عائلتي
السبت (7/10/2023)، الساعة تقريباً 6:25 صباحاً، رن الهاتف، فإذا بالوالدة تبكي وتسألني ما الذي يحدث. وفي أثناء الحديث معها سمعتُ صوت إطلاق قذائف صاروخية من غزة، فقلتُ لها إمّا مناورة للمقاومة، وإمّا أن الاحتلال اغتال شخصية كبيرة في المقاومة. حاولتُ تهدئتها بالقول إن الأمر غير مقلق، وأنني سأتبين ما الذي يحدث وأتصل بها.
جلست في الصالة وسط المنزل، جاءت زوجتي تسألني ما الذي يحدث، لم أستطع الإجابة، فلم أكن أمتلك الجواب، لكنني أيقنت أنها الحرب. وها نحن نعيشها منذ أكثر من 17 يوماً (كتبت الشهادة بتاريخ 23/10) متواصلة، نصحو وننام فيها على وقع القصف والموت والدمار.
قد تكون مصادفة أنني عندما شرعتُ في كتابة السطر الأول من هذه الشهادة، أو للدقة المعايشة، سمعتُ صوت شيء ككتلة ثقيلة تهوي من السماء، لها صوت ضجيج أعرفه جيداً، فقفزت لا شعورياً مرة واحدة من غرفة المكتب إلى منتصف الصالة، ووقفت أتلفت لا أعلم ماذا أفعل. الساعة العاشرة والنصف ليلاً والكهرباء مقطوعة، البيت مضاء بـ "ليدات" بطارية، أولادي ينامون باكراً، فالقصف المجنون يبدأ ويبلغ ذروته مع الفجر، ويجب أن يكون الجميع مستيقظاً وحاضراً ومرتدياً ملابسه استعداداً للخروج فوراً في حال كان القصف قريباً. كل الحروف واللغات والعصف الذهني لا تصف ما شعرت به من خوف وقهر، ولا أخجل إن قلت أنني كنت أرتجف، وضربات قلبي تسابق الزمن المطلوب كي أتفادى احتمال أن يكون بيتي هو المستهدف. هوت القنبلة في مكان مجاور فاستجمعت ما تبقى مني وقلت: تجاوزنا الموت هذه المرة.
في البيت نتبع تكتيك توزيع العائلة؛ لدي ستة أطفال، ثلاثة أولاد وثلاث بنات، أكبرهم محمد يبلغ من العمر 15 عاماً وأصغرهم يحيى 5 أعوام، وقد بات خبيراً في تفسير أنواع القصف وتحليلها، إن كان من طائرة استطلاع أو طيران حربي؛ ينام كل اثنين من الأولاد في غرفة، ووالدتهم في غرفة وأنا في غرفة المكتب، فمعظم العائلات الفلسطينية في غزة تعتمد هذا التكتيك حتى إذا ما تعرضوا للقصف تكون هناك نسبة نجاة لبعض أفراد الأسرة، في حين أن ما يحدث هو أن نوعية القنابل التي تُلقى لا تترك أثراً للبيت أو العائلة، حتى باتت الأشلاء تصل إلى المستشفى ليكتب عليها مجهولة. بعض العائلات الغزية باتت تلجأ إلى تكتيك آخر، وهو تجميع كل أفراد العائلة في مكان واحد حتى إذا نجوا ينجون معاً، وإذا قضوا نحبهم شهداء يستشهدون معاً أيضاً.
إذا فلتنا من القصف الليلي، تبدأ في الصباح تكتيكات جديدة، أولها أن يأخذ ابني محمد دوره في طابور المخبز لشراء الخبز، وهذا يعني الوقوف من ساعتين إلى ثلاث ساعات، فلا يبيع المخبز إلاّ كفاية العائلة ليوم واحد. أمّا ابنتي الوسطى فمهمتها التربص بعربات بيع الماء، فتقف في الشارع تنتظر مرور أي عربة "كارو" لتملأ "جركن" ماء للشرب من عشرين ليتراً؛ نحاول أن نتجاوز وأن نتعايش. طفلاي الصغيران، يوسف 6 سنوات ويحيى 5 سنوات، أصبح التبول اللاإرادي ملازماً لهما، يوسف يحدّث نفسه في الليل، وينادي علينا، وأحياناً يقف في الصالة يصرخ ويرتجف عند وقوع قصف في الحي، فأقوم باحتضانه وأحاول تهدئته، ولا أقدر على فعل شيء في الحقيقة، أسقيه بعض الماء لعله يهدأ.
تركت بيتي
عندما بدأ استهداف زملائي الصحافيين ومنازلهم وعائلاتهم بالقصف، وارتقى بعضهم شهداء، قررت ترك المنزل. ظلت عائلتي في البيت، لعلها تنجو من أي استهداف محتمل ووارد. فذهبت إلى مستشفى ناصر في مدينة خان يونس، إلى خيمة أعدتها قناة "فلسطين اليوم"، كانت مزدحمة بعدد الصحافيين، حتى إن زميلي المخرج محمد أبو قوطة، والمصور محمد السميري، والمراسل الصحافي علاء سلامة، كانوا ينامون جميعهم في سيارة البث؛ لقد تعايشوا مع الوضع، وتأقلموا مع الأكل والشرب والنوم داخل سيارة متوسطة الحجم. في الخيمة نوزع أوقات النوم، بعضنا ينام على "الحصيرة"، يفترش الأرض ويتغطى بالسماء، مع ساعات الفجر وبرودة الطقس، وبعض الزملاء ينامون مرتدين سترة الصحافي أو ما يعرف بـ "الدرع"، والبعض ينام جالساً على الكرسي، والبعض الآخر يسند ظهره إلى الحائط وينام بحذائه، ذلك بأن عليهم أن يبقوا على استعداد للهرولة نحو صالة الاستقبال والطوارئ مع وصول أي إصابات أو شهداء عقب أي قصف من أجل التصوير والتوثيق، وتسجيل أسماء الشهداء ومكان القصف وعدد الإصابات وتقديم الرسائل المباشرة على الشاشة، وكل ذلك في دقائق معدودة، وبثبات انفعالي غير مسبوق لأن المنطقة المستهدفة قد تكون منطقة سكن عائلة الزميل هذا أو ذاك.
جاء خبر اغتيال الزميل الصحافي في قناة "فلسطين اليوم" محمد عبد الجليل وعائلته، والده ووالدته وشقيقته، وكان قبلها بيوم قد زارنا قادماً من مستشفى الشفاء حيث يقيم بعض الزملاء هناك أيضاً، سلّم علينا سريعاً وسألنا إن كان ينقصنا شيء، ووعدنا أنه سيزورنا "يوماً بعد يوم". هذه الجريمة رفعت منسوب القلق لدينا، فتوقف الزملاء الذين كانوا يزورون عائلاتهم بين الحين والآخر للاطمئنان عليهم عن زيارتهم، وازداد الضغط النفسي على الجميع؛ الاتصالات معطلة، ولا أحد في وسعه التواصل مع عائلته، أو التحرك من المكان، حدث ما يشبه الانعزال الطوعي بين الصحافيين وعائلاتهم.
صالح المصري
في اليوم التالي أيقظني الزميل المراسل الصحافي قاسم الآغا عند الساعة 6:15 صباحاً، وأخبرني أن ألحق برئيس ومدير تحرير وكالة "فلسطين اليوم" للأنباء الأستاذ صالح المصري، الذي توجه إلى المشرحة بعد تأكيد خبر استهداف عائلة شقيقه الأكبر. كان صالح نائماً، استيقظ لأداء صلاة الفجر، وقلّب في هاتفه لمطالعة آخر الأخبار، فقرأ خبر قصف عائلة المصري، أجرى بعض الاتصالات حسب توفر الإشارة، فثبت الخبر: استهداف منزل شقيقه. لحقتُ به إلى المشرحة برفقة مجموعة من الزملاء، حاولنا الدخول، فأخبرونا بأن هناك بعض الجثث مقطعة، ولا يمكن التعرف عليها، ضغطنا على المسؤول كي يسمح لصالح فقط بالدخول، وبعد دخوله استدعينا كل الأدعية، أن يكون القصف قد أخطأ عائلة شقيقه، وعندما خرج كانت الصدمة، تعرّف على جثمان زوجة أخيه. رأيته يبكي؛ صالح صحافي جاد في حديثه وفي مظهره، لكنه بكى وانتحب، ورأيت دموعه، ورأيت صالح غير الذي عرفته وعهدته، حاولنا واجتهدنا في تهدئته، واستجمعنا ما تبقى فينا من قوة للتخفيف عنه.
عاد الأمل الذي بتنا نختلسه خلسة، علّ شقيقه قد نجا من القصف، فعدنا إلى صالة الطوارئ حيث الجرحى الذين أحضرتهم سيارات الإسعاف في الساعات الأخيرة، وكأن الفواجع لا تأتي إلاّ مع بعضها، فتبين أن شقيقه وأولاده وابنته القادمة منذ أيام من مصر ومعها طفلها قد ارتقوا جميعاً ولم ينجُ أحد. كانت مجزرة ارتقى فيها 31 شهيداً.
عبد الله العقاد
يوم آخر وليلة دامية تضاف إلى الذاكرة، وكل الذكريات هنا في المستشفى تسجلها الذاكرة فجراً. قصف في وسط مدينة خان يونس، والأخبار الأولية تتحدث عن استهداف منزل الكاتب الصحافي عبد الله العقاد وعائلته. كالعادة تسابقنا إلى صالة الطوارئ، وحضرت سيارة الإسعاف فإذا بعبد الله وعائلته قد ارتقوا جميعاً. بعد لحظات حضرت والدته، فلم تستطع السير إلى المشرحة، وانهارت في منتصف الطريق، فأحضرنا لها كرسياً لتجلس عليه، فنعته وبكت حتى بكى كل من كان موجوداً.
نساء شهيدات
تجاوزنا اللحظة كذباً؛ ادعينا ذلك، وقد كانت ليلة دموية، مئات الجثث المقطعة والمحروقة وصلت إلى المستشفى، بينهم أطفال ونساء. وأتوقف هنا عند موقف عالق في ذاكرتي، عندما كانت سيارات الإسعاف تحضر نساءً من تحت الركام، كان المسعفون والأطباء يحرصون على تغطيتهن قبل إنزالهن من الإسعاف، "هاتوا شرشف غطوها استروها"، كانت الكلمة تدوي، حتى اللاتي وصلن مقطعات وشهيدات وشاهدات، كان يجب سترهن، فالموت باغتهن وهن نائمات آمنات في بيوتهن.
حسرات وعبرات
عدت إلى الخيمة، انزويت وبكيت قهراً، وقلت في نفسي لن أذهب مرة أُخرى إلى صالة الطوارئ، لن أشاهد أي أحد بعد الآن، بدأت أشعر بصداع؛ عقلي بدأ يتهاوى مستحضراً سيناريو أن تكون عائلتي هي التالية. لم أعد أحتمل منظر الأطفال متفحمين. كل قواميس اللغة ومفرداتها لا تكفي ولا تسعف وصف المشاهد، إنه الموت يحوم في المكان.
في ساحة المستشفى عائلات افترشت الأرض، توزعت هنا وهناك، بعضها احتمى بشجرة وبعضها الآخر اختار وسط الساحة وبعضها جلس في الممرات الداخلية؛ أطفال ونساء ورجال ومرضى ومسنون، لا تكاد تجد متراً واحداً خالياً.
المحرقة التي التهمت الشهداء أفضت إلى حالة غريبة من التعاطف والتكاتف واقتسام المتاح. جاء شاب يحمل كرتونة فيها رطب يقوم بتوزيعها على الناس، فسألته لماذا؟ فقال لي: رحمة على روح أخي الشهيد كان يحب الرطب، فأقسمت أن أوزع الرطب على كل الذين في المستشفى قبل دفنه. عند الظهيرة جاءت سيدة جاوزت الستين من عمرها، وكانت تطوف على الناس، وتوزع وجبات طعام، فتقصيت خبرها، فعرفت أن ابنها الوحيد قد قضى شهيداً، وعلى الرغم من ذلك لم تنزوِ وقامت بواجبها قدر الممكن والمستطاع.
مصعب البريم
تعددت المشاهد والشواهد حتى يكاد المرء ينساها أو يقرر أن يتناساها، فالجديد منها يحل محل القديم. أستذكر هنا ما حدث مع الناطق الإعلامي باسم حركة الجهاد الإسلامي مصعب البريم، وهو أسير محرر أمضى أكثر من عشر سنوات في سجن الاحتلال. في الأيام الأولى للحرب استشهدت زوجته وأصيب أولاده الأربعة، كان تقديره أن منزله قد يُستهدف، فأرسل عائلته إلى ذويها، وهناك قُصف المنزل، وأول من استشهد كانت زوجته، وبجوارها أولادها الأربعة الذين نجوا بأعجوبة، لكنهم أصيبوا. في اليوم التالي تكرر القصف فاستشهد والد زوجته. رأيته على شاشة الميادين متماسكاً متحدثاً يشخّص الأوضاع ويقرأ حيثياتها وتبعاتها، لم أصدق ما أراه. وعندما التقيته رأيت في ملامحه الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره. كان ينتقل من قناة إلى قناة، فلم يستسلم للحزن، كما أني رأيته يطوف على النازحين، يسألهم عن حوائجهم، وفي أثناء إحدى جولاته جاؤوا إليه بابنه الأصغر وكان مصاباً في يده، قبّله واحتضنه، وسأله الصغير: "متى بدنا نروح عند ماما؟"، لم يجبه، عاد ليقبله مرة أُخرى، وراح يداعبه فاسترقت بكاميرا الهاتف هذا المشهد!
عرفات أبو زايد
فجر جديد وقبل انبلاج الصبح جاء خبر استهداف شقة سكنية في مدينة "حمد" جنوب غرب مدينة خان يونس، تابعنا التفاصيل، فعرفنا أن البرج المستهدف يقطن فيه زميلنا الكاتب الصحافي عرفات أبو زايد. كان نائماً في الخيمة، كيف نوقظه وماذا سنخبره، استجمعنا كل ثبات الأرض وأيقظناه، وقلنا له "في أخبار عن تجدد القصف في مدينة حمد"، فتح هاتفه وراجع الأخبار وفجأة قفز واقفاً، وقال: القصف في البرج الذي أسكن فيه، في الطابق نفسه، حاول الاتصال بزوجته، شبكة الاتصال لم تسعفه، حاول عدة مرات، فجأة وصلت سيارات الإسعاف فركضنا إلى صالة الطوارئ، فإذا بعدة إصابات، بينها عدد من الشهداء والشهيدات، لحقنا بالأطباء إلى غرفة الإنعاش، هناك نساء بين المصابين وأطفال، اشتبه عرفات بأحد الأطفال الشهداء، لم يستطيع التعرف عليه، فقال هذا ابني الأكبر مصعب، وكان الأطباء ينادون "يا إخوان حد يتعرف على الطفل الشهيد مجهول الهوية رقم واحد أو رقم اثنين". فأخبرناهم بناء على حديث عرفات أن الطفل مجهول الهوية رقم واحد اسمه مصعب عرفات أبو زايد، بعد دقائق نجح عرفات في الاتصال بزوجته التي أخبرته أن الشقة دُمرت بالكامل، فسألها: أنتم بخير الأولاد كلهم عندك؟ فأجابته بنعم لقد نجونا، فسجد في مدخل المستشفى شاكراً الله. وعدنا لنخبر الأطباء أن مجهول الهوية الشهيد الطفل رقم واحد ليس مصعب عرفات أبو زايد. نجا مصعب.
عائلة السويركي
في اليوم الرابع عشر للحرب علمنا أن القصف استهدف عائلة السويركي، وهي أسرة زوجة زميلنا في قناة فلسطين اليوم نضال حميد. حاولنا الاتصال به فلم نتمكن، ترقبنا الأنباء الواردة من هناك. أبلغني الزملاء أن نضال ردّ على الهاتف، لكنه كان قد نقل زوجته وأطفاله بلال وميار عند عائلة زوجته ظناً منه أنهم قد يكونوا بأمان هناك، وأن غيابه عن البيت سيسبب لهم القلق، وأن زوجته عند أهلها ستكون أكثر طمأنينة، فتبين أن البيت قُصف بالكامل على رؤوس من فيه، وأن زوجته وأطفاله استشهدوا في القصف، لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل، هل أتصل به لأعزيه أم أواسيه أم أهنئه على هذا الاصطفاء، لم أعرف ولم أستطع فعل شيء. بعد الظهر تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي فرأيت أحد الأصدقاء ينعي زوجة نضال وأطفاله، وأرفق صورة لنضال وبجواره صديقنا وزميلنا المصور شادي أبو سيدو. كان نضال جالساً وأمامه جثامين أربعة شهداء زوجته وأطفاله بلال وميار مسجاة على رصيف المستشفى. نظرت إلى الصورة وضاقت بي الدنيا بما رحبت وانزويت باكياً، قبل الحرب بأيام كان نضال قد أحضر أطفاله بلال وميار إلى مقر القناة، داعبناهم ولاعبناهم، كانوا ملائكة وهبهم الله جمالاً ربانياً، كانوا هادئين، عيونهم خضراء وشعرهم أشقر، ورثوا بياضهم من والدهم الذي كان يحلم بمستقبل أفضل. لم ألتق بنضال حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولا أعرف عندما ألتقيه ماذا سأقول له.
محمد الحسني
محمد فايز الحسني إعلامي وناشط شبابي، نزح هو وعائلته من شمال قطاع غزة إلى الجنوب مثل مليون نازح، جاء إلى خان يونس وتحديداً إلى منطقة القرارة ظناً منه ومن نحو مليون نازح أن الجنوب قد يكون أكثر أماناً، في فجر اليوم السابع عشر للحرب تعرضت القرارة لمحرقة، ارتقى فيها أكثر من سبعين شهيداً، وكان محمد وعائلته من بينهم، فقد جرى قصف البيت الذي آوى إليه وأصبح ركاماً.
إبراهيم مرزوق
زميلنا في قناة "فلسطين اليوم" إبراهيم مرزوق عائلته كبيرة، والنزوح كان بالنسبة إليه خياراً غير ممكن وغير متاح، قرر البقاء في بيته في حي التفاح بمدينة غزة. كان تقديره أنه سيكون بمأمن، وسلم أمره للقدر، فقضى نحبه شهيداً هو وأفراد أسرته بعدما قصفت طائرات الاحتلال منزله يوم 23/10، وبقي تحت الأنقاض حتى الظهر، بعدما تمكنت فرق الإسعاف من انتشاله. ونعته القناة وبكاه الزملاء.
يعتمد الاحتلال تكثيف القصف على المدن كل ليلة، ويركز على مدينة؛ فبعدما انتهى من الشمال، توجهت طائراته إلى الجنوب حيث يفترض وفق الزعم الإسرائيلي أنها منطقة آمنة. وقد بات فيها نحو مليوني إنسان في منطقة جغرافية لا تصل مساحتها إلى 100 كلم مربع، عرضها من البحر إلى السياج الشرقي لا يزيد عن 12 كيلومتراً، لا تغادرها طائرات الاستطلاع والطائرات الحربية. فجر 23/10 تركّز القصف في مدينة خان يونس، في القرارة ومعن وبني سهيلا وقيزان النجار، فجرى قصف "كوفي شوب" لجأت إليه بعض العائلات فارتقى 11 شهيداً، وتم قصف محطة وقود لجأت إلى ساحتها بعض العائلات، كانت ليلة دموية. مع الظهر عادت الطائرات لتقصف وسط المدينة، شاهدت قصف منزل في حي الأمل لا يبعد عن مدينة الهلال الأحمر أكثر من ثمانية أمتار، كان هناك صالون حلاقة مكتظ بالشبان أسفل المنزل، وفي أثناء محاولة رفع الركام عادت الطائرات لتقصف مكاناً مجاوراً لا يبعد أكثر من 100 متر، فاحتار الناس هل يبقون لرفع ركام البيت أم يهربون إلى البيت المقصوف للتو؟ وتقرر توزيع الجهد وسيارات الإسعاف بين المنزلين. وقفت مذهولاً عندما أخرج أحد المنقذين طفلة لم تتجاوز العام ونصف العام من تحت الأنقاض، حملها بيديه وراح يجري، والناس خلفه والقهر يرافقهم، كان المشهد عابراً لكل معاني الإنسانية وفوق اللغة ويتجاوز النص. كانت وستبقى هذه الطفلة الشهيدة شاهدة على هذا العالم.