
10/03/2025 عربي

03/03/2025 عربي

28/02/2025 عربي

27/02/2025 إنكليزي

26/02/2025 عربي

25/02/2025 عربي

ما أن انطلق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في مطلع الأسبوع الثاني من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023، حتى سارع الطبيب الجراح غسان أبو ستة إلى ترك عمله في مدينة لندن، والانتقال إلى مدينة غزة للمشاركة، في مجمع الشفاء الطبي وفي مستشفيات أخرى، في علاج ضحايا هذا العدوان، من الأطفال والنساء والرجال، الذين حالفهم الحظ بالبقاء على قيد الحياة.
وغسان أبو ستة، عضو مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، هو أستاذ فلسطيني- بريطاني مشارك في علم الجراحة، وجراّح تجميل وترميم. أكمل تعليمه الطبي في جامعة غلاسكو في المملكة المتحدة وتدرّب بعد التخرج في لندن، وشغل فيها لاحقاً ثلاث زمالات في الجراحة وإعادة ترميم الإصابات. انضم سنة 2011 إلى المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت، وأصبح، في سنة 2012، رئيساً لقسم الجراحة التجميلية والترميمية في المركز، ومسؤولاً طبياً لبرنامج إصابات الحرب لدى الأطفال والعيادة المتعددة التخصصات بإصابات الحرب. في سنة 2015، شارك في تأسيس برنامج طب النزاعات في معهد الصحة العالمي في الجامعة الأميركية في بيروت وأصبح مديراً له. عاد إلى المملكة المتحدة سنة 2020 وعمل في الجراحة التجميلية والترميمية في القطاع الخاص. هو محاضر في عدد من مراكز دراسات إصابات الانفجار، وعضو في مجلس إدارة جمعية "إنارة"، وهي مؤسسة خيرية مكرسة لتوفير الجراحة الترميمية للأطفال من مصابي الحرب في الشرق الأوسط، وعضو في مجلس أمناء "مؤسسة المعونة الطبية للفلسطينيين" في المملكة المتحدة. وقد نشر على نطاق واسع عن العواقب الصحية للنزاع المطوّل وإصابات الحرب، وعمل كجراح حرب في اليمن والعراق وسورية والجنوب اللبناني وخلال الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة[1].
كتاب: "سردية الجرح الفلسطيني"
أعدّ غسان أبو ستة، بالتعاون مع الصحافي والباحث اللبناني ميشيل نوفل، كتاباً بعنوان: "سرديّة الجرح الفلسطيني: تحليل السياسة الحيوية لإسرائيل"، نقلا فيه للقارئ تجربة هذا الطبيب المختص بطب النزاعات؛ هذه التجرية التي جعلته يكتشف ما يسمّيه "سرديّة الجرح الناتج عن الحرب"، بصفته التعبير الحيوي البيولوجي للحرب، وخزان سرديتها وشاهداً أزلياً على معاناة الجرحى، ولا سيما سرديّة الجرح الفلسطيني، الناتج عن مقاومة الاحتلال، والذي ما زال ينزف بغزارة، منذ سنة 1948 إلى اليوم. يقول غسان أبو ستة في هذا الصدد: "في كلّ جرحٍ عالجته، كنت أرى الحرب تتجسّد أمامي، وكل تلك الجروح التي عاينتها في فلسطين والعراق وسورية واليمن، كانت النافذة التي أطل منها على تلك الحروب".
يُستهل الكتاب بمقاربة نظريّة للموضوع، توضح كيف ظهرت نظرية "السياسة الحيوية" التي مهّدت لها أفكار الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، الذي رأى أن الاهتمام بحياة السكان وإدارتها، كما يتجلى في العزل الصحي، يمثّل بدايات السياسة الحيوية (بيوبوليتيك)؛ هذه النظرية التي شهدت، فيما بعد، تطويراً على أيدي كثيرين مثل الإيطاليين الفيلسوف جيورجو أغامبن وعالم الاجتماع أنطونيو نيغري والفيلسوف روبرتو اسبوزيتو، الذين تحدّثوا عن تلك السياسة، وخصوصاً في البلاد التي استُعمرت من قبل المستعمر الغربي، ما أدى إلى "إبادة السكان الأصليين أو تدمير حضارات تاريخية" (كالمايا والأزتيك والإنكا وسواها).
ويشير غسان أبو ستة وميشيل نوفل إلى أن السلطة الحيوية للدولة الإسرائيلية الناشئة على أرض فلسطين، اعتمدت التطهير العرقي الذي يصل إلى حد الإبادة الجسدية؛ وبعد الاحتلال في سنة 1967، طوّقت إسرائيل حياة الفلسطينيين بالمستعمرات الاستيطانية والتدابير القسرية التي تحرمهم شروط العيش الكريم للتفكير في السياسة والاستقلال، ثم أتاح لها "اتفاق أوسلو" تحقيق الإلغاء السياسي للجسم الفلسطيني من دون التخلي عن الإبادة الجسدية في قطاع غزة.
محتويات هذا الكتاب
يشتمل كتاب "سرديّة الجرح الفلسطيني: تحليل السياسة الحيوية لإسرائيل"، الصادر في كانون الثاني/يناير 2020 عن دار رياض الرّيسّ للكتب والنشر في بيروت، على خمسة فصول، تسبقها مقدِّمة، وتليها خاتمة.
في المقدّمة، يشرح ميشيل نوفل كيف تبلورت مواضيع الكتاب عبر حوار تفاعلي وتراكمي مع غسان أبو ستّة، ويبدأ برواية سيرة غسان أبو ستّة بصفته طبيباً معنياً بسردية الجسد الفلسطيني الجريح، منذ حرب النكبة (1948) حتى حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة.
ويتقصى الكتاب في الفصل الأول، الأعمال الميدانية للطبيب وأبحاثه النظرية، فضلاً عن تطبيقات السياسة الحيوية التي تنزع إلى إدارة صحة المجتمع الفلسطيني للتحكم بمفاتيح حياة أفراده، وذلك للتوصل إلى فهم أفضل لأبعاد السلطة الحيوية التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين.
ويتناول الفصل الثاني حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة، ووقائع الحروب الكبيرة التي شنتها إسرائيل عليه، ما جعل حرب النكبة سنة 1948 لا تزال مستمرة، ذلك لأن المشروع الصهيوني يمارس الإبادة الجسدية سعياً إلى تحقيق الإبادة السياسية.
ويتوقف الفصل الثالث عند "الجرح وقيمته المعنوية"، ويفترض أنه في لحظة تلقي الإصابة يزرع السلاح في الجسم رواية تلازم جرحى الحرب طوال حياتهم، فتحمل رواية الجرح في داخلها رواية الحرب نفسها.
بينما يحاول الفصل الرابع تحليل أزمة النظام السياسي الفلسطيني، فيرى أن هذه الأزمة تطال مؤيدي "عملية أوسلو" ومعارضيها في آن معاً، ويحاجج بأن الحركة الصهيونية استهلكت "عملية أوسلو" التي أنشأت فئة مرتبطة عضوياً بالاحتلال الإسرائيلي، ويخلص إلى أن أحد وجوه الأزمة قد يكون عدم قدرة النخب الفلسطينية على مراكمة التجارب والإنجازات في سياق ناظم وسردية ملازمة لا تنقطع في كل مرحلة جديدة.
ويتوقف الفصل الخامس عند تداعي النظام الصحي العربي وإدارة إسرائيل للسياسة الحيوية وتحكمها بصحة الشعب الفلسطيني وحياته، ويدعو إلى تطوير الأبحاث في حقل الأنتروبولوجيا الطبية العربية.
ويخلص الكتاب في خاتمته إلى أن الجرح الذي "يراد منه أن يكون تجسيداً لسطوة المستعمِر [بكسر الميم] على جسد المستعمَر [بفتح الميم]، يسترده المقهورون بإعطائه قيمة اجتماعية وسياسية إيجابية، تحوّله من مؤشر على عجز المستعمَر [بفتح الميم] إلى مؤشر على نديته للمستعمِر [بكسر الميم]؛ وفي اللحظة التاريخية التي تفقد الشعوب المستعمَرة القدرة على إنتاج هذه القيمة الإيجابية للجرح الحربي، فإنما تكون قد خسرت معركة الإرادة مع المستعمِر، ويكون وعيها الجمعي قد هزمه عنف المستعمِر".
كي وعي الفلسطينيين وإبادة مقوماتهم المجتمعية
يتحدث الفصل الثاني من هذا الكتاب عن حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزّة، الذي بات "أشبه بمخيم كبير للاجئين"، ويشرح كيف يقوم الصهيونيون بتدمير كلّ شيء: المرافق الصحية، والتعليمية، والمهنية، ومئات المباني السكنية، والمرافق العامة والخدمات والمنشآت الصناعية والزراعية والتجارية؛ وهو تدمير "يهدف إلى تحويل الفلسطينيين في غزة إلى مجرد أزمة إنسانية أو وجود ديموغرافي من دون حقوق سياسية واقتصادية". فخلال عدوانها على القطاع في سنة 2008، تعمّدت إسرائيل، كما يذكر الكتاب، ضرب القطاع بمليون ونصف مليون كلغ من المتفجرات، واستخدمت نوعاً جديداً من الفوسفور يُقذف من الجوّ أو البرّ ويسبّب تشوّهات كبيرة نتيجة قوّة الاحتراق.
وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن الحروب الكبرى التي شنها حكام إسرائيل، منذ ذلك العام، على الفلسطينيين في قطاع غزة، استندت إلى قناعة مترسخة لدى هؤلاء الحكام، فحواها أن الصراع مع الشعب الفلسطيني هو "صراع وجودي لا حل له"، وأنه لا بدّ من السعي إلى "كي وعي الفلسطينيين"، وكسر إرادة المقاومة لديهم، وإلحاق هزيمة معنوية دائمة بهم، من خلال نشر ثقافة الرعب والخوف بين صفوفهم وإشعارهم بالعجز الدائم، وصولاً ليس إلى تدمير هويتهم السياسية فحسب، بل كذلك إلى إبادة مقوماتهم المجتمعية، وهو ما أطلق عليه بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان اسم "Sociocide "، وهو مصطلح يعرّف بـ "الفعل المرتكب بنية التدمير، الكلي أو الجزئي، لجماعة وطنية أو اتنية، عنصرية أو دينية، وخصوصاً عبر قتل أعضاء هذه الجماعة، أو إخضاع هذه الجماعة، بصورة مقصودة، لشروط وجود تتسبب في تدميرها"[2]. وكانت الناشطة البلجيكية في الدفاع عن حقوق الإنسان "ماريان بلوم"، قد استخدمت هذا المصطلح في سنة 2012 في شهادتها أمام الدورة الثالثة لمحكمة راسل حول فلسطين، التي اجتمعت في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا، وذلك عندما اعتبرت، لدى تحليلها السياسة الإسرائيلية إزاء الشعب الفلسطيني، التي خبرتها طوال عشر سنوات من الإقامة في قطاع غزة وأصدرت كتاباً عن معايشتها أهله تحت عنوان: "غزة في عيوني"، أن إسرائيل تنتهح، أكثر من سياسة أبرتهايد، تنتهج سياسة يمكن أن توصف بـ "سوسيوسيد" إزاء الفلسطينيين، والتي تتجسد في التدمير المنتظم لفضائهم، ومنازلهم، وسياساتهم، واقتصادهم، وقوى مقاومتهم، وكذلك ثقافتهم.
وكي يبرر حكام إسرائيل حروبهم المستمرة هذه على الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في قطاع غزة، لجأوا، في دعايتهم، إلى نزع إنسانية هذا الشعب، وإلى ترويج مقولة فحواها أن هناك رؤيتين للعالم تتواجهان في هذا الصراع: فمن جهة، هناك رؤية تستند إلى " ثقافة الموت، وتمجيد الشهادة، والاستمتاع بقتل العدو بقنبلة بشرية"، ومن جهة أخرى، هناك رؤية تقوم على "ثقافة الحياة، وحماية السكان". وعليه، فإن الفلسطيني، وفقاً لهذه الرؤية الثانية، يجسد " الشر"، لأنه "يخزّن السلاح في البيوت والمساجد"، و"يستخدم المدنيين لحماية الصواريخ"، خلافاً للإسرائيلي الذي يجسد "الخير"، لأنه "يحذر سكان البناء قبل مهاجمته وتدميره"، ولأنه "يستخدم الصواريخ لحماية المدنيين".
أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية
يحاول الفصل الرابع من كتاب غسان أبو ستة وميشيل نوفل تحليل أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وهو موضوع سجالي بامتياز، إذ تراوح الأزمة السياسية الراهنة في فلسطين، بين العجز أمام توحّش الاستيطان الصهيوني الآخذ في ابتلاع الأرض المحتلة، وتكريس دولة الأبارتهايد، وسط الانقسام والتباعد بين السلطتين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. ويُبيِّن هذا الفصل كيف أن النخبة السياسية الحاكمة، تُحدد القيمة السياسية لإصابات الحرب استناداً إلى درجة توافق السردية السياسية للجرح مع مشروعها السياسي أو ابتعادها عنه، وهو الأمر الذي يجعل القيمة السياسية للجرح تختلف طوال حياة الجريح، حسب تغيّر مآل المشاريع السياسية، والنخبة التي تقود تلك المشاريع، وبالتالي تتحوّل هذه القيمة السياسية إلى المعيار الرئيسي الذي يُحدّد توافر الرعاية الصحية للمريض أو حجبها.
وختاماً، فإن هذا الكتاب، والمساهمة الميدانية الشجاعة التي يقدمها غسان أبو ستة في مداواة جراح ضحايا العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، يقدمان دليلاً حياً على دور المثقفين الفلسطينيين في إبقاء جذوة المقاومة لدى أبناء شعبهم وبناته متقدة، وحماية الهوية الوطنية الفلسطينية من التبديد، والحؤول دون تهميش الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني، وخصوصاً فصلها المتعلق باللاجئين الذين يشكلون القسم الأعظم من الشعب الفلسطيني وحقهم المشروع في العودة إلى وطنهم.
[1] https://www.palestine-studies.org/ar/node/235728
[2] http://www.artistespourlapaix.org/le-tribunal-russell-pour-la-palestine-aborde-la-question-du-sociocide/