الاستعمار والإبادة: وعي التشخيص الفلسطيني
دار جدال فلسطيني مبكر بشأن طبيعة المشروع الاستعماري الإسرائيلي في فلسطين،[1] وتطورت لاحقاً التشخيصات الأكاديمية الدقيقة للمشروع الصهيوني وطبيعته وجوهره، ومنها على سبيل المثال دراسة فايز صايغ بعنوان "الاستعمار الصهيوني في فلسطين"، والتي تُعتبر مرجعاً أساسياً في دراسة إسرائيل كاستعمار استيطاني (إحلالي). وقد شخّص الكتاب إسرائيل بأنها نظام استعماري مختلف عن الاستعمار التقليدي الذي ينشغل بطبيعته بجني الأرباح، فبيّن صايغ طبيعة الاستعمار الصهيوني وسماته كاستعمار يهدف إلى استملاك الأرض والترحيل، بالإضافة إلى كونه استعماراً قائماً على العنصرية والإرهاب والعنف والتوسع الإقليمي.[2]
لقد تطور التشخيص العالمي والفلسطيني لإسرائيل كنظام استعمار استيطاني يهدف إلى المحو والهيمنة والاستغلال الاقتصادي والفصل العنصري، وذلك بعد جدال ونقاشات مطولة، لم تتوقف حتى اليوم، خاضتها مؤسسات ومجلات عالمية وفلسطينية، منها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومركز مدار، ومدى الكرمل، وغيرها. كذلك انخرطت جامعة بيرزيت في هذا المجهود من خلال دراساتها عن القرى المهجرة، ولاحقاً من خلال إطلاق برامج أكاديمية في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية ترى إسرائيل كنظام استعمار استيطاني، وتدرس تجلياته وتقاطعاته مع نظم استعمارية أُخرى في العالم. فقد أصبح التعليم الجامعي الفلسطيني لا ينفك عن وصف إسرائيل بالنظام الاستعماري؛ ففي بيانات لمجلس طلبة جامعة بيت لحم ترد مفاهيم تدلل على طبيعة الاستعمار مثل: التطهير العرقي، والتطهير المكاني، والإبادة.
يبدو أن هناك براهين جديدة خلال هذه الحرب تعزز هذه الرؤية التي تتمثل في أن إسرائيل عبارة عن نظام استعمار استيطاني عنصري يهدف إلى المحو والإبادة؛ وربما تتجلى تلك البراهين عند مجموعات من الباحثين والسياسيين والإعلاميين الذين كانوا يعتقدون أن هناك ترفاً فكرياً في تشخيص إسرائيل كنظام استعماري هجين يدمج الفصل العنصري مع الاستغلال الاقتصادي مع المحور والتطهير العرقي، إلى جانب ذلك هناك تشخيص تراكمي للحالة الإسرائيلية كونها تعمل على التطهير الجماعي، أي التطهير للجماعة والشعب الفلسطيني ووجوده كجماعة سياسية وثقافية وإنسانية، أو ما يمكن وسمه بالإبادة الجماعية للفلسطينيين، وهذه الإبادة الجماعية لا تنحصر في غزة وحدها، وإنما تأخذ صورة أبشع وأفظع في قطاع غزة.
يمكن المراكمة على "نبوءة" الروائي الياس خوري المعروفة بـ"النكبة المستمرة"، والقول إن الإبادة مستمرة، والإبادة كالنكبة أو أشد بأساً بنسختها الحداثوية لعام 2023، كما أنها أحد أشكال النكبة أو جزء من مركباتها؛ فالنكبة بمنطق خوري مستمرة، وأيضاً الإبادة مستمرة كبنية متصاعدة تمؤسس وتستأنس العنف والإرهاب والوحشية والقتل بضمير مرتاح، وثمة أيضاً ماكينة إعلام ضخمة صفراء بالفعل والخطاب والممارسة، وبيضاء بالمنهج والفكر والنظرية والروح، لشرعنة عملية الإبادة الممنهجة ضد الفلسطيني. والإبادة عملياً لم تتوقف في فلسطين منذ ما قبل عام النكبة 1948 وما زالت مستمرة، لكن ما يختلف هو وتيرتها وشكلها وأمكنتها وأزمنتها؛ فالإبادة هي فعل القتل والتدمير الاجتماعي والجماعي للشعب الفلسطيني، وهي أخطر وأوسع من التطهير العرقي الذي يهدف إلى قتل الإنسان وإزالته، بينما الإبادة تهدف إلى قتل الإنسان والمكان والهوية، ونزع شرعية الوجود الإنساني والسياسي والثقافي والجغرافي، بهدف إباحة عملية الإفناء والدثر.
الإبادة "بالقطعة" في الضفة الغربية والقدس
إن ما يجري في الضفة الغربية والقدس منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر يدخل في إطار عملية الإبادة الكبرى التي أطلقت عنانها إسرائيل تجاه الفلسطينيين كشعب وهوية؛ فما يجري في الضفة هو شكل من أشكال الإبادة الساكنة أو الصامتة، والإبادة بالمواربة، وبالقطعة، أي إبادة مجزأة تستهدف الأرض، أو أجزاءً من الأراضي، مثل مناطق "ج"، أو مناطق محددة من القدس، أو الأسرى، أو تتغول على تيارات سياسية معينة، وتغير على مؤسسات محددة، وآخرها الإغارة بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 على جامعة بيرزيت ومجلس طلبتها وكتله الطلابية.
تأخذ هذه الإبادة شكلاً صامتاً أو خفياً، وأيضاً شكل القطعة-قطعة، أو كما هو دارج في الثقافة الشعبية الفلسطينية إبادة "بالقطاعي"، وهي إبادة متكاملة وكلية عند تجميع قطع "البزل/الإبادة" المتناثرة؛ التي تلاحظ وتتضح معالمها عند إحصائها وتجميعها ضمن الصورة الأكبر؛ فمجموع الأجزاء في هذه الحالة يساوي الكل وربما يفيض عليه. إن العملية التراكمية لهذه الأشكال المنفردة والمجزأة من أفعال الإبادة وممارساتها تصنع صورة/عملية الإبادة الأكبر التي تهدف إلى اجتثاث الفلسطينيين بكل الوسائل والطرق الهادفة إلى محو الفلسطيني واقتلاعه وتهجيره وقتله وسفك دمه، مادياً وسياسياً وأخلاقياً.
مارس الاحتلال الترحيل خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2023 بشكل ممنهج، فمثلاً تم تهجير تجمع عين سامية ووادي السيق، وكان هناك محاولات متكررة للتهجير في أم صفا والمغير ومسافر يطا. كما شن جيش الاحتلال والمستوطنون هجمات متكررة ومتتالية على الفلسطينيين في التجمعات البدوية والزراعية في مناطق "ج"، ومُنع المزارعون الفلسطينيون من رعاية مواشيهم في مراعيهم، وخربت محاصيلهم الزراعية وأُحرقت وأُتلفت على يد المستوطنين. كذلك هدم الاحتلال الإسرائيلي غرفاً زراعية ومنازل للفلسطينيين في عدة مناطق من الضفة الغربية والقدس، لكن كان هناك تركيز واضح على استهداف مناطق "ج" والأغوار ومسافر يطا، وكأن هناك حلماً إسرائيلياً بإحياء خطة "ألون".[3]
كان هناك حالة استهداف منهجية لمخيمات الضفة الغربية من أجل تفكيك مجتمعات المقاومة وحواضنها، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال الاستهداف المباشر لمخيمات جنين، ونور شمس، وعقبة جبر، وبلاطة وغيرها من المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية التي تشكل حاضنة شعبية للعمل المقاوم ورافعة له. وكان الاستهداف يأخذ منحى عمليات عسكرية تستمر لساعات طويلة، وتهدف إلى قتل المقاومين الفلسطينيين، وتخلف دماراً كبيراً وتخريباً، كأن هناك سياسية لكيّ الوعي وصناعة التخريب والإرهاب حتى يتم الردع والعقاب. ما أود قوله إن الإبادة في الضفة الغربية بالقطعة أو الجزئية، هي سابقة للحرب على غزة ولعملية 7 تشرين الأول/أكتوبر، ذلك بأنها إبادة مستمرة وتعمل بطريقة متقطعة وتراكمية، وما زالت مستمرة وتتصاعد في ظل الحرب على غزة، ووسط الانشغال الإعلامي والسياسي والمحلي والعالمي بها؛ والإبادة أخذت منحى خطراً في شمال الضفة الغربية وجنوبها، حيث بدأت بالتصاعد والتزايد والانتشار بواسطة ميليشيات المستوطنين، وبحماية الجيش ورعايته، وبمباركة سياسية إسرائيلية، وهي اليوم تحت سقف حكم عسكري عنصري يستهدف الضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948.
يمكن رصد بعض أعمال الإبادة المتقطعة والمستمرة من خلال بعض المؤشرات، وأعتمد هنا على معلومات تقارير مكتب "أوتشا"، كون هذه التقارير دقيقة من الناحية المنهجية، ذلك بأنها صادرة عن منظمة دولية "محايدة" كي لا يكون ثمة شك في دقة بياناتها؛ في تقرير أوتشا، يُشار إلى عدد المهجرين في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر كما يلي: "هُجّر ما لا يقل عن 111 أسرة تضم 905 أفراد، من بينهم 356 طفلاً بسبب عنف المستوطنين والقيود المفروضة على الوصول. وتنحدر الأسر المهجرة من أكثر من 15 تجمعاً رعوياً أو بدوياً. [كذلك] هجر 120 فلسطينياً آخرين، من بينهم 55 طفلاً، في أعقاب عمليات الهدم التي شهدتها المنطقة (ج) والقدس الشرقية، بحجة افتقار منازلهم للرخص، وهُجّر 27 آخرين، بمن فيهم 13 طفلاً، في أعقاب عمليات الهدم العقابي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر."[4] وهذا يعني بلغة الأرقام، أنه، خلال شهر واحد، هُجّر من الضفة والقدس 1025 فلسطينياً، وأصبحوا نازحين داخلياً، أي بمعدل 35 شخصاً يُهجّر في اليوم. وهذا التهجير القسري هو جزء من عملية الإبادة الجزئية التي تهدف إلى المراكمة وتحقيق الإبادة المستمرة والمتواصلة.
لم تتوقف الأمور عند التهجير فحسب، بل أيضاً كثفت إسرائيل عمليات القتل في الضفة الغربية، وبحسب معلومات أوتشا، ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى الأسبوع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر: "قتلت القوات الإسرائيلية 150 فلسطينياً، من بينهم 44 طفلاً، وقتل المستوطنون الإسرائيليون ثمانية آخرين، أحدهم طفل... [أيضاً] أصابت القوات الإسرائيلية 2375 فلسطينياً، من بينهم 251 طفلاً على الأقل. وقد أصيب أكثر من نصف هؤلاء في سياق المظاهرات. كما أصيب 64 فلسطينياً على يد المستوطنين. وكان نحو 27 بالمائة من هذه الإصابات بالذخيرة الحية."[5] أي أن معدل الشهداء اليومي في الضفة الغربية خلال شهر العدوان يقارب 5 شهداء في اليوم الواحد، وهذا الرقم لا يقارن بأعداد الشهداء اليوم في قطاع غزة، لكن حتى هذا الرقم هو كبير وخطر ويؤشر على نية الإبادة أيضاً في الضفة والقدس.
كذلك سجل مكتب أوتشا "218 هجمة شنها المستوطنون على الفلسطينيين وأسفرت عن سقوط ضحايا (28 حادثاً) أو إلحاق أضرار بالممتلكات (157 حادثاً) أو سقوط ضحايا وإلحاق أضرار بالممتلكات معاً (33 حادثاً). وهذا يعكس متوسطاً يومياً يبلغ سبعة حوادث بالمقارنة مع ثلاثة حوادث منذ مطلع هذه السنة. وانطوى أكثر من ثلث هذه الحوادث على التهديد بالأسلحة النارية، بما شمله ذلك من إطلاق النار. وفي نصف الحوادث تقريباً، رافقت القوات الإسرائيلية أو أمنت الدعم الفعلي للمستوطنين الإسرائيليين وهم يشنون هجماتهم."[6]
يشار هنا إلى أن الفلسطينيين يخشون خطر الإبادة والقتل والتهجير من جانب المستوطنين أكثر مما يخشونه من جانب الجيش الإسرائيلي، لا لأن الجيش أكثر إنسانية من المستوطنين، وإنما لأنهم اعتادوا على العنف النظامي من جانب الجيش، بينما وحشية المستوطنين وبربريتهم وسوابقهم في إحراق حوارة وعائلة دوابشة ومحمد أبو خضير تجعل الفلسطينيين يخشونهم أكثر، ويخشون ممارساتهم الإرهابية، الأمر الذي يفتح سؤال الإبادة على مصراعيه في ظل وجود ما يقارب مليون مستوطن في الضفة الغربية. وفي الأشهر القليلة الماضية كانت الحكومة الإسرائيلية تدرس مخطط "مليون في شمرون" أي محاولة تسكين مليون مستوطن جديد في شمال الضفة الغربية؛ هل هذه الخطة الإسرائيلية كانت ضمن سياق مخطط الإبادة المتقطعة أم المتواصلة؟
فقد أفادت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية بوقوع 24 اقتحاماً وانتهاكاً للمسجد الأقصى خلال تشرين الأول/ أكتوبر، كما منع الاحتلال رفع الآذان 142 مرة في الحرم الإبراهيمي خلال تشرين الأول/ أكتوبر.[7] وبحسب تقرير الراصد عن تشرين الأول/ أكتوبر، فقد لوحظ منع الفلسطينيين، ولا سيما المقدسيين منهم، من الدخول إلى المسجد الأقصى على مدار أربعة أيام جمعة خلال تشرين الأول/أكتوبر، وسُمح فقط لما يقارب 5500 مصلٍّ، أغلبيتهم من النساء والرجال الكبار في العمر، وهذا مؤشر خطر على فرض أمر واقع جديد فيما يتعلق بالدخول إلى المسجد الأقصى، وربما يكون مقدمة لتطبيق وإعلان التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.
استغلت إسرائيل حالة الحرب على قطاع غزة، وكثفت عمليات المصادرة ووضع اليد على الأراضي خلال تشرين الأول/أكتوبر؛ فتمت مصادرة ما مجموعه 5382 دونماً تحت مسميات متعددة، منها مصادرة لأغراض عسكرية، ووضع يد، ومحميات طبيعية، وتوسيع منشآت.. إلخ.[8] وتضاعفت عمليات الاعتقال والاقتحام، بصورة مروعة، في الضفة الغربية والقدس، وهناك تركيز على محافظتي القدس والخليل في عمليات الاعتقال، وعلى جنين وطولكرم ونابلس في عمليات الاقتحام.
نهاية البداية: الصمود والمقاومة لتفكيك الإبادة والاستعمار
تمارس الحكومة الإسرائيلية وميليشيات المستوطنين عمليات إبادة جزئية على مدار سنوات في الضفة الغربية والقدس، وقد كثفت الشهر الماضي عمليات الإبادة الجزئية المتناثرة من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها، والتي تهدف إلى شل عصب الهوية الفلسطينية وتعبيراتها في الضفة، من خلال استهداف مجتمعات المقاومة وحواضنها، وتكثيف عمليات اعتقال الناشطين، أو أي شخص يمكن أن يشكل حالة إجماع في المقاومة بأي شكل من الأشكال. والحالة في الضفة الغربية في مهب الريح بسبب غياب العمل الجماعي والمنظم الذي يمكنه أن يشكل بيئة خصبة لتطوير مقاومة في وجه هذه الإبادة بمختلف أشكالها، إلاّ إن الفرصة ما زالت قائمة كي يجمع الفلسطينيون أشلاءهم السياسية هناك ليكونوا قادرين على المواجهة والصمود والثبات والمقاومة كأبسط خيار في مواجهة الإبادة المتقطعة والمتواصلة والتراكمية التي يتعرضون لها، والتي زادت وتيرتها، وسوف تزداد بعد أن تضع الحرب أوزارها في قطاع غزة. أمّا في القدس فلا خوف على شبابها وشيبها عندما يهبون في مواجهة المعتدي، ذلك بأنهم خبروا الميدان، ويعلمون كيف يديرون المعركة، بحكمة وذكاء وجَلَد وطول النفس.
[1] يمكن العودة إلى الصحف الفلسطينية في إبان فترة الانتداب، وخصوصاً صحيفة "الكرمل" ومقالات نجيب نصار عن الصهيونية.
[2] فايز صايغ، "الاستعمار الصهيوني في فلسطين" (بيروت: مركز الأبحاث- منظمة التحرير الفلسطينية، 1965).
[3] تعتمد هذه الملاحظات والمشاهدات على تقارير "راصد الاستعمار الإسرائيلي وسياسات الفصل العنصري"، الذي ستطلقه مؤسسة الدراسات الفلسطينية على موقعها في وقت قريب.
[4] مكتب الأمم المتحدة، تنسيق الشؤون الإنسانية- الأراضي الفلسطينية المحتلة، "الأعمال القتالية في قطاع غزة وإسرائيل، تقرير موجز بالمستجدات رقم 32"، 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2023:.
[5]المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.