تحدثتُ إلى عائلتي، نعم لقد توصلتُ إلى طريقة لأتحدث إليهم. ربما يبدو لكثيرين أن هذا الخبر عادي، لكنه بالنسبة إلي يشبه المعجزة، وقد تحققت. منذ 11/10، لم أستطع التواصل مع أهلي بسبب صعوبة الاتصال بقطاع غزة، فلم أسمع صوت أحد منهم، وكنتُ أطمئن عليهم، بطريقة ما؛ إذ كان والدي يتصل بشبكة الإنترنت لدقائق معدودة، وغالباً ما تكون في الصباح الباكر، ليبعث برسالة إلينا يخبرنا فيها بأنهم في قيد الحياة، وعاشوا ليروا يوماً آخر، ونبقى بقية اليوم ننتظره ليتصل مجدداً ليُعلمنا بأنهم ما زالوا أحياء. وكما ذكرتُ سابقاً، لم يكن في استطاعتي من قبل أن أتصل بهم دولياً لأسباب تقنية لا أعرفها تماماً. لكن بعد عناء، وبحمد الله، استطعتُ الاتصال بهم، والاستماع إلى صوت أنفاسهم.
سأكتفي في هذه الرسالة بشرح تفاصيل المكالمة التي لم تتجاوز العشر دقائق، والتي أعادت الحياة إلى من بدا أنه فقدها.
كنت أتحدث مع أخت زوجي عن صعوبة الاتصال بعائلتي والاطمئنان عليها، فشرحتُ لها أنني كلما حاولتُ الاتصال بهم دولياً، أتتني رسالة صوتية فحواها: "لا يمكنك إتمام هذه المكالمة."، فقالت: "لمَ لا تحاولين من هاتفي؟"، وهي رقم هاتفها لبناني أيضاً لكن من شركة مختلفة عن تلك التي أتعامل معها، فجربتُ، وفعلاً بدأتُ أطلب رقم والدتي من هاتفها وأصابعي ترتجف كأنها أوراق شجرة هشة يتلاعب بها هواء الشتاء القوي، وما إن انتهيتُ من طلب الرقم، حتى جاء ذاك الصوت الذي أنتظره منذ أسابيع: "تن تن تن"، هذه "الرنة" تعني أن الاتصال نجح.
لنتوقف هنا لحظة؛ كاد قلبي يتوقف لمجرد سماع صوت "الرنة"، حرفياً، هذا ولم أكن قد سمعت صوت أمي بعد، وإنما فقط صوت "تن تن تن"، وهذا يعني أنني في غضون ثوانٍ سأسمع صوتها؛ هذه المرأة التي تقع الجنة تحت قدميها، وصوتها فيه كل الحنان والأمان. وما إن توقفت "الرنة" وأجابت أمي قائلة: "ألو"، حتى بدأت دموعي تتجاوب مع صوتها: نعم إنها أمي! عزيزتي! نبض قلبي! وبمجرد أن قلتُ: "ألو ماما!" وصوتي يرتجف من الفرح، سمعتُ صوتها تبكي، لكن سرعان ما ربطنا على قلبينا، وبدأتُ بالاطمئنان عليهم: "هل أنتم بخير؟ هل لديكم ما يكفي من الماء؟ ماذا عن الطعام؟ كيف حال أولاد أخي؟ هل هم بخير؟ ماذا عن أولاد عماتي وأعمامي؟ جميع العائلة؟"، فقالت: "نحن بخير جميعاً، لا تقلقي بشأننا. أنتِ كيف حالك؟ هل أنتِ بخير؟ هل من جديد لديكِ؟"، بدأتْ كعادتها بالاطمئنان عليّ وعلى حياتي وزوجي، وتسألني عن أكلي ونومي. هذه هي أمي، تنسى أنها هي التي تعيش وتعاني جرّاء أهوال الحرب، وتضع حياتها وهمومها في كفة، وتقلق عليّ، أنا التي أعيش بعيدة عنها خارج غزة، وفي أمان نسبي، لا أعاني جرّاء حرب تأخذ كل عزيز وغالٍ. طمأنتُها بأننا بخير، فجاء أخي الصغير وأخذ الهاتف بلهفة، وبدأ الحديث بالسؤال عن حالي، ولم يكترث قط إلى كونه يسمع أصوات القصف والقذائف، وتحدثنا لبضع ثوانٍ. ثم جاء دور البطل الخارق، وهو أول بطل في حياتي، الرجل الذي أستمد قوتي من قوته وعزيمتي من عزيمته، فقال: "يا بابا حبيبتي إنتِ، إحنا كلنا مناح وبخير، مشتاقين نشوفكم ونحكي معكم كتير، بس تقلقيش علينا إحنا معنوياتنا عالية، محدش بيقدر علينا إذا انتو كنتو مناح، فديري بالك على حالك"، هذه الكلمات التي أعتقد أنها كانت بمثابة التنفس الاصطناعي الذي يقوم به الطبيب كإسعافات أولية حين يعالج مريضاً يكاد يختنق. لقد أعادتني أنفاس والدي إلى الحياة مرة أُخرى؛ هذا النفس الذي يعيش به أهل غزة: "نحن بخير ولن يهزنا شيء"، لم أره في والدي فحسب، بل أيضاً في أخي الأكبر الذي حدثني كذلك لبضع ثوانٍ، وأعطاني من العزيمة والقوة ما لا يمكن استمداده من أحد ما لم يكن فلسطينياً من غزة.
أعتذر للجميع، لكن الغزّي الذي تُرك وحده في حرب الإبادة هذه هو من يملك هذه العزيمة والقوة، فقط هو. ثم يأتي صوت زوجة أخي التي هي بمثابة الأخت الكبرى لي، لتطمئنني بأنهم جميعاً والأطفال بخير، ولتسألني كذلك عن حالي. بعدها أتى دور أختي الصغيرة مريم، آخر العنقود، والمدللة والمحبوبة من الجميع، والتي لم تكن قد تجاوزت في حرب 2008 الثلاثة أشهر من عمرها. كنتُ أقلق عليها، فهي شخص هش، وقلبها رقيق للغاية لا يستطيع مواجهة كل هذا الخراب والدمار، لكنني عندما سمعتُ صوتها قوياً وبعافية، أحسستُ كأنما أُثلج قلبي. هذه أسرتي الصغيرة، اطمأنيتُ عليها في مكالمة لم تتجاوز العشر دقائق. ليس هذا فحسب، بل أيضاً استمديتُ قوة من أشخاص لا حول لهم ولا قوة، لكنهم بطريقة يعجز العقل عن فهمها ما زالوا يملكون تلك القدرة على الثبات والصبر، واحتساب ما يمرون به بأنه فداء لفلسطين.
أتعلمون أنني أصبحتُ أكتب كثيراً عمّا أمر به، وعمّا يخالجني من أفكار ومشاعر وآراء خلال هذه الحرب على غزتي، وفي الوقت نفسه، أحذف كثيراً مما أكتب عندما أشعر بأنني ضعيفة، ولا يجوز لي كفتاة من غزة أن أكون ضعيفة؛ فأنتِ وحدك يا غزة من يمدنا بالقوة، ولا يجوز لنا، نحن أبناؤك، أن ننكسر. لكن رؤيتهم يمسحون معالمك يا حبيبتي يكسر القلب ويعتصره، ومع ذلك، ما زلتُ على الوعد، وسأبقى قوية من أجلكِ، ولهذا اخترت هذه الرسالة التي تحمل معالم الفرح والاطمئنان على أسرتي التي ما زلتِ تحتضنينها بين ذراعيكِ.