منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر يواصل الاحتلال شن حملات اعتقال واسعة في الضفة الغربية بلغت حصيلتها 1680 معتقلاً حتى كتابة هذه السطور، بحسب بيان مجموعة من المؤسسات التي تُعنى بالأسرى الفلسطينيين.[1] وأوضح هذا البيان أن 80% من المعتقلين تم تحويلهم إلى الاعتقال الإداري، وفي سياق متصل كانت حصة الأسد من عمليات الاعتقال تتركز في محافظة الخليل، وطالت 500 معتقل، بالإضافة إلى استشهاد معتقلَين اثنين في سجون الاحتلال، هما: عمر دراغمة (58 عاماً)، وعرفات حمدان (25 عاماً)، وهما من الذين اعتُقلوا بعد السابع من أكتوبر، إذ يفضح استشهاد دراغمة وحمدان التخوف من وجود خطة ممنهجة من جانب الاحتلال لاغتيال الأسرى، وذلك في ضوء العدوان الشامل على الشعب الفلسطيني الذي يأتي في إطار الإبادة الجماعية التي تُمارس بحقه.
وبحسب المعطيات الرقمية التي تتحدث فيها مؤسسات الأسرى، هناك تصاعد كبير في عمليات الاعتقال، وأكثر من ذلك، هناك تصاعد على مستوى الجرائم والانتهاكات بحق المعتقلين، إذ وصلت تلك الجرائم والانتهاكات إلى حد التهديد بالقتل، بالإضافة إلى عمليات تفتيش واسعة، واستخدام كلاب بوليسية داخل البيوت الفلسطينية في أثناء عمليات الاعتقال، وترك الأسرى المصابين بعد الاعتداء الوحشي عليهم من دون علاج، وبطبيعة الحال يندرج هذا النمط من الإرهاب ضمن سياسة العقاب الجماعي التي يستخدمها الاحتلال ضد سكان الضفة الغربية، يضاف إلى ذلك توجيه رسائل إلى المقاومة عبر محاولة الضغط على الأسرى بهذه الطرق الوحشية.
في سياق ما سبق، وبالانتقال إلى داخل السجون، حيث تمارس إدارة ما يُعرف بمصلحة السجون سياسة ممنهجة بحق الأسرى بعد السابع من أكتوبر، تقوم إدارة السجون بممارسة سياسة التجويع بحق الأسرى، وذلك عبر سحب كل المواد الغذائية من الأقسام، وتقليص عدد وجبات الطعام إلى وجبتين، إلى جانب إغلاق ما يعرف ب "الكانتينا"، بالإضافة إلى تكثيف حملات القمع، والتنكيل بالأسرى عبر استخدام الكلاب البوليسية، وقنابل الصوت، والغاز الحارق، والهراوات.
يضاف إلى ذلك حرمان الأسرى من العلاج على المستويات كافة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ قامت مصلحة السجون بزيادة عدد أجهزة التشويش، وأوقفت زيارات العائلات، وأبلغت المحامين بإلغاء الزيارات أيضاً، وحرمت الأسرى من الخروج إلى الساحة الخارجية (الفورة)، وأغلقت المغسلة، وهي أحد أهم المرافق التي يستخدمها الأسرى لغسل ملابسهم،[2] وسحبت أجهزة التلفاز المتاحة لهم، وكل الأجهزة الكهربائية، وأتلفت جميع مقتنياتهم، وخصوصاً الملابس، وأبقت لكل أسير غياراً واحداً، كما صادرات أجهزة الراديو. وتأتي هذه الإجراءات ضمن سياسة عزل الأسرى عن العالم الخارجي، ومنعهم من متابعة مجريات الأمور فيما يخص معركة "طوفان الأقصى".
وفي اتصال هاتفي مع أحد الأسرى في سجن عوفر قال لي: "الوضع شديد الخطورة ونحن نعيش في ظروف صعبة ومعقدة جداً، لقد قامت مصلحة السجون بسحب كل شيء حتى الأغطية، والأحذية، والكتب." وتؤكد شهادات الأسرى من داخل السجن، أو شهادات أولئك الذين تم الإفراج عنهم، أن ساحة السجن تقف على صفيح ساخن، ذلك بأنها لا تنفصل، بطبيعة الحال، عن ساحات النضال الأُخرى، وعلى الرغم من خصوصيتها المعقدة، فإن هذا لا يمنع الخطر الحقيقي الذي يعيش فيه الأسرى، إذ يصب الاحتلال جام غضبه عليهم، سواء خلال عملية الاعتقال أو حتى داخل السجون.
وكي تشاهد الصورة الأُخرى للمشهد، فقد تمكنت المقاومة عبر الحرب النفسية التي تمارسها على الاحتلال من توجيه عدة رسائل من خلال بث مقاطع فيديو للأسرى الإسرائيليين لديها، واللافت فيما يجري هو اختيار المقاومة العنصر النسائي أولًا لتوجيه هذه الرسائل، وهذا بطبيعة الحال يترك أثراً في الجبهة الداخلية الصهيونية، الأمر الذي سيؤثر حتماً في القرارات السياسية خلال مجريات معركة "طوفان الأقصى". كما أن اختيار المقاومة فئة الأعمار الكبيرة سيكون له الأثر الأكبر في سيكولوجيا الجماهير لدى المجتمع "الإسرائيلي"، بمعنى أن مثل هذه الرسائل التي تبثها المقاومة سيكون لها الأثر في مجريات معركة "طوفان الأقصى" كما تحدثنا سابقاً، والرسالة الأهم هنا هي أن الحكومة "الإسرائيلية" تقصف قطاع غزة حيث يوجد أسرى للاحتلال لدى المقاومة، وهذا ما سيجعل الجمهور "الإسرائيلي" يتحرك ويضغط لوقف الحرب وتنفيذ صفقة تبادل.
وفي هذا السياق يقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير": " إن الجماهير[3] لا يمكن تحريكها والتأثير عليها إلاّ بواسطة العواطف"، وانطلاقاً من كلمات لوبون يمكن القول إن المجتمع "الإسرائيلي" هو مجتمع عاطفي في هذا السياق، على عكس المجتمع الفلسطيني الذي يؤمن بأن الاعتقال هو جزء من الثمن المقدم في سبيل الحرية، بالإضافة إلى أن الأخير يعطي قيم مثل الكرامة والعز وغيرها لحالة الاعتقال، بمعنى أن النضال ضد الاحتلال والاعتقال هو شرف يتباهى به الفلسطيني.
يقول ماوتسي تونغ في كتابه "حرب العصابات":[4] "تم تسليح قوات الميليشيا برماح صغيرة وبنادق، ولذلك كان أفضل سلاح بين أيدينا الدعاية التي كانت تولدها العناية بالأسرى والجرحى بعد أن نطلق سراح هؤلاء." وبناء على كلمات ماو يمكن القول إن المقاومة كانت بارعة في معاملة الأسرى لديها، ونجحت في التأثير في السيكولوجيا الجماهيرية لدى الاحتلال، وأكثر في سيكولوجيا الجماهير في العالم، وبذلك نجحت في دحض أكذوبة الاحتلال الذي يحاول وصف المقاومة الفلسطينية بداعش.
في ظل الحرب أحياناً يكون هناك مسألة لا تتعلق بما هو قانوني أو غير قانوني، وإنما بما هو صائب وما هو خاطئ، واستناداً إلى ما سبق يتعامل الاحتلال عبر سلوكه الوحشي ضمن ما يعتقد أنه صائب، وضمن ما هو خطأ، لا ضمن أي قاعدة إنسانية، إذ إن وجوده، أساساً، على أرض فلسطين غير إنساني، وبالتالي ما تم بناؤه على بؤس الإنسان سيبقى غير إنساني. أمّا على صعيد المقاومة، فقد أثبتت فعلاً أن سلوكها المقاوم منذ البداية يقوم على القانون الإنساني قبل كل شيء، سواء في حقها في أن تمارس المقاومة كفعل، أو حتى في معاملة الأسرى، إذ إن لديها إرثاً أخلاقياً وإنسانياً ودينياً مكنها من ممارسة هذا السلوك، وهنا أتذكر أسيراً فلسطينياً عايشته في سجن عسقلان اسمه بكر؛ فقد أطلقت عليه محكمة الاحتلال اسم "الإرهابي بضمير" لأنه تجنب قتل طفلة في أثناء تنفيذ عمليته، وعندما سألته عن هذا السلوك قال لي: "نحن نقاوم من أجل عدالة الإنسان وعلينا أن نمارس الإنسانية على أنفسنا قبل تحقيقها." وعليه، وأمام هذا المشهد، سوف يكشف طوفان الأسرى الصورة الحقيقية للاحتلال في العالم، وأكثر سوف يجرف هذا الطوفان كذبة "إسرائيل" بأنها تمتلك جيشاً أخلاقياً وإنسانياً.
[1] "مؤسسات الأسرى: الاحتلال اعتقل 1680 مواطناً من الضفة منذ السابع من الشهر الجاري"، وكالة "وفا"، 30/10/2023.
[2] "معطيات وشهادات مروعة وغير مسبوقة حول مستوى الجرائم الممنهجة التي ينفذها الاحتلال بحقّ الأسرى والمعتقلين في سجونه"، مؤسسة الضمير، 28/10/2023.
[3] غوستاف لوبون، "سيكولوجية الجماهير" (بيروت: دار الساقي، 1991).
[4] ماوتسي تونغ، "حرب العصابات" (سورية: دار سورية-جركس وتنبكجي).