أن تنزح من بيتك بحثاً عن البقاء
التاريخ: 
25/10/2023
المؤلف: 

مساء السبت (7/10)

يبدو الآن أن الحيلة بعد الفرح بما حدث عند الصباح هي البحث عن مكان آمن على الرغم من القناعة التامة بأن الذي حدث سيشعل نار تنين الجنون في قلب الاحتلال.

الجميع اتخذ المكان المناسب؛ خمس طبقات في عمارة سكنية، وكل عائلة تضم ما لا يقل عن 6 أفراد تقريباً في شقة متوسطة المساحة، فجلسنا في الطبقة الأولى، تحديداً في ليلة لم يكن فيها النوم مشرعاً أبوابه، والكل كان محتمياً بشيء (غطاء، وحضن أم، ويد أخ). وكان بعضنا يدخن سجائر التوتر والترقب، لنغطي على رائحة البارود التي ملأت البيت عند تمام الساعة الواحدة والنصف في منتصف تلك الليلة.

مضى الليل ثقيلاً؛ فكنا نعرف أخبار القصف عبر رسائل الهاتف، وذلك بعد أن انقطع الإنترنت في عصر ذلك اليوم، وتوقفت خدماته عن المنطقة كلها، منطقة السودانية شمال غرب غزة.

صباح الأحد (8/10)

استطعنا التقاط شبكة إنترنت لاسلكية، توفرها خدمات فردية عبر الطاقة الشمسية في المنطقة، واستطعنا بعد ذلك أن نتواصل مع من حولنا بصعوبة بالغة جداً.

وفي ظهيرة ذلك اليوم، صار الوقت من قلق؛ فمنطقتنا بمجملها باتت تتعرض للقصف من الزوارق الحربية والطائرات، فقررنا أن نخفف من ضغط عدد الأفراد في البيت، ولا سيما ممن لديهم أطفال، إذ اكتظ البيت بعد أن نزح إلينا أقارب من منطقة بيت حانون، فخرج هؤلاء وبقينا في البيت أنا وأبي و3 من إخوتي و6 أفراد من العائلة النازحة، على اعتبار أن قدرة التحرك بصورة واعية عند البالغين أسهل من دون الأطفال.

ومع أذان المغرب تحديداً، دوى صوت انفجار أغلق الرؤية في بداية الشارع، وفي أثناء مراقبة موقع القصف والذعر الذي دب فينا، بدأت الاتصالات المباشرة من جيش الاحتلال، وهو ما يُعرف باتصال معرّف، أي ليس أسطوانة تحذيرية، يعرّف به الضابط باسمه ويخبرك باسمك ويطلب منك بالاسم أن تخلي المنطقة خلال نصف ساعة، وعليك أيضاً إخبار الجيران القريبين بذلك، وكلما تأخرت أو حاولت ألاّ تتعاطى مع التهديد، يتصل بغيرك من الحي ليضغط أكثر.

في ذلك المساء، ومع بداية دخول الليل، اضطررنا نحن ومن ظل معنا في الحي إلى الخروج منه، واستطعت أنا وعائلتي ليلتها أن ننام في بيت أخوالي في مخيم الشاطئ غرب المدينة.

صباح الاثنين (9/10 حتى مساء السبت 14/10)

"استقرينا" في بيت الأخوال مع إخوتي وأبي. لم يكن المكان آمناً، فالخطر في كل مكان، والقصف قريب، والجو مليء بالتوتر والترقب، إذ كانت تندلع حرب من أجل الحصول على الماء الصالح للاستخدام اليومي، واضطر الجميع إلى أن يكوّن علاقة مع موظفي مراكز الإيواء لضمان حصة تعبئة غالونات الماء ونقلها عبر طبقات العمارة بين الدور الثالث والخامس تحديداً.

واستمر الوضع على هذه الحال لأكثر من أربعة أيام، حتى بدأت موجات الاتصالات التي تطلب من سكان شمال غزة الإخلاء نحو جنوب وادي غزة، واستمرت حتى الجمعة، وازداد الضغط على الجميع، حتى نادت مراكز الإيواء القريبة منا عبر مكبرات الصوت: "إن بقاءكم على مسؤوليتكم، نحن لا نستطيع ضمان حمايتكم."

وبدأت الأمور تتصاعد أكثر فأكثر إلى جانب الخوف من القصف، مع انسحاب موظفي مراكز الإيواء من مسؤولياتهم، ونقل مراكز عملهم نحو الجنوب، حيث "الأونروا" القوة الوحيدة التي تمثل "القشة" للناس.

مع عصر الجمعة (13/10)، عرفنا عبر الصور حال بيتنا الذي صار حطاماً وسُوي بالأرض.

حاولنا في صباح اليوم التالي تجاوز التهديدات والبقاء في المنزل الذي لجأنا إليه، إلاّ إن الاحتلال قصف بيتاً ملاصقاً له، فخلف مجزرة راح ضحيتها 50 شهيداً، كما أنه ألحق ضرراً بالمنزل الذي نحن فيه، فكان القرار بإخلاء المنزل، وهو عبارة عن عمارة سكنية فيها 17 شقة، ويسكن كلَ شقة ما لا يقل عن عشرين شخصاً، بين أصحاب بيت ونازحين.

خرجنا، وبتنا تلك الليلة في مركز إيواء، هو مدرسة "ذكور الشاطئ أ" التابعة لـ"الأونروا" في مخيم الشاطئ غرب غزة.

صباح الأحد (15/10)

إن البقاء في مركز إيواء بعد اكتظاظه لا يضمن لك نوماً، ولا حصة حمام، ولا حتى مكاناً للجلوس، فكان ينطبق علينا القول "رايح عالحج والناس مروحة".

وكان القرار بأن نلجأ أنا وأبي إلى بيت أختي شرق خان يونس، وأحد إخوتي وعائلته نحو غرب خان يونس، وآخر نحو دير البلح، وثالث نحو رفح، لكن أحد إخوتي اختار البقاء في مركز إيواء في مدينة غزة، وحجته كانت أن أغلب أولاده ذكور، ولذلك، فإن قضاء الحاجة لن يكون صعباً.

انتقلت المعاناة نفسها معنا إلى شرق خان يونس؛ حرب الماء، وطابور السوق والخبز، وبقينا حتى صباح الثلاثاء (17/10)، وقد انتهت محطة شرق خان يونس، بعد قصف قريب جداً أحدث ضرراً وخطراً.

مساء الثلاثاء (17/10 - حتى يوم كتابة هذا النص في صباح 24/10)

الآن، أقيم أنا وأبي وأختي وابنتها بخان يونس، وتحديداً في مخيم هذه المدينة، بعد أن أخلينا منزلها شرق المدينة. وعائلة أخي المكونة من 6 أفراد نزحت إلى بيت صديق حتى اللحظة.

وفي هذا المكان كذلك، ثمة واقع مشابه لكل المحطات السابقة، من قصف وخطر وبحث عن الماء وطوابير الخبز ومراقبة الوضع من وراء شاشة الهاتف والنافذة.

عن المؤلف: 

فداء زياد: ناشطة ثقافية في قطاع غزة.

عودة الفلسطينين النازحين من الجنوب إلى شمال قطاع غزة، 27 يناير/كانون الثاني 2025، قطاع غزة/فلسطين (تصوير مجدي فتحي، NurPhoto via Getty Images)
يسري الغول
تصوير محمد النعامي  "رحلة العودة إلى الشمال، قطاع غزة/فلسطين، 28 يناير 2025"
سجود عوايص