من يدقق في الخطاب والسلوك الإسرائيلييَن بعد 7 أكتوبر وحتى اليوم سيجد أن لغة التدمير والمحو الإسرائيلية التي صورت للعالم أن تحقيق أمن الإسرائيليين يساوي تدمير غزة ووضع مصير 2.3 مليون نسمة تحت رحمة الصواريخ والقنابل، هي خطاب إسرائيلي يميز بين شعب وشعب وبين دم ودم. قال نتنياهو في المؤتمر الصحافي: "سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمع بعد خراباً في أرضك، سنمنح المجد لشعبك، سنقاتل معاً وسننتصر"، وأضاف: "الحرب هي بين الشر، والحرية والتقدم، نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام وسيهزم النور الظلام." وكان وزير "الدفاع الإسرائيلي" يؤآف غالانت قد شيطن الفلسطينيين حين قال: "إن إسرائيل تحارب 'حيوانات بشرية' في قطاع غزة، ووصف حركة 'حماس' بأنها داعش."
وأقامت إسرائيل القيامة ضد الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي لم يسعفه هجومه على "حماس" في خطابه أمام مجلس الأمن حين قال: "لا شيء يمكن أن يبرر قتل المدنيين وجرحهم واختطافهم عمداً، أو إطلاق الصواريخ على أهداف مدنية." لكنه أثار سخطاً إسرائيلياً حين ربط ما حدث باستباحة إسرائيل الشعب الفلسطيني وحقوقه بالقول: "من المهم أن ندرك أيضاً أن هجمات 'حماس' لم تحدث من فراغ، فالشعب الفلسطيني يتعرض منذ 56 عاماً لاحتلال خانق، ويرى أراضيه وهي تلتهمها المستوطنات بشكل مطّرد، ويعاني عنف المستوطنين، ويتعرض اقتصاده للخنق، ومنازل مواطنيه للهدم، ويتعرض الفلسطينيون للتهجير، وقد تلاشت آمالهم في التوصل إلى حل سياسي لمحنتهم." هذا الكلام المسنود بقرارات الأمم المتحدة أغضب إسرائيل على كل المستويات، فقد جاء في افتتاحية صحيفة جيروزالم بوست: "إن القتل والحرق والاغتصاب والتمثيل بالجثث وخطف الأطفال والنساء والشيوخ والرجال لا يحتاج إلى أسباب وعذر، إذا لم يفهم غوتيريش هذه الحقيقة فليس من حقه أن يرأس منظمة أهدافها تحقيق السلام والأمن وحقوق الإنسان، وكان على غوتيريش أن يقول هناك خير وهناك شر وأن ما ارتكبته 'حماس' هو محض شر لا بد من معاقبته، كما فعل الرئيس بايدن، واذا لم يتراجع عن أقواله فعليه التنحي."[1]
أمّا الصحافي وداعية حقوق الإنسان الإسرائيلي جدعون ليفي فكان له رأي آخر حين لخص المشهد الإسرائيلي بالقول: "انتشرت النزعة الفاشية على جميع المستويات وباتت هي الموقف السائد الوحيد. عندما يتعلق الأمر بغزة، لا يوجد أي اختلاف، ويطلق المراسلون والمذيعون على 'حماس' اسم النازيين في عرض مقزز لتقليل أهمية الهولوكوست والإنكار، والجماهير تصفق"، وأضاف: "إن إسرائيل تمر بفترة عصيبة تتميز معالمها بفقدان الضمير والحكمة."[2]
وتظهر الفاشية في أقبح صورها عندما يتم دمج كل المواطنين الفلسطينيين بالمنظمات "الإرهابيىة" وتحييد القانون الدولي. "لا بديل عن إبادة غزة" هو عنوان مقال في صحيفة إسرائيل اليوم. مقال يُشبّه ما سيحدث في غزة بما حدث في الموصل والرقة ضد داعش، وما حدث في مدينة درزدن الألمانية في أثناء الحرب العالمية الثانية. ويضيف المقال أن أكثر من 80% من الموصل والرقة دُمر وأصبحتا غير صالحتين للسكن كما كانت حال درزدن. ويدعو الكاتب إسرائيل أن تتصرف على هذا النحو. ويضيف: "حان الوقت لنودع الأسطورة التي تقول أن السكان في غزة هم ضحية 'حماس' التي تفرض نفسها عليهم، إن حجم التأييد الشعبي لحركة 'حماس' المعبّر عنه في الانتخابات وفي استطلاعات الرأي، يجعلها تمثل بشكل عميق الفكرة الفلسطينية التي ترفض وجود دولة يهودية ذات سيادة بين النهر والبحر." ويصل إلى نتيجة تقول: "من المهم أن نوضح أنه في الخيار بين الحرص على أحكام القانون الدولي وبين تقليص المخاطر على قواتنا لا توجد معضلة. والحاجات الإنسانية لغزة لن تعني دولة إسرائيل."[3]
ويقدم الكاتب أرئيل كهانا عرضاً أكثر فاشية بإعادة غزة إلى العصر الحجري حين يقول: "يجب تحطيم عظام العدو، ضربه من دون رحمة وسحقه بوحشية. من دون محكمة العدل العليا ومن دون 'بتسيلم'، ومن دون احتواء، أو قيد، أو توازن أو رأفة. وإذا كان التخوف هو من لاهاي، فثمة ما يكفي من المتطوعين للمهمة ليبقوا في البلد حتى نهاية أيامهم. أمّا وقد نشبت الحرب فيجب استغلالها كي نحطّم نهائياً الميزان الذي لا يُطاق، حان الوقت لقلب الطاولة. ماذا يعني هذا عملياً؟ يعني أن نعيد غزة إلى العصر الحجري. أن نجري اختطافات مضادة لكبار رجالات 'حماس'، وأبناء عائلاتهم. أن ندمر بيوتهم الفاخرة، أبراجهم العالية، المطاعم، والمتنزهات في غزة.[4]
لكن أكثر التقديرات تفاؤلاً لإيفا إيلور عالمة الاجتماع الإسرائيلية الفرنسية تقدم صورة سوداوية للعلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية في صحيفة لوموند بالقول: "هجمات 7 أكتوبر ستغيّر نظرة الإسرائيليين إلى الفلسطينيين بشكل لا يمكن إصلاحه، ستظل هذه أكبر صدمة في التاريخ اليهودي بعد المحرقة إذ تم التشكيك في الواقع الوجودي لإسرائيل بعدما حدث تحوّل، الضعيف يصبح قوياً والقوي يصبح ضعيفاً والجيش الذي نتوقعه لا يأتي."[5]
ثم يأتي دور التبرير الديني للكارثة التي بدأت تحل ب 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة على لسان الكاتب الإسرائيلي كينيث براندر في صحيفة الجيروزالم بوست: "في بعض الأحيان، في حرب عادلة، تقع خسائر جانبية في صفوف المدنيين، وهي نتيجة شريرة مسموح بها في الحرب. واحدة من التكاليف المأساوية للحرب. ومع ذلك، أكد الله لإبراهيم أنه وجنوده لم يستهدفوا أهدافاً مدنية عمداً، انضم جنودنا، أصحاب الأذرع القوية والقلوب المحبة، إلى إبراهيم في القلق العميق بشأن الأضرار الجانبية التي لا يمكن تجنبها والتي تأتي مع الحرب."[6]
هذه الرؤية الإسرائيلية لحسم الصراع بأكثر السبل وحشية ودموية تجد من يسندها ويؤمن لها الغطاء. فقد كشف جوش بول مدير الشؤون العامة في وزارة الخارجية الأميركية شركاء إسرائيل، وهو يتحدث عن "الدعم الأعمى الذي تقدمه إدارة بايدن لإسرائيل، وعن إعطاء إسرائيل تفويضاً مطلقاً لقتل جيل من الأعداء وفرض الأمن بأي ثمن."[7]
وتكشف الوزيرة الإسبانية إيون بيلارا التواطؤ الأوروبي بالقول: "دولة إسرائيل تنفذ إبادة جماعية مخططة في غزة، مئات الآلاف من دون طعام وماء وكهرباء، وهذا يمثل عقاباً جماعياً يرقى إلى جرائم حرب وفق القانون الدولي، في ظل تواطؤ الاتحاد الأوروبي مع جرائم حرب." وطالبت الوزيرة بتقديم نتنياهو إلى محكمة الجنايات الدولية.[8] وكانت دول أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا قد دعت إسرائيل إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني بما في ذلك حماية المدنيين وهم يعرفون أن العكس يحدث في قطاع غزة إذ ناهز عدد الضحايا في اليوم 23 من الحرب ثمانية آلاف ضحية، 40% منهم أطفال، ووصل عدد الجرحى إلى 21.893 جريحاً، وبلغ عدد المهجرين المشردين من شمالي القطاع إلى جنوبه مليون و400 ألف مواطن. وأصبح مصير 2.3 مليون فلسطيني تحت رحمة القصف الوحشي للطائرات والمدافع والزوارق البحرية. وقد رفضت دولة الاحتلال وإدارة بايدن ودول غربية أُخرى الانصياع لإرادة 120 دولة طالبت بوقف الحرب واحترام القانون الدولي.
يقول دومنيك دو فيلبان رئيس حكومة فرنسا السابق: "نجد أنفسنا محاصرين مع إسرائيل في الكتلة الغربية التي يواجهها اليوم معظم المجتمع الدولي. وقد وقعنا في فخ أخلاقي باعتماد معايير مزدوجة بين ما يحدث في أوكرانيا وما يحدث في الشرق الأوسط، موقف يتم التنديد به في كل أنحاء العالم، نحن نعاقب روسيا عندما تعتدي على أوكرانيا ولا تحترم قرارات الأمم المتحدة في مقابل 75 عاماً من عدم معاقبة إسرائيل."[9]
إن استكمال الكارثة في قطاع غزة، التي كان فصلها الأقبح تعطيل المستشفيات بعد افتقاد معظمها إلى أبسط مقومات العمل، وتعطيل فرق الإنقاذ والدفاع المدني وترك الضحايا تحت الأنقاض، وتعطيل مؤسسة الأونروا، وتعطيل الاتصالات، يجعل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان، ولا سيما الحق في الحياة على المحك، ويضع القانون الدولي، ولا سيما حماية المدنيين والأبرياء في أثناء الحرب على المحك، ويضع قيم الحريات والأخلاق والعدالة التي تباهى بها الغرب على المحك. حرب محو قطاع غزة، تضع كل شيء على المحك. وفي هذا الصدد يقدم النظام الدولي وعنوانه مجلس الإمن، إفلاسه السياسي والأخلاقي بجدارة ووقاحة. ولم يبقَ غير الشعوب والمنظمات الحقوقية والنخب الثقافية والفنية والأكاديمية والإعلامية وكل القوى المناهضة للحرب وغطرسة القوة والهيمنة والنهب والسلام الكاذب، هؤلاء الذين بدأ صوتهم يعلو على صوت النظام المساند للعدوان.
[1] "غوتيرش برر ما لا يمكن تبريره"، افتتاحية "جيروزالم بوست"، 26/ 10/2023.
[2] جدعون ليفي، "الفاشية سادت إسرائيل"، "هآرتس"، 27/10/2023.
[3] مئير بن شبيط، "لا بديل عن إبادة غزة"، "إسرائيل اليوم"، 21//10/2023.
[4] أرئيل كهانا، "علينا أن نعيد غزة إلى العصر الحجري"، "إسرائيل اليوم"، 9/10/2023.
[5] لوموند، 17/10/2023 .
[6] كينيث براندر، "جنود جيش الدفاع يسيرون على خطى إبراهيم في الحرب الأخلاقية"، "جيرروزالم بوست"، 27/10/2023.
[7] صحيفة "الشرق الأوسط"، "مسؤول أمريكي يستقيل احتجاجا على الدعم الأعمى لإسرائيل"، 19/10/2023.
[8] إيون بيلارا وزيرة إسبانية طالبت بتقديم نتنياهو إلى محكمة الجنايات الدولية، "وكالة معا"، 15/10/2023.
[9] مقابلة مع دومنيك دو فيلبان رئيس حكومة فرنسا السابق.