لم تعد الأبجدية تتسع للرثاء وبلاغة الأدب وخيال الشعراء! بل لم تعد تتسع لنص سردي فقير ومتواضع! كل هذه الإبادة الجماعية العلنية المفتوحة وعلى الهواء مباشرة، تواصل من جديد استهداف قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وقد فاضت المجازر فوق كل حروف اللغات، وأيقظت الضمائر الإنسانية بالاحتجاجات والتظاهرات في عدد من عواصم ومدن العالم. في ظل هذا الدمار المريع وغير المسبوق، هل تستطيع اللغة أن تزحف في زقاق المخيمات وأحياء المدن المدمرة في قطاع محاصر مقاوم لا يرفع راية بيضاء، لعلها تلتقط بوجع بعض التفاصيل المثيرة والحكايات الغائبة في سيرة الأسير المحرر عمر عيسى رجب مسعود؟
رأى عمر مسعود النور سنة 1974 في مخيم الشاطئ، شمال غرب مدينة غزة، لأسرة هاجرت قسراً عقب النكبة الكبرى سنة 1948 من قرية دير سنيد شمال شرق غزة، وأقيم على أراضي البلدة المدمرة مستوطنة ياد مردخاي، وتمددت على أطرافها مستوطنتي عازر وإيريز، وباتت جزءاً من المستوطنات المعروفة بغلاف غزة!
التحق عمر بمدارس وكالة الغوث (الأونروا) في مخيم الشاطئ، وشهد الفتى اندلاع الانتفاضة الأولى أواسط كانون الأول/ديسمبر 1987 بمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي التي سيطرت على القطاع عقب عدوان حزيران/يونيو 1967. التحق في شبابه بمجموعات النسر الأحمر، الجناح المسلح للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الانتفاضة الأولى، ونفذ مع رفاقه عدداً من العمليات العسكرية التي استهدفت جنود الاحتلال والمستوطنين والعملاء. اعتقلته قوات الاحتلال أواسط أيار/مايو 1993 بتهمة المقاومة المسلحة، وأصدرت بحقه حكماً بالسجن ثلاثة مؤبدات.
أقدمت إدارة سجون الاحتلال على نقله من سجن غزة المركزي إلى سجن نفحة في صحراء النقب، عقب توقيع اتفاق أوسلو أواسط أيلول/سبتمبر 1993، وقيام السلطة الفلسطينية باستلام القطاع مطلع أيار/مايو 1994 في إطار اتفاق الحكم الذاتي بين منظمة التحرير والكيان الإسرائيلي.
تابع عمر مسعود من سجنه بعض وقائع القضية الفلسطينية وتحولاتها المثيرة: انتخابات الدورة الأولى للمجلس التشريعي، وهبّة النفق سنة 1996، وانتفاضة القدس سنة 2000، والعمليات المسلحة والتفجيرات في المدن الإسرائيلية، واجتياح مدن الضفة الغربية خلال عملية السور الواقي أواخر آذار/مارس 2002، والاعتداءات المتواصلة على قطاع غزة. وكلما اشتدت المواجهات في ساحات الوطن، كان الأسير عمر يتعرض ورفاقه في ساحات السجون إلى حملة شرسة من القمع والتنكيل، مستهدفة أيضاً حجب زيارات ذوي الأسرى لأبنائهم المعتقلين.
تلقى عمر ورفاقه الأسرى عقوبات جديدة من التنكيل، عندما أقدمت المقاومة في غزة أواخر حزيران/يونيو 2006 على احتجاز الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ونقلته من حدود غزة إلى داخل القطاع. فقد أصدرت إسرائيل قانوناً عنصرياً أطلقت عليه اسم "شاليط" منعت بموجبه أهالي غزة من زيارة أبنائهم في سجون الاحتلال، وتضمن مجموعة واسعة من الإجراءات القاسية التي استهدفت أهالي القطاع تحت ذريعة استعادة الجندي المخطوف.
شهد عمر في سجنه الانقسام بين حركتي "فتح" و"حماس" صيف 2007 عقب فوز "حماس" بالدورة الثانية للمجلس التشريعي، وتشكيلها للحكومة الفلسطينية لفترة وجيزة. وقد زادت الهوة اتساعاً بين الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية، وقطاع غزة تحت سلطة "حماس"، في وقت أعلن الاحتلال مطلع أيلول/سبتمبر 2007 قطاع غزة "كياناً معادياً"، وفرض عليه حصاراً شاملاً.
راقب عمر من سجن نفحة في النقب حصار القطاع، وقصف الطيران الحربي الذي استهدف غزة أواخر 2008 ومطلع 2009 في عدوان "الرصاص المصبوب"، الذي توقف في 18 كانون الثاني/يناير 2009 بعد 23 يوماً من التدمير، وتابع عدوان "عامود السحاب" الذي استهدف القطاع طوال ثمانية أيام منذ أواسط تشرين الثاني/نوفمبر 2012.
تحرر تسعة من رفاق عمر في صفقة تبادل الأسرى "شاليط" أواسط تشرين الأول/أكتوبر 2011، وعادوا منتصرين إلى غزة مع مجموعة كبيرة من أسرى الضفة والقطاع. لم تنجح صفقة التبادل في تحرير عمر، وظل في السجن إلى جانب رفيقه محمود محمد سلمان من بيت لاهيا (غزة)، بالإضافة إلى مئة أسير من ذوي الأحكام العالية والمحتجزين في سجون الاحتلال قبل توقيع اتفاق أوسلو أواسط أيلول/سبتمبر 1993.
تم الاتفاق بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال على تحرير أسرى ما قبل أوسلو بتوزيعهم على أربع دفعات، فتحرر 15 أسيراً من القطاع و11 أسيراً من الضفة في الدفعة الأولى أواسط آب/أغسطس 2013، وتحرر عمر ورفيقه محمود سلمان مع 24 أسيراً في الدفعة الثانية صباح 30 تشرين الأول/أكتوبر 2013، وعادا منتصرين مع ثلاثة أسرى إلى قطاع غزة، على الرغم من كل محاولات إدارة سجن رامون في صحراء النقب مضايقته لقطع طريق فرحه بالحرية. وقد أبدى عمر حجم فرحه بمشاهدة أراضي قريته دير سنيد، خلال اجتيازه معبر إيريز في طريقه إلى مخيم الشاطئ.
شهد المحرر عمر أواسط تموز/يوليو 2014 عدواناً إسرائيلياً (الجرف الصامد) استهدف قطاع غزة على مدار 51 يوماً، وعايش في مخيم الشاطئ ثلاثة حروب جديدة استهدفت غزة، هي: صيحة الفجر في أواسط تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وسيف القدس في 10 أيار/مايو 2021، والفجر الصادق مطلع آب/أغسطس 2022.
أواسط تشرين الأول/أكتوبر 2017 ودّع رفيقه المحرر محمود سلمان، وشارك بحزن في تشييع جثمان المناضل إلى مثواه الأخير في مقبرة بيت لاهيا، وقد رحل رفيقه العنيد في مستشفيات القاهرة في أثناء علاجه من مرض السرطان القاتل.
تزوج عمر مسعود، واستقر في مخيم الشاطئ، وأنجب أربعة من الأبناء لا يتجاوز أكبرهم العاشرة من عمره، لكن الاحتلال الدموي لم يغفر للمناضل صلابته، ومواقفه الكفاحية، ونضاله الوطني من أجل الحرية والاستقلال، فأقدم على قصف منزله في مخيم الشاطئ صباح 30 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فاستشهد المحرر المتماسك إلى جانب زوجته وأطفاله الأربعة!
من أي سماء يطل العذاب؟! من أي أرض تُلتقط التفاصيل الغائبة؟! عاش الفتى عمر عشرين عاماً لاجئاً في مخيم الشاطئ، وأمضى المناضل عمر أكثر من عشرين عاماً في سجون الاحتلال، وعاش الزوج عشر سنوات مع أفراد أسرته، قبل أن تضيفه جرائم الكيان المغتصب وزوجته وأطفاله الأربعة، مع آلاف الضحايا من أبناء الوطن إلى سجل الشهداء الخالدين، في سياق جرائم مروعة وحرب إبادة مفتوحة جديدة تستهدف قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي!