(29/10)
إن دخول الليل في أثناء الحرب هو الخوف متجسداً بكامل صورته؛ بيديه الثقيلتين يغلق الأبواب على الناس، فلا يمكنك استحداث صور عن ليل الحرب ولا الاستعانة بالخيال. بعد حرب طويلة مع الماء والخبز خلال النهار، جاءنا أمر إخلاء البيت الذي نحن فيه لأمر خطر قد يحدث. لا يمكن رصد موقع الخطر أو حتى مكانه، مربع سكني كامل أُثير فيه خبر الإخلاء، وبدأ الناس يحملون أغراضهم ويخلون أماكنهم، بينما نحن نراقب من النافذة. لكنك في الحرب لست وحدك صاحب القرار، أنت والجماعة ضحية قرار الأغلبية، فعليك الامتثال وإلاّ ستفقد حياتك وحدك، ومَن ستغامر بإقناعهم بالبقاء معك. وهي قناعة غزية تنبت سريعاً: "الموت مع الجماعة رحمة"، بالإضافة إلى كونك الضيف النازح إلى بيت أخذ أصحابه القرار بالإخلاء، فأنت تمتلك صفة الضيف في هذا البيت، والآن عليك أن تنزح مجدداً، وكنا قد قطعنا حوالي 36 كيلومتراً لنتمكن من "البقاء" في هذا البيت.
أكتب هذه الكلمات، والساعة اقتربت من الثامنة ليلاً، وعلينا أن نخرج إلى الشارع برفقة 33 فرداً. في الشارع يحضر سؤال جماعي: "إلى أين نذهب؟" أو بالعامية الباكية: "وين نروح يعني؟". لا نملك رفاهية التفكير في الإجابة؛ أنت في الشارع وعليك أن تفرغ توترك وغضبك من خلال المساعدة؛ سيدتان على كرسي متحرك أنشغل بهما، والأحفاد والأولاد جميعهم يفرغون توترهم بالصراخ، أتعامل مع توتري من خلال مساعدة السيدتين، كي نصل إلى مكان نبقى فيه، وبعدها نعرف ما إذا سيكون الخير والنجاة.
الثامنة وعشر دقائق، باب مركز الأونروا مفتوح في خان يونس، وهو عبارة عن مركز تموين للمواد الغذائية، أي مقر عمل بأثاث مكتبي، وغرف مكتبية، وحمامات خرجت عن الخدمة، لا ماء ولا نظافة. الثامنة والنصف مفاوضات ووساطة عظيمة نجحت في توفير مكان تأوي إليه النساء، والسؤال لا يزال يُطرح كطفل فقد يد أمه في الزحام: "وين نروح؟"، والإجابة: "إلى المخزن". نعم المخزن، لا رفاهية متوفرة لتحدد مكان مأمنك ونومك. مخزن بأرضية أسمنتية وباب كبير وجدران عالية جداً، حتى المواد الغذائية تفقد صلاحيتها فيه. 50 امرأة و20 طفلاً افترشوا الأرض، وبدأ التوتر يقفز في رأسي إلى أن قطعه أمر من موظف أمن في المكان: "رجاء حافظوا على الأثاث"، أي أثاث؛ مكاتب بزيت سمك السردين والتونة وملفات ورقية فيها عدد من أكياس التموين؛ "يا سيدي، تركنا بيوتاً بأثاث وذكريات ولن نرغب في تخريب مكان تخزين أكياس الطحين." أعرف توتري كيف يقضي؟ حجة مقنعة بصوت عال، امتثل الجميع لي، وفجأة تحولت إلى قيادة المكان وضبط الأشخاص وتوزيع مساحات النوم. أي غريبة وقحة سقطت على حي تلقي أوامر؟ لكن الإجابة: كلنا نازحون من غزة إلى خان يونس! سقطت الإجابة وبدأ الإحساس بالأنس، وغاب عنهم إحساس الغربة عن صاحب بيت يتحكم بهم، وغاب عني إحساس وقاحتي الزائدة بضبط أمر أصحاب المكان. والساعات بدأت تمضي وأنا أتفقد، والجميع يحاول التعاون لضبط مسار الليلة التي جاءت فجأة بنا إلى مخزن مركز الأونروا. رددنا مقطعاً من أغنية "يما مويل الهوا" وتحديداً: "ومشيت تحت الشتا، والشتا رواني، والليل لما أتي أشعل من نيراني، بيظل عمر الفتي نذر للحرية." هذا الونس نعرفه في غزة، اسمه "غني يمكن تهون"!
حين استقر الجميع في موقعه، استقريت على طاولة مكتب خشبية شبيهة بالنعش بغطاء أبيض، غطيت جسدي ووسادتي حقيبة الإخلاء. وإضاءة المكان تعتمد على بطارية هواتف النازحين فيه، إذ لا كهرباء. وكي يكتمل شعور القبر والنعش، اضطررنا جميعاً إلى أن نمتثل لقرار أم كان طفلها لا يهدأ إلاّ بصوت القرآن. وكي تمنحنا إحساس الموت، اختار هاتفها أن يقرأ "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية". عرفت كيف يكون للقدر "مزحات" فتعيش شعور الموت الطبيعي على نعش خشبي بمركز إيواء، أقول لنفسي: "هيا يا نفسي نامي كجثة". وفي الصباح نكتشف أمر البقاء والنجاة، فما دمتَ تبصر ضوء القمر بدراً في السماء، ولسعة البرد على جسدك، فهذا يعني أن هناك متسعاً من الوقت للنجاة والمشي "تحت الشتا"!
صباح 30/10 لم يكن هناك شتاء، لكن أمراً بالإفراج عن الجثة صدر، وقرار العودة إلى البيت المضيف صار جاهزاً بعد حرب الإشاعة أمس. كان طريق العودة خالياً بسبب الشتاء، وكان القمر بدراً في الخامسة والنصف. الطائرة والحرب مخيفتان لدرجة أنك لا بد من أن تكون حذراً عزيزي الضيف النازح، فلا تلتقط صورة للبدر من هاتفك كعادتك، فقد تظن الطائرة أنك توثق جريمتها فتقصفك أنت ومن معك، فتصير أنت الجريمة التالية، أنت ومن معك.
محاولات البقاء
التاريخ:
07/11/2023
ملف خاص: