متجذر: تطريز وجودنا غرزة بعد غرزة
التاريخ: 
04/11/2023
المؤلف: 

إنهم يمحون وجودنا من على الخريطة؛ كانت هذه أول فكرة طرأت على ذهني عندما بدأت حملة الإبادة الجماعية المتجددة والمستمرة التي ينفذها الكيان الصهيوني بحق شعبنا في فلسطين المحتلة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. مَن يتابع نضالنا ضد الاستعمار منذ أكثر من 100 عام، يدرك أن محو الكيان الفلسطيني وهويته ووجوده بأي معنى يشمله هذا المصطلح كان جوهر وجود "الدولة"" الصهيونية الاستعمارية منذ إنشائها قبل 75 عاماً. في ذلك الوقت، وعلى الرغم من أنهم طردوا ما يقرب من مليون فلسطيني من أراضيهم الأصلية، وقتلوا الآلاف بشكل جماعي، بالإضافة إلى من لم يتم إحصاؤهم، فإنهم لم يتمكنوا آنذاك من إبادتنا. ما يحدث اليوم هو محاولة سريعة للقيام بذلك وإنهاء المهمة التي بدأوا بها عام 1948.

 

"التطريز المختار هو "ورد محصن مع نفنوف" من منطقة إسدود (دليل فن التطريز الفلسطيني لنبيل عناني وسليمان منصور، ٢٠١١)" العمل الفني للفنانة رشا الجندي، منصة انستجرام @embroidered_exile

 

كفلسطينية في المنفى منذ الولادة والنشأة، كان الوطن بالنسبة إلي موجوداً في الكتب، والموسيقى، وقصص كبار العائلة، وعلى شاشة التلفاز، كذلك كان موجوداً في اللوحات والصور الفوتوغرافية والأعمال الفنية الأُخرى. وكان موجوداً أيضاً في التطريز الذي أمضت والدتي وخالاتي وجدتي من جانبَي عائلتي وقتاً في حياكته. في أثناء نشأتي، كان التطريز الفلسطيني، وتحديداً الغرزة ”الفلاحية"، حاضراً في كل مكان، وتقريباً في كل دقيقة من اليوم. كان وما زال موجوداً على الجدران والأرائك والملابس وحتى الوسائد. لقد لمسته وأعجبت به وارتديته، وفي النهاية، عندما كنت في العاشرة من عمري تقريباً، مددتُ يدي، وأخذتُ إبرة، وقطعة من القماش، وخيطاً وطرّزت.

عندما يقرأ المرء ويفحص تطور التطريز الفلسطيني، يصبح من الواضح أن وجوده القديم منذ ما يقرب 4000 عام هو في الواقع مقاومة. التطريز، الذي انبثق من العصر الكنعاني، متجذر فينا كأحفاد؛ زخارفه ليست مجرد تصاميم جميلة، فهي تعكس ارتباطنا العميق بالأرض وأشجارها وأعشابها وبحرها وطيورها وحيواناتها؛ إنها تعكس سياستنا من خلال الصواريخ والأسلاك الشائكة وأحزمة الضباط، كما تعكس نسيجنا الاجتماعي الغني من خلال رموز العرائس وكبار السن وصراع الحماة الكلاسيكي مع كنتها. باختصار، التطريز الفلسطيني هو انعكاس لكيانك أيها الفلسطيني.

في العامين الماضيين، ومع إعادة تشكيل نفسي كفنانة بصرية، لم يكن دافعاً شعرت به، وإنما كان صوتاً داخلياً يخبرني أنه يجب أن يشكل التطريز الفلسطيني جزءاً جوهرياً في أي مشروع طويل المدى. وفعلاً، أنا أطبقه في عملي. بينما كنتُ أبحث عن كيفية قيام مصورين آخرين بمزج أشكال مختلفة من أعمال الإبرة اليدوية في إنتاج الصور، وجدتُ الجمال واللون والإبداع. ومع ذلك، باستثناء المصورة المصرية رحاب الدليل، التي أظهرت أعمالها، بصورة جميلة، الثقافة المستمرة لمجتمعات سيناء، والعديد منها فلسطينية الأصل، لم أجد أي شخص آخر يستخدم التطريز في ممارسة التصوير الفوتوغرافي لنقل معنى أعمق يتجاوز الجماليات. رأيت أنه من خلال عملها الذي يحمل عنوان "شوق الغريب الذي انكسر طريقه"، عززت رحاب جذورها الفلسطينية، وهذا هو بالضبط ما يوحدنا، كمجتمع، على الرغم من تشتتنا عبر خريطة العالم: جذورنا؛ مرة فلسطيني، نصف أو ربع فلسطيني، فأنت دائماً فلسطيني.

بينما أكتب هذا المقال، أجد صعوبة في الاستمرار. أتوقف لدقائق طويلة كي أتفحص هاتفي، وأعرف كم من أبناء شعبي دُفنوا تحت أكوام الركام الثقيل الذي خلفته القنابل الصهيونية الجبانة. أتحقق من عدد الأشخاص الذين تلقوا رصاصة، والذين تم لفهم في كفن أبيض، ومقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين. أقرأ الأسماء وأسمع الصرخات وأحصي الأرقام. قلبي مثقل وعقلي ضبابي وأصابعي متجمدة. رؤية الوطن لأول مرة على الإطلاق منذ شهرين فقط، جعلت ما فقدته في فلسطين ملموساً للغاية؛ هي ليست فكرة مجردة بعد الآن. لقد قمتُ أخيراً بزيارة ولمس وتنفس مكان على هذا الكوكب يشبه رائحتي. مع كل ساعة استيقاظ، مع كل نفس أتنفسه، أسأل نفسي: كيف يمكنني الاستمرار من دون وجود فلسطين في حياتي؟

ثم أذكّر نفسي بمقاومتنا وصمودنا وعنادنا، أذّكر نفسي بمقاتلينا من أجل الحرية في كل شبر من أرضنا، هؤلاء الشباب الذين يستحقون الحياة الكاملة، والذين اختاروا حمل السلاح ودفع وجودنا إلى ما هو أبعد من الحصار والدبابة والجدار. أذكّر نفسي بجميع نسائنا اللواتي فقدن آباءهن وإخوتهن وأحبّاءهن وأطفالهن. هؤلاء النساء نفسهنّ اللواتي يزغردن في الجنازات، وينهضن في اليوم التالي ويحملن ما تبقى من عائلاتهن على أكتافهن من أجل دفع نضالنا إلى الأمام. أذكّر نفسي بشخصيات الأمومة في حياتي وصبرهن المستمر خلال تحريك الإبرة بثبات وإيقاع عبر القماش؛ لقد زرعن بذور حب فلسطين في قلبي. إن حبي لفلسطين هو خيار أتخذه كل يوم، على الرغم من كل الصعاب، وأعبّر عنه بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الإبرة والخيط. ولهذا السبب سأواصل تعليم تطريزنا للفلسطينيين الآخرين. معاً، نخيط جذورنا، ونقاوم المحو، ونصرّ على الوجود.

عن المؤلف: 

رشا الجندي (1984): روائية بصرية فلسطينية تقيم بين نيروبي وبرلين. يمكن متابعة مشروعها المستمر الذي يجمع بين الصور والتطريز الفلسطيني بعنوان "لمّا كان العنب حصرم" على إنستغرام: @embroidered_exile.