حول تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم
التاريخ: 
23/10/2023
المؤلف: 

يتجسد أحد الأبعاد المروعة للأحداث الجارية في فلسطين في أننا نشهد على التجريد التام للشعب الفلسطيني من إنسانيته من خلال علاقة التبادل النفعي بين حكومات الغرب ووسائل إعلامه الرئيسية. فالهجمات التي تستهدف الفلسطينيين حالياً في قطاع غزة، والتي يمكن وصفها بأنها إبادة جماعية، مهدت لها بلا شك عقود من الممارسات العنصرية الموجهة ضد الفلسطينيين التي ينفذها مسؤولون حكوميون وعسكريون، إضافة إلى وسائل الإعلام. هذا ليس مفاجئاً بالنسبة إلى أناس مثلنا هم على دراية بالتحيز العميق والمتجذر ضد الفلسطينيين في وسائل الإعلام الرئيسية، وكيف يتم تجنب السياق التاريخي الضروري بالكامل، ويُصوَّر الفلسطينيون ببساطة على أنهم "يموتون" لمجرد وجودهم في المكان، بينما يُصوَّر الإسرائيليون على أنهم يتعرضون "للقتل" عن سابق ترصد. 

على مر العقود، هناك جهد مشترك مُنسق يُبذل لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، من خلال التنميط العنصري والتصورات الاستشراقية المتحيّزة. ولم يكن ذلك أكثر وضوحاً مما شهدناه خلال الأسبوعين الأخيرين، عندما بث القادة السياسيون والعسكريون الأميركيون والإسرائيليون الرعب والهلع، وتفوهوا بأسوأ خطاب معادٍ للعرب منذ الفترة التى أعقبت هجمات 11 أيلول/سبتمبر. ويهدف هذا الخطاب العنصري إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم لامتصاص غضب الجمهور تجاه ما يمكن أن يُعد أسوأ عملية تطهير عرقي منذ نكبة سنة 1948 وما يمثل إبادة جماعية على يد أحد أقوى الجيوش في العالم، وكل ذلك يجري والقوى العالمية تتفرج من دون أن تحرك ساكناً.

بكل المقاييس، يجب وبلا أدنى شك أن تحمل المجزرة الجماعية التي ارتُكبت في مستشفى الأهلي (المستشفى المعمداني) في غزة، إلى جانب قتل إسرائيل الآلاف من الأطفال والمدنيين تحت وابل القصف في الأيام التي سبقت وتلت ذلك، إدارة بايدن إلى فرض وقف لإطلاق النار. لكنها مستمرة بدلاً من ذلك في توفير غطاء دبلوماسي غير مشروط لإسرائيل وإصدار تصريحات كاذبة لنشرها في وسائل الإعلام تؤيد استمرار جرائم الحرب الإسرائيلية. وتكرر وسائل الإعلام طائعة صاغرة، بدورها، ومن دون أن تطرح أي أسئلة، هذه التصريحات الرسمية متخلية عن واجبها الصحافي عند نشر تقارير عن جرائم إسرائيل. 

يصعب جداً ألاّ نصاب بالإحباط لدى سماع الصحافيين يتفاخرون بتأدية رسالتهم في "الدفاع عن الديمقراطية" و"الحقيقة" في حين يتخلون عن هذه المبادئ ويبررون كل استثناءً في كل مرة يتعلق فيها الأمر بتغطية الأخبار المرتبطة بفلسطين. وربما أكثر ما يثير الاستياء هو إعلان الحداد العام على الصحافيين الذين قتلوا في أماكن مثل أوكرانيا، حيث يُلقى اللوم على الجناة ويُعرَّف عنهم بكل دقة، بينما لا يحظى بالتغطية التي يستحقها قتل صحافيين مثل شيرين أبو عاقلة في جنين وعصام عبد الله في جنوب لبنان. في الحالات التي يُقتل فيها صحافيون عرب في أثناء أداء عملهم، يتم التعتيم على المسؤولية من خلال تصريحات ضعيفة وبواسطة وسائل إعلام تتيح للمسؤولين الكذب بصراحة وتورية الأمور. ويزداد الأمر سوءاً حينما تتحدث وسائل الإعلام بخطاب يخدم الدعاية الإسرائيلية، مثلما حدث في حالة عصام عبد الله عبر تجنب القول بوضوح إن إسرائيل هي التي قتلته، وإنما استخدام عبارات مواربة للقول إنه قتل بواسطة صواريخ "أُطلقت من ناحية إسرائيل".

الفجوة الهائلة في تقدير قيمة الحياة عندما تُمنح هذه القيمة لحياة الإسرائيليين على حساب حياة الفلسطينيين لم تكن يوماً بمثل هذا الوضوح. وفي حين تُعرض ألوان العلم الإسرائيلي على البيت الأبيض لتكريم القتلى الإسرائيليين، لا تُلفظ كلمة انتقاد واحدة حينما يتعرّض المدنيون الفلسطينيون للتجويع والتشويه والتعذيب والقتل. بدلاً من ذلك، ترسل الولايات المتحدة الأميركية الأسلحة إلى حكومة الأبارتهايد والفصل العنصري الإسرائيلية، بينما يُطلق رئيسها تصريحات عنصرية صريحة لوصف الفلسطينيين بأنهم "أبناء الظلام"، وبأنهم يعيشون وفق "شريعة الغاب". وتدعم الحكومة الأميركية على نحو صريح الجيش الإسرائيلي الذي يحكم علانيةً على الأطفال الفلسطينيين بالموت ويُشير إلى المدنيين الفلسطينيين على أنهم "وحوش بشرية". إذ إن حياة الفلسطينيين لا قيمة لها في المعادلة الفاحشة للقوة الأميركية التي تتحدث عن قصف مستشفى في غزة على أنه مجرد "انفجار".

إن تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم الذي تُقدم عليه الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما واضح لا لبس فيه، مع استمرارهم في تبرير القتل الجماعي لأشخاص محتجزين في أكبر سجن مفتوح في العالم. إنهم لا يسيرون على خطى نياتهم المعلنة من أجل 'نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط'، بل يهدفون في الأساس إلى ضمان وجود استراتيجي مستدام في المنطقة وتحقيق أرباح تعود على منتجي الأسلحة الذين يمولون الثروات الشخصية والحملات الانتخابية للسياسيين الأميركيين. ولذا، لا ينبغي لنا أن نستغرب أن تبتلعنا مثل هذه الآلة، وأن تنبذ الإنسانية الجماعية للضحايا والشهود على حد سواء.

ومن هنا، يجب محاسبة وسائل الإعلام على تخاذلها الشديد في تحمل مسؤوليتها تجاه إبلاغ الجمهور وبالتالي إتاحة ارتكاب هذه الجرائم ضد الإنسانية وتمكينها.

ويجدر بنا أن نرفض القول السخيف المبالغ في بساطته الذي يزعم أن مسار التاريخ الطويل ينحني نحو العدالة، وأن ننشد بدلاً من ذلك بعض الأمل في شكل الاحتجاج الجماعي والعصيان المدني من أجل وقف هذه الآلة. لحسن الحظ، بدأنا نرى نتائج النداءات التي تناشد إنسانيتنا المشتركة، حتى على مستوى المؤسسات والدولة. ذلك بأن مسار التاريخ لا ينحني بفعل يد غير مرئية أو عملية طبيعية. نحن فقط من نملك أن نحنيه من خلال القوة الصلبة للعزم والإرادة من أجل تحقيق العدالة التاريخية والسلام الدائم لفلسطين وللفلسطينيين.

عن المؤلف: 

ستيفن بينيت: مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية-الولايات المتحدة، واشنطن.