يتعرض 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة لحرب إبادة مترافقة مع محو المكان بمدنه وبلداته وجعله غير قابل للحياة. أمّا في الضفة الغربية فهناك حرب تصفية، من خلال قتل الشبان المقاومين والمحتجين واعتقالهم. إنها حرب شرسة تهدد مصير الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، فلا يمكن فصل ما يجري في قطاع غزة، من كوارث ومحو، عن مصير قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة. الآن وأكثر من أي وقت مضى يتوحد الشعب الفلسطيني، تلقائياً وعفوياً ووجدانياً، في مواجهة الخطر الداهم، لكن حركته السياسية ما زالت غير موحدة لصد الخطر الداهم وقطع الطريق على الإبادة والتهجير. ان تجاوز هذا الاختلال يبدأ بإفشال سياسة غض النظر عن نظام الأبارتهايد الاستعماري الإسرائيلي لمصلحة الحرب على "الإرهاب" الفلسطيني المزعوم، وباستعادة الانتماء إلى سردية التحرر الوطني والحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف، والحق في تقرير المصير، وبإعادة تعريف الصراع في الخطاب والدعاية والتعبئة بما هو صراع بين حركة تحرر وشعب يملكان منظومة قيم تحرر ويدافعان عن قضية عادلة تحظى بتأييد ودعم شعوب العالم، وبين احتلال عنصري استعماري إقصائي يمارس النهب والاضطهاد والقمع والإرهاب.
حرب المحو والتهجير وشطب القضية الفلسطينية تترافق مع انحياز مراكز القرار الأميركية والغربية إلى الرواية الإسرائيلية التي سيطرت على المشهد وأثرت في الرأي العام العالمي سلباً، وخصوصاً بعد أن بالغت بوصف أخطاء فلسطينية وقعت يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وخلطتها بأفلام الذكاء الاصطناعي التي شوهت الفلسطيني وشيطنته، وتعاملت مع الفلسطينيين كـ "حيوانات بشرية " و"أشرار"، ووصفت الحرب ضدهم على أنها "حرب الحضارة ضد الهمجية". وعلى الرغم من أن تقارير المنظمات الحقوقية كشفت المبالغات فإن الدعاية الإسرائيلية والدوائر الغربية المؤيدة لإسرائيل ما زالت تكرر الادعاءات والأفلام "المفبركة". والأخطر أنها تحمّل مسؤولية موت مئات الإسرائيليين يوم 7 أكتوبر إلى جميع الفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك لتبرير استهداف 2,3 مليون فلسطيني، بالموت والدمار والتهجير.
شيطنة الكل الفلسطيني لتبرير جرائم الحرب
أصبحت مهمة أقوى جيش إقليمي مدعم بالترسانة الحربية الأميركية هي إزالة فصائل المقاومة كخطر وجودي -مبالغ به إلى حد الجنون- وفي السياق يتعرض الشعب في قطاع غزة، أو في معظمه، لإبادة فظيعة، تتمثل في تدمير مدنه ومخيماته وحضارته. إن الإمعان الإسرائيلي في الهجوم الوحشي على قطاع غزة يضع العالم أمام أبشع حرب إبادة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا. وبلغة موازين القوى والعقل لا يوجد خطر وجودي يهدد اسرائيل، فما حدث يوم 7 أكتوبر هو اختراق للأمن والاستقرار الإسرائيليين، وكان له قيمة رمزية مهمة تتمثل في اهتزاز صورة التفوق والهيمنة والتحكم بشعوب ودول المنطقة، وخصوصاً حين برهن الاختراق أن التفوق الإسرائيلي ليس مطلقاً ولا دائماً، كما أنه ليس قدراً لا فكاك منه، كذلك تكمن خطورة الاختراق في اهتزاز صورة إسرائيل لدى يهود العالم الداعمين لها بالمهاجرين.
جاء اختراق 7 أكتوبر بعد أن تناست المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية اختراق الجيشين المصري والسوري يوم 6 أكتوبر 1973 التفوق الإسرائيلي المطلق، واختراق الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني التفوق الإسرائيلي المطلق في معركة الكرامة عام 1968.
لقد حولت آلة الدعاية الإسرائيلية وامتداداتها الغربية استهداف المدنيين إلى شماعة لتبرير الفشل، وللانتقام، ولإعلان الحرب، وشيطنة الكل الفلسطيني، وحشد الرأي العام العالمي ضد الشعب الفلسطيني تمهيداً لحرب الإبادة في قطاع غزة، علماً بأن جزءاً من المدنيين الإسرائيليين ومن جنسيات أُخرى قُتل في أثناء الاشتباك بين مقاتلي "حماس" وعناصر الجيش والأمن الإسرائيليين الذين شنوا هجوماً مضاداً، أي أنهم قتلوا بنيران إسرائيلية، كما تفيد شهادات بعض الناجين الإسرائيليين.
إنهاء الاحتلال أم إنهاء شعب
كان يجدر التوقف عند سبب انفجار الصراع بهذا المستوى من الحدة والعنف، إذ يقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش: "من المهم أن ندرك أيضاً أن هجمات ʾحماسʿ لم تحدث من فراغ، فالشعب الفلسطيني يتعرض منذ 56 عاماً لاحتلال خانق تلتهم فيه المستوطنات أراضيه بشكل مطّرد ويعاني من العنف الموجه ضده، ومن خنق اقتصاده وهدم منازل مواطنيه وتهجيرهم، وقد تلاشت آمالهم في التوصل إلى حل سياسي لمحنتهم."[1] نعم السبب الرئيسي لانفجار 7/10 وللاحتجاجات وأعمال المقاومة التي سبقته هو الاحتلال والاستيطان والأبارتهايد والهيمنة والحصار والنهب والإذلال وإغلاق كل الأبواب والنوافذ أمام الحل السياسي للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. إن طريق إنهاء الاحتلال والسيطرة الاستعمارية على الشعب، والاعتراف بحقوقه المشروعة يقود إلى الاستقرار والأمن والتعايش. على النقيض من ذلك تختار إسرائيل، كدولة مستعمرة، طريق تثبيت الاحتلال والاستيطان وتعميقهما بالقوة وبمزيد من القوة. وبدلاً من إزالة احتلالها، تقود هجوماً وحشياً لإزالة تنظيمات المقاومة، وعملياً لإزالة 2,3 مليون فلسطيني من موطنهم وديارهم. ولا شك في أن تدمير معظم شمال غزة وتهجير 1,5 مليون إلى الجنوب، كمرحلة أولى، يؤكدان فعل الإزالة بتواطؤ أميركي وبعض دول الغرب؛ فالذين تواطأوا مع بقاء الاحتلال والسيطرة الاستعمارية العنصرية على الشعب الفلسطيني، يتواطأون اليوم مع حرب الإبادة.
شطب المستشفيات أكبر جريمة حرب
إن موت 1000 مدني إسرائيلي، بينهم أطفال ومسنون، واحتجاز 250 في عملية طوفان الأقصى، جرى استخدامه لقتل 10,900 فلسطيني حتى الآن، نصفهم من الأطفال وأكثريتهم الساحقة من المدنيين، فضلاً عن أعداد كبيرة من الضحايا لا يزالون تحت الأنقاض، وهذه الحصيلة قابلة للمضاعفة مع استمرار جرائم القتل والتدمير والتهجير القصري لأكثر من مليون ونصف مليون مواطن من شمال غزة إلى جنوبها. ما يحدث عملياً هو: "تحويل غزة إلى مقبرة جماعية"، كما قالت الممثلة أنجيلينا جولي. إن وجه الغرابة هو في غض النظام الدولي النظر عن جرائم حرب الإبادة وخسائرها الفادحة، وتسليط الضوء على المدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا في هجوم 7 أكتوبر، على الرغم من الفارق الهائل والنوعي بين عدد القتلى الإسرائيليين والضحايا الفلسطينيين. لقد رفضت إسرائيل عزو ما جرى يوم 7 أكتوبر إلى الاحتلال والاستيطان والحصار الخانق وسرقة الموارد وجرائم الحرب التي ارتكبتها في حروبها ضد قطاع غزة، لكنها تبرر حرب الإبادة وتهجير مليون ونصف مليون من شمال القطاع إلى جنوبه بـما جرى في 7 أكتوبر، وبحق الدفاع عن نفسها المتناقض مع القانون الدولي المعبَّر عنه باتفاقات جنيف الرابعة وبروتوكولاتها، وحقوق الطفل، وحقوق الإنسان، التي تقدم نصوصاً واضحة لا لبس فيها بشأن حماية المدنيين، ولا سيما الأطفال، وتأمين كل حاجاتهم الإنسانية والطبية بدون أي تأخير. هل يوجد أبشع من الرد على قتل أشخاص بهدر حق 2,3 مليون مواطن بالحياة، وبإبادة عائلات بأكملها؟ يعتبر القانون الدولي الإنساني أن تهجير 1,5 مليون مواطن وتدمير بيوتهم جريمة حرب، بيد أن إسرائيل تزعم أن التهجير هو من أجل حمايتهم، وتحصل في هذا الصدد على غطاء أميركي بدلاً من تأمين الحماية لهم في أماكن سكنهم التي يحظّر القانون الدولي تدميرها، وهي تبرر الهدم الشامل بوجود أنفاق تحت كل المباني التي تستخدمها "حماس" في قتالها قوات الاحتلال التي تجتاح القطاع، بيد أن ذريعة الهدم والتهجير متناقضة مع القانون الدولي ولا بد من وقفها وتحريمها.
والشيء نفسه ينطبق على حرمان المستشفيات من الوقود، والادعاء أن "حماس" تستخدم الوقود لشن الهجمات وإطلاق الصواريخ، مع أنه ليس ثمة طرف ثالث يدعم المزاعم الإسرائيلية، وخصوصاً فيما يتعلق بالوقود وبوجود أنفاق تحت المستشفيات. لماذا لا يتحقق الصليب الاحمر والأمم المتحدة ومؤسسات ومنظمات حقوقية ودول محايدة من استخدام الوقود في المستشفيات وضبطه؟ وأيضاً من وجود أنفاق؟ ومن أي استخدام مخالف لدورها الإنساني؟ ومن منع الإخلاء والتوقف عن معالجة المصابين في كل الاحوال؟ للأسف يجري التسليم بالرواية الإسرائيلية من الناحية العملية على حساب القانون الدولي، ومنظومة حقوق الإنسان، والحق في الحياة وحماية المدنيين، ويجري التعاطي عملياً مع شريعة الغاب وغطرسة القوة. في المقابل، من واجب المنظمات الدولية الحقوقية أن تتدخل دفاعاً عن القانون، وألاّ تترك شعباً أعزل وقوداً للآلة العسكرية العمياء والحاقدة، وأن تقول لا لحرب الإبادة والعقاب الجماعي بأشرس أشكاله الوحشية، وأن تضبط كل الأفعال بالقانون.
[1] افتتاحية "جيروزالم بوست" بعنوان: "خطاب غوتيرش برر ما لا يمكن تبريره"، 26/ 10/ 2023.