق "دعوهم يموتون"، إذ لطالما اعتبروا هذا المنطق أساساً لسلوكهم إزاء إضرابات الأسرى المفتوحة عن الطعام.

لقد جرى اعتماد سياسة التقنين فيما يتعلق بتوفير حاجات الأسرى، بما يشمل مواد النظافة الأساسية كورق التواليت، وسائل الجلي، والشامبو....إلخ، إذ يتم تأمين هذه المواد بالقطارة من الكانتينا المغلقة، وذلك على حساب الأسرى في النتيجة. أمّا أدوات التنظيف الأساسية الأُخرى، كالمكانس والقشاطات، فممنوع الاحتفاظ بها في الغرف!

علاوة على هذا كله، فإن البنى التنظيمية والإدارية، سواء تلك العامة أو الفصائلية الخاصة، باتت مستهدفة منذ السابع من أكتوبر، وفي مقدمها اللجان النضالية واللجان الوطنية ولجان الكانتينا ومسؤولو التنظيمات وممثلوها وممثلو الأقسام والسجون؛ إذ تم التضييق عليهم جميعاً لناحية التنقلات وعدم الاستقرار، وبالتالي عدم تعامل إدارات القمع مع أي صيغ تمثيل جماعي للأسرى، الأمر الذي يؤكد استهداف العمل الوطني الجماعي المشترك، والأطر القيادية لمختلف التنظيمات. وبدلاً من ذلك تسعى إدارة السجون لفرض التعامل الفردي مع الأسرى، في محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء نحو 56 عاماً.

وتشمل الهجمة ضد الأسرى وقف زيارات الأهالي في السجون كافة، ومصادرة أجهزة التلفاز والراديو والكتب والأقلام والدفاتر وكل المقتنيات، كصور الأهل والأحذية الرياضية والملابس، فلا يمكن الاحتفاظ إلاّ بغيار واحد، والمرايا، وألعاب الرياضة في الساحات، وثلاجة الماء البارد...إلخ. كما تشمل العقوبات الجماعية ونزعة الانتقام إبقاء زنازين العزل الجماعي مشرعة النوافذ على الرغم من البرد القارس، وعدم إعادة الملابس الشتوية المصادرة، إذ تقتصر موجودات الغرف على فرشة وحرام واحد في أحسن الحالات، وبعض الأسرى ليس لديهم سوى غطاء صيفي خفيف، وكذلك الحلاقة ممنوعة وتتم مصادرة أدواتها.

ويقع في مقدمة المحظورات، إقامة العزاء والمواساة بالراحلين والشهداء من ذوي الأسرى، وهذا ما حدث مع أب جرى اعتقاله مع اثنين من أبنائه وقد سقط شقيقهم الثالث شهيداً، ومع أسير استشهد شقيقه أيضاً. كما جرى حظر صلاة الجماعة في الساحات، وذلك منذ بداية الهجمة.

وما زالت قائمة الممنوعات والعقوبات تطول وتطول...

وبالتالي يعيش الأسرى تحت ضغط كبير جداً في ضوء تلك الهجمة الإرهابية، لكنهم مصممون على تفويت الفرصة على السجانين ووحدات القمع المستعدة لممارسة أقصى درجات التنكيل بهم، ولا سيما أنهم يعولون على اقتراب حريتهم... فليس أجمل بالنسبة إلى الأسرى من حرية لطالما انتظروها وحلموا بها.

يقول الراحل محمود درويش: "في السجن لا تقل انتهى كل شيء.. في السجن نقول ابتدأ كل شيء.. والبداية هي الحرية. وحتى انتزاع الحق بالحرية." إن مقاتلي الحرية الفلسطينيين يؤكدون أن الهجمة الإرهابية ضدهم لن تعزلهم عن شعبهم العظيم الذي يدفع من دمه ثمناً باهظاً من أجل نيل الحرية، ولن تحول دون قدرتهم على التفكير الحر الذي يمكنه كسر أشد القيود، تماماً كما كان الراحل نلسون مانديلا يقول: "لا شيء في السجن يبعث على الرضا سوى شيء واحد، هو توفر الوقت للتأمل والتفكير."

 

* هذه الشهادة هي من واقع حياتنا اليومية في الأسر. وقد قمتُ بإعدادها سريعاً، ذلك بأن الأوضاع غير ملائمة للكتابة، سواء لناحية قطع الكهرباء وعدم توفر الدخان وغيره من الحاجات الأساسية، بالإضافة إلى غياب الحد الأدنى من مقومات الحياة الرئيسية، أو لناحية عدم الاستقرار.

عن المؤلف: 

أبو حنين: أسير فلسطيني.