للعنصرية والكراهية مظهر آخر هو: معاداة الفلسطينية
التاريخ: 
26/10/2023
المؤلف: 

لا يزال الشعب الفلسطيني الأصلاني يدفع فاتورة ما أفرزته الطبقة المهيمِنة في أوروبا من استعمار إمبريالي ومواقف وتصورات موغلة في العنصرية والاستعلاء على كل من ليس أبيض البشرة ويتبع لكنيسة غربية. فكان الأوروبيون اليهود من أول ضحايا تلك التصورات التي بررت العنف وحضّت عليه في خضم عملية التبدل الاجتماعي الاقتصادي، من الإقطاع إلى الرأسمالية، في تلك القارة منذ الثورة الصناعية الأولى.

في مواجهة ذلك، كان لردة فعل الأوروبيين اليهود مستويَين. الأول: ردة فعل الكادحين الذين وجدوا ضالتهم في الحركة العمالية الشيوعية، والثاني: ردة فعل البورجوازيين الذين وجدوا ضالتهم في الفكرة الصهيونية. غير أن المعسكر البورجوازي الصهيوني الذي شكّل ثيودور هيرتسل رأس حربته، سياسياً، استطاع التشبيك مع القوى الإمبريالية التي أخذت تقضم العالم العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر، ولا سيما مع بريطانيا التي آلت إليها السيطرة على فلسطين، بعد الحرب العالمية الأولى - فضلاً عن تشبيكه مع السلطنة العثمانية التي سمحت للحركة الصهيونية بتوجيه، بأول ثلاث موجات هجرة وإقامة مستوطناتها وكيبوتساتها الأولى على أرض فلسطين، بدءاً من سنة 1882.

 لم تتقاسم الصهيونية المصالح الطبقية نفسها مع سادة أوروبا فحسب، بل تغذّت واستفادت من مفردات وتصورات خطابها العنصري. ففي مذكراته، يقول هيرتسل إن إحدى أهم الأفكار التي استند إليها في محاولاته لإقناع قيصر ألمانيا، تتلخص فيما يلي: "ستؤدي هجرة اليهود [إلى فلسطين] إلى تقليص هجرة [الألمان] إلى أميركا، وبالتالي، سيتم الحفاظ على المواطنين الألمان الخُلَّص وقطع الطريق على ثورة قد يكون احتواؤها شاقاً، وسيؤدي إلى إضعاف التيار الاشتراكي الذي لا مناص من تقاطُر اليهود المضطهَدين نحوه لأنهم منبوذون من الأطراف الأُخرى، كما سيمنحكم ذلك وقتاً لحل المشاكل الاجتماعية."[1]

وكما أن نشأة الفكرة الصهيونية شاطرت النازية المهد نفسه، فإنها عكست عنصريتها على الشعب الفلسطيني الأصلاني قبل تطهير البلد عرقياً وإقامة نظامها المسمى "دولة إسرائيل". ولعل أهم الإشارات إلى ذلك، ما كتبه هيرتسل في "الدولة اليهودية"، إذ اعترف بشكل غير مباشر بأن فلسطين آهلة بشعبها، وأن ذلك الشعب سيقاوم المشروع الصهيوني، شأنه شأن أيّ شعب قد يتعرض لذلك، كما شرح باستخدام المجاز، أن الصهيونية ستكون أكثر تطوراً ونجاعة في القضاء على السكان الأصليين "الهمج"، إذ قال: "إذا ما أردنا أن نؤسس دولة اليوم، فسيتعين علينا ألاّ نقيمها بما كان متاحاً من أساليب قبل ألف عام. إذ إنها حماقة أن نعود إلى المراحل الأولى من الحضارة، مثلما يرغب كثيرون من الصهيونيين، مُفترضين مثلاً أننا مضطرون إلى تطهير البلد من الوحوش البرية. لا يجدر بنا أن نقوم بتلك المهمة على غرار أوروبيي القرن الخامس، إذ لا يجدر بنا الإمساك بالرماح والحراب، وأن نخرج فرادى لمطاردة الدببة. بل أن ننظم حفلة صيد كبيرة وناشطة، وأن نحشر الحيوانات، ثم نلقي عليها قنبلة."[2]  وهو بالضبط ما فعلته الصهيونية وتفعله، بأحدث الأسلحة. لقد وضع هيرتسل ذلك في عين الحسبان لأنه يعلم أن: "فلسطين والأرجنتين بلدان يشهدان تجارب استعمار قائمة على مبدأ خاطئ، مفاده أن يتوغل اليهود هناك بالتدريج. إن ذلك التوغل محتوم بنهاية مميتة، إذ إنه سيستمر حتى لحظة حتمية سيشعر فيها السكان الأصلانيون بأنهم مهددون، ليُجبروا الحكومة على منع تدفق المزيد من اليهود."[3] 

علاوةً على العنصرية الصهيونية التي قد يفصل بينها وبين العنصرية النازية فرقٌ في الدرجة -لا في النوع- نجد أن الصهيونية تعمل بالآليات الاستعمارية الرأسمالية المفترسة نفسها التي استغلت اليهود قبل أن تمعن في الشعب الأصلاني الفلسطيني فتكاً ونهباً واستغلالاً؛ ففي معرض خطابه الموجّه إلى اللورد لاندسون وزير خارجية بريطانيا في 23/10/1902، قال هيرتسل: "لن تقتصر الهجرة على يهود شرق أوروبا الجائعين الذين سيذهبون من أجل العمل، إنما سيذهب أيضاً أصحاب رؤوس الأموال لأنهم سيجدون مجالات لمشاريع سيستفيدون منها، وحتى بعض أغنياء روسيا... وفي غضون سنوات قليلة، ستصبح الإمبراطورية أكبر بفضل مستعمرة غنية... إن حل المسألة اليهودية في شرق أوروبا سيكون في صالح إنجلترا... وسيكون لإنجلترا عملاء [في فلسطين] من أجل عظمتها وسيطرتها وهذا الولاء لا بد أن يكون على الصعيدين السياسي والاقتصادي... لقد سبقت إنجلترا غيرها من البلدان في إيجاد وسائل المواصلات لتوسيع وتقوية مستعمراتها. وكذلك فإن الفوائد تعود على من يقوم بأعمال لا يفطن إليها غيره، وأملنا أن تفطن الحكومة الإنجليزية إلى فوائد كسب الشعب اليهودي."[4] 

نخلص مما سبق إلى أن النظام الاستعماري الصهيوني المسمى "دولة إسرائيل" قائم على:

  • عنصرية استعلائية عنيفة ضد الشعب الأصلاني الفلسطيني، أدت إلى تطهير بلاده عرقياً في نكبة 1948.
  • آليات عمل رأسمالية استغلالية هدفها استدرار الأرباح، وهو ما تطور لاحقاً بأن أصبحت إسرائيل بيئة للشركات البادئة التي يؤسسها منتسبو المؤسسة الأمنية والعسكرية، ولشركات التقانة والوسائط القتالية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والمسيرات التي تُسوَّق بملصق "جُرِّبَت في المعارك". أي جُربت على الشعب الأصلاني الفلسطيني. علاوة على شركات تقنيات الري والزراعة التي تعمل في الأرض المطهرة عرقياً.

من الطبيعي إذن أن تقف الطبقة الحاكمة اليوم بمختلف منابرها كالاتحاد الأوروبي وأشكالها السياسية في دول أوروبا والولايات المتحدة، صفاً واحداً وبوضوح صفيق مع نظام إسرائيل الصهيوني، وأن يتقاطر قادتها إلى الأرض المطهرة عرقياً كي يدعموا المُستعمِرين. فهذه جمهورية ألمانيا ممثلة بأحزابها السياسية من أقصى اليمين وصولاً إلى الخضر، تدعم إسرائيل وتقف ضد كل من يريد التفوه بكلمة ضدها أو مع حقوق الشعب الفلسطيني. وليست الجمهورية الخامسة الفرنسية بأحسن حال، فقد أعلن رئيسها ماكرون بلا وجل أنه يدعم إسرائيل في "حقها المشروع في الدفاع عن النفس"، كما منع التظاهر ضد جرائمها قبل أن يحاول إصلاح ذلك بقوله بضرورة "عدم الخلط بين حماس والشعب الفلسطيني"، من دون أن يدين النظام الصهيوني. وجاء تصريح رئيس حكومة إسبانيا بيدرو سانتشيث مماثلاً، قبل أن يكرر نفس "الضرورة"، ويعلن اتصاله بمجرم الحرب بنيامين نتنياهو طالباً منه السماح بفتح معبر رفح، لكن طبعاً، من دون أي إدانة.

هذه الأمثلة غيضٌ من فيض، وهي دليلٌ على استحالة اتخاذ الطبقة المهيمنة في أوروبا أو ممثليها أي خطوة جادة ضد إسرائيل لأنها تشاطرها الأساس العنصري نفسه.

يكفي استعراضٌ سريع لمواقف تلك الطبقة وأحزابها الممثلة لها، بما فيها تلك التي تدعي أنها "يسارية" ليتضح أنها تبطن وتظهر المواقف التالية المعادية للنضال الفلسطيني والهوية والكينونة  الفلسطينية، أي أنها "معادية للفلسطينية": 

  • إنكار أن نكبة 1948 هي عملية تطهير عرقي.
  • إنكار أن إسرائيل نظام استعماري قائم على الأيديولوجيا العنصرية الصهيونية.
  • إنكار وجود أيديوليوجيا صهيونية، أو أنها أيديولوجيا عنصرية إجرامية.
  • إنكار حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة بلا قيد أو شرط.
  • إنكار التعاون بين الحركة الصهيونية والنظام النازي لجلب الألمان اليهود إلى فلسطين.
  • إنكار أو تجاهل التنوع الديني )الإسلامي، المسيحي، اليهودي...إلخ( للمجتمع الفلسطيني.
  • وسم النضال الفلسطيني بالإرهاب الإسلاموي.
  • تبرير الإجرام الصهيوني على أنه ردة فعل، وليس أصل الشرور في المنطقة.
  • اعتبار أن معادة الصهيونية وإسرائيل "معاداة للسامية".
  • إدانة وتجريم مختلف أشكال النضال ضد إسرائيل.

      لا يصل مصطلح "معاداة السامية" إلى درجة الخطأ. وهو المصطلح الذي صكه فيلهلم مار في ألمانيا في سنة 1879 تعبيراً عن عدائه لليهود "الخطرين على القيم الألمانية". من الواضح أن المصطلح علاوة على عنصريتة الكريهة يعكس جهلاً منفراً بأبجديات العلوم الإنسانية، ناهيك بأنه إسقاط ميكانيكي لما جاء في العهد القديم. ولو سلمنا عبثاً بوجود "سام" و"حام" فإن العرب والفلسطينيين ساميون أيضاً. وعلى الرغم من الطروحات العلمية الرصينة التي راح يقدمها منذ خمسينيات القرن الماضي علماء في اللسانيات والتاريخ والآثار والتي تقول بأن مصطلح "السامية" متهافت، وأن هناك لغات وشعوباً "أفروآسيوية"،[5] فإن العنصرية الأوروبية تأبى فكاكاً من مُكرَّسِها "اليهوسيحي" ومن قرينتها: العنصرية الإسرائيلية، مثبتة بذلك عنصريتها ضد الشعب الفلسطيني ووجوده وكينونته، أي معاداتها للفلسطينية.

ومن بين أسباب ذلك، تحقيق قيام دولة إسرائيل لما وعد به ثيودور هيرتسل أبو الصهيونية السياسية الذي قال:

"لن ينجم عن مغادرة اليهود [من أوروبا] أي اضطرابات اقتصادية أو أزمات أو تعديات، بل إن البلدان التي سيتركونها ستنتعش وتشهد فترة جديدةً من الرخاء... سيغادر اليهود كأصدقاء مكرمين وإذا ما عاد بعضهم فسيحظون بنفس الترحاب والمعاملة التفضيلية التي توليها الأمم المتحضرة لجميع الزوار الأجانب. لن يكون خروج اليهود فراراً البتة، لأنه سيكون في حركة مضبوطة جيداً وتحت نظر الرأي العام، ولن تكون تلك الحركة في غاية الانسجام مع القانون وحسب، حيث أنها لن تتم أصلاً دون تعاونٍ وديّ من طرف الحكومات المعنية التي ستجني منافع معتبرة منها."[6]

ذلك ما يحدث عملياً الآن، فإسرائيل مختبر متقدم لتجريب التقانة على الشعب الأصلاني الفلسطيني حيث يستثمر رأس المال الأوروبي والأميركي بشكل أساسي، علاوة على أن قوى اليمين الفاشي العنصري في جميع دول القارة العجوز صديقة للنظام الصهيوني ومنافحة عن جرائمه، كما أن حملة جوازات السفر الإسرائيلية يحظون بمعاملة تفضيلية في تلك الدول. وقبل ذلك كله كان نقل الأوروبيين اليهود مضبوطاً نحو فلسطين، فقد فتحت أبواب إنكلترا والولايات المتحدة للأغنياء منهم، أمّا أبناء الطبقة الوسطى فكان عليهم ترك أملاكهم للنازيين على أن تنقلهم الحركة الصهيونية إلى فلسطين،[7]   أمّا من ثَبُتَ منهم ليقاوم النازية والفاشية - وذلك في الأغلب في صفوف الحركة الشيوعية- ومن كان فقيراً معدماً -وهم الأكثرية- فتُركوا ليواجهوا مصيرهم على يدي الإجرام النازي.

تلك خطاطةٌ سريعةٌ لمصطلح لا بد من طرحه بقوة، وهي بحاجة إلى مزيد من البحث، غير أن الأكيد هو أن القرن الحادي والعشرين يشهد تفشياً لـ "معاداة الفلسطينية" وهي مظهرٌ قبيحٌ من مظاهر العنصرية والكراهية ضد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، نشأ بنشوء إسرائيل وعمره من عمر النكبة، وزواله سيزول بزوال آثارها وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الاشتراكية الواحدة في فلسطين. وحتى يتم ذلك يجب محاربة معادة الفلسطينية وملاحقة مروجيها وإسقاط نظام إسرائيل الصهيوني بنفس الإصرار والثورية التي حوربت بهما النازية وكراهية اليهود، آملين ألاّ يكلفنا هذا مزيداً من الضحايا، فلم يعد هناك مجالٌ للسكوت!

 

 

[1] The Complete Diaries of THEODOR HERZL, edited by Raphael Patai, translated by Harry Zohn  (New York, London: Herzl Press and Thomas Yoseloff, 1960), volume I, p. 62.

[2] Theodor Herzl, The Jewish State, Der Judenstaat, 1896, translated by Sylvie D'Avigdor (New York: the American Zionist Emergency Council, 1946), p.11. 

[3] Ibid., p. 13.

[4] يوميات هرتزل، إعداد أنيس صايغ، ترجمة هلدا شعبان صايغ (بيروت: مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، 1968)،ص 249-250.

[5] أنظر: مؤلفات ومحاضرات محمد مرقطن، محمد دندامايف، إيغور دياكونوف. على الإنترنت.

[6] The Complete Diaries, op.cit., p. 8.

[7] Edwin Black, The Transfer Agreement: The Dramatic Story of the Pact Between the Third Reich and Jewish Palestine (Washington: Dialog Press, 1984).

عن المؤلف: 

مصعب بشير: مترجم فلسطيني وسجين سياسي سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي، يقيم بإسبانيا.