ما يحدث اليوم في القدس والداخل المحتل من فرض لإجراءات وأساليب استعمارية إسرائيلية متمثلة في رهاب النشر، وتكميم الأفواه، والاعتقالات الجماعية بحجة "التحريض" أو "التماهي مع المنظمات الإرهابية"، يعيد إلى الواجهة كتاب "الرقابة الشاملة" لأحمد سعدي، والذي يُخضِع للتحليل والتموضع، أساليب الرقابة والسيطرة وإدارة السكان التي اتبعتها إسرائيل إزاء الفلسطينيين خلال السنوات ما بين نكبة 1948 ونهاية الحكم العسكري عام 1966،[1] وبالتالي يساعدنا على فهم الإطار القانوني والاستعماري الذي يمكننا من خلاله تفكيك المشهد السائد اليوم في السياق الفلسطيني.
كاريكاتير للفنان الفلسطيني سعيد النهري- الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني
فبينما مثّل الضبط الاستعماري للسكان الأصليين ملمحاً مهماً من ملامح تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن مواصلة إسرائيل إدارة كتلة السكان الفلسطينيين الضخمة في القرن الحادي والعشرين، أي بعد مرور زمن طويل على نهاية الاستعمار، تمثل تحدياً جدياً أمام دارسي أشكال الضبط السياسي ومنظريه.[2] وعليه، يفترض هذا المقال عودة نظام الحكم في إسرائيل بعد عام 2015، وهو العام الذي شهد صعوداً للنهج الفردي في المقاومة في عموم فلسطين، وارتفاع وتيرة العمليات الفدائية الفردية، وذلك بالتزامن مع ازدياد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها، مروراً بهبّة الكرامة ومعركة سيف القدس لعام 2021، واللتين كان لهما دور أساسي في نقل صوت الراوية الفلسطينية وصورتها رقمياً إلى العالم أجمع، وعززتا دور الفلسطيني\ة ومسؤوليته الفردية، وصولاً إلى نظام الحكم العسكري بكل ما يحمله من مشاهد وتمثلات تنعكس على مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والنفسية للفلسطينيين.
ولاحقاً، في تاريخ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبعد تنفيذ حركة المقاومة الإسلامية "حماس" هجومها على المستوطنات الإسرائيلية الموجودة في غلاف قطاع غزة، ولا سيما سديروت، خلال معركة طوفان الأقصى، وإعلان الحكومة الإسرائيلية دخولها حالة الحرب، دخلت المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية في حالة هلع وهوس أمنيين غير مسبوقين، وقد تُرجم ذلك بطريقتين: الأولى تمثلت في اللجوء إلى "العنف المتفجر" في قطاع غزة عبر أداة القتل والإبادة الجماعية (جينوسايد). والثانية، يمكن تكثيفها تحت إطار "العنف الملجوم" والمُستخدَم في المناطق المحتلة عام 1948 والقدس المحتلة، والذي انعكس من خلال سياسات العقاب الجماعي، كالاعتقال الإداري، والحبس المنزلي، ودفع الغرامات المالية الباهظة، وسياسات منع النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وسحب الامتيازات من الفلسطينيين، كطردهم من جامعاتهم ووظائفهم.
إن الحكم هو الوظيفة الأولى للدولة الحديثة، وفي حالة دولة الاستعمار الاستيطاني يعتبر حكم السكان الأصليين هو الوظيفة الدائمة والمتجددة للدولة، وفي هذا تناقض رئيسي مع الصورة المؤسسة للصهيونية باعتبارها تجسيداً للحداثة والعقلانية الأوروبيتين؛ ومن هنا يمكننا أن نستنتج أن التحديث ربما يوسع نطاق خطط السيطرة ويزيد نجاعة أدواتها،[3] وهذا ما حدث مع إسرائيل، والذي كشفته آليات تعاملها مع الفلسطينيين.
يحمل كتاب هليل كوهين المعنون "العرب الطيبون" عنواناً فرعياً هو الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، 1948-1967، ما يشير إلى أن تركيزه الرئيسي منصب على طريقة تفاعل الأجهزة الأمنية مع الأقلية الفلسطينية وكيفية حكمها. ومن خلال عرض كوهين، يظل القارئ غير قادر على تحديد ما إذا كانت هذه الأجهزة الأمنية تطبق سياسة حكومية، أو تتصرف ضمن حدود القانون، أو خارج حدوده، أو في منطقة رمادية بين المشروعية القانونية أو اللامشروعية القانونية. وقد وضّح صبري جريس الكيفية التي يمكن من خلالها إساءة استخدام القانون ليصبح أداة هيمنة، وذلك من خلال إزالة الغموض عن القانون، ووضعه ضمن إطار منظومة علاقات القوة في الدولة، لا خارج المنظومة ولا فوقها.[4] وهذا يفسر طريقة الحكم التي تعتمدها اليوم الحكومة الإسرائيلية في كل من القدس والداخل المحتل، إذ تلجأ بشكل أساسي إلى استخدام قانون الطوارئ كغطاء شرعي يبرر كل إجراءاتها القمعية العنيفة واللاإنسانية.
يمكننا فهم أحكام حالة الطوارئ على أنها حالة يشوش فيها التمييز بين مختلف السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)؛ إذ يسيطر فرع السلطة التنفيذية في الحكومة ويتحكم بعمل الفرعين الآخرين. علاوة على هذا، يجري، في هذه الحالة، الحد من حكم القانون المعياري لمصلحة النزعة التقريرية التي تتمثل في ممارسة موظفي الدولة وضباط الجيش السلطة بصورة تعسفية. وعلى الرغم من أن حالة الطوارئ تُرفع عادة عند حصول الحروب، فإن نظام حكم من هذا النوع غالباً ما يصبح هو القاعدة. والواقع أن حالة الطوارئ في إسرائيل لم تُرفع قط منذ عام 1948 حتى يومنا هذا، لكن التفاوت يحدث في مقدار ما يُطبق من القوانين الخاصة بها. فعلى سبيل المثال، ظلت أنظمة الطوارئ التي تحد من حكم القانون سارية المفعول على الفلسطينيين حصراً في الفترة 1948-1966، وذلك من خلال الحكم العسكري الذي فُرض على المناطق التي يقطنها الفلسطينيون.[5]
وقد طرأ على عدد هذه الأنظمة تغيّر بمرور الأعوام، ذلك بأن إسرائيل أضافت إلى أنظمة الطوارئ الانتدابية أنظمة جديدة، وحذفت منها أنظمة أُخرى؛ ففي العقدين الأولين من عمر الدولة، كان عدد هذه الأنظمة 150 نظاماً، لكن ميشال شوهام الذي كان على رأس الحكم العسكري، صرّح عام 1958 قائلاً إن هذه الحكومة اعتمدت اعتماداً شبه كامل- وإن لم يكن اعتماداً حصرياً- على ستة من تلك الأنظمة: 108 و109 و110 و111 التي تُستخدم في مواجهة الأفراد وتسمح بوضعهم تحت رقابة الشرطة، و124 و125 اللذان لهما صلة بالمناطق والتجمعات.[6]
تنطوي هذه الأنظمة على تقييدات شديدة؛ فطبقاً للنظام الذي يحمل رقم 110، فإن من الممكن إلزام الفرد بالعيش في مكان بعينه وعدم مغادرة المنطقة أو البلدة من غير إذن، وبالمثول في قسم الشرطة في أوقات محددة له، وملازمة منزله حتى تمضي ساعة واحدة على شروق الشمس، كما يمنح النظام رقم 124 الجيش صلاحية احتجاز الناس في منازلهم أو مكاتبهم مدة غير محددة. وللحاكم العسكري أن يطلب، عن طريق إصدار أمر، من كل شخص ضمن أي منطقة يحددها، ملازمة منزله خلال الساعات التي يحددها إلاّ من كان يحمل إذناً خطياً صادراً عن الحاكم العسكري نفسه،[7] وهذا ما يُعرف اليوم بالإقامة الجبرية أو الحبس المنزلي والمستخدم بكثرة كأداة عقاب ناعمة تستغلها حكومة الاحتلال للسيطرة على الأفراد الفلسطينيين في القدس والداخل المحتل، وفرض الرقابة المشددة عليهم، وتحويل أفراد أسرتهم إلى سجّانين لهم.
أمّا النظام رقم 111، فيمنح الحاكم العسكري إمكان حبس شخص مدة تصل إلى ستة أشهر، من غير محاكمة، ومن غير توجيه اتهام رسمي – ويجوز تجديد مدة الحبس بعد مراجعة رسمية[8]- وهذا ما يُعرف اليوم بالاعتقال الإداري، وقبل السابع من أكتوبر كان هناك 1300 حالة اعتقال إداري من أصل 5250 أسيراً وأسيرة في سجون الاحتلال، بحسب إحصاء لنادي الأسير الفلسطيني، لكن اليوم ارتفع العدد ليصل إلى 10 آلاف أسير\ة، وهو عدد غير مسبوق منذ سنوات الانتفاضة الثانية عام 2002، ذلك بأن أغلبية من يتم اعتقالهم يحوَّلون إلى الاعتقال الإداري.[9]
هذا وتبلّغ المحامون الفلسطينيون الذين يترافعون عن المعتقلين الفلسطينيين أمام المحاكم العسكرية منذ بدء معركة طوفان الأقصى تفعيل الاحتلال للمادة 33 من الأمر العسكري رقم 1651، والتي تنص على إجراءات الاعتقال "في حملة عسكرية لمواجهة الإرهاب"، والتي تُتيح اعتقال شخص لمدة 8 أيام قبل عرضه على المحكمة بدلاً من 96 ساعة.[10]
أمّا النظام رقم 125، فيخوّل الحاكم العسكري إصدار أمر بإغلاق أي منطقة واقعة ضمن دائرة اختصاصه، وعندما يصدر قرار الإغلاق، لا يجوز لأي شخص خارجها أن يدخلها من غير ترخيص. هذا وتمنح الأنظمة الأُخرى الحاكم العسكري سلطة معاقبة أي شخص أو منعه\ ها من حيازة أجهزة معينة – كالآلات الكاتبة مثلاً- للحيلولة دون تواصله\ها مع أشخاص معينين، أو لتجريم أي رابطة أو تنظيم.[11] وقد تم التطوير على ما سبق، من خلال مصادقة الكنيست عام 2016 على قانون مكافحة الإرهاب، الذي يحتوي على مئات البنود والأحكام التي توفر أدوات جديدة للسلطات الإسرائيلية تهدف إلى قمع نضال الفلسطينيين في القدس والداخل المحتل، وتلاحق نشاطاتهم المساندة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.[12]
وهذا ما برز مؤخراً عبر اعتقال سلطات الاحتلال لأكثر من 200 شخص من القدس والداخل المحتل بتهمة التحريض على وسائل التواصل الاجتماعي وأهمها الفيسبوك،[13] الأمر الذي أدى إلى إيجاد حالة من الهلع والخوف الشديدين لدى الفلسطينيين، إذ ساد الصمت على حساباتهم؛ فقد عمل الاحتلال على اعتقال أشخاص معروفين في محيط مدنهم وانتزع منهم الامتيازات التي يمتلكونها، عبر منع العديد منهم من استكمال تعليمهم في الجامعات الإسرائيلية، أو طردهم من أشغالهم، وسحب رخص مزاولة المهنة منهم.
ونتوقف عند المحامية أصالة أبو خضير من مدينة القدس المحتلة، والتي اعتقلتها سلطات الاحتلال بتاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر لتفرج عنها بعد يومين، وذلك في إثر تقديم نقابة المحامين الإسرائيليين شكوى بحقها بعد أن كتبت منشوراً يتعلق بمعركة طوفان الأقصى على صفحتها الخاصة على فيسبوك، وهددت بسحب رخصة مزاولة المحاماة الخاصة بها.
ويقول الأسير المحرر ناصر أبو خضير، والد أصالة، خلال حديثنا معه: "شهدنا هذه الحالة في أثناء حرب أكتوبر 1973، إذ سنّت إسرائيل في حينه، جملة من القوانين العرفية التي أتاحت للجيش الإسرائيلي مصادرة جميع المركبات والشاحنات من أصحابها العرب خدمة للمجهود الحربي، كما أُسقط حق التملك الفردي. وما نشهده اليوم من سن قوانين تخنق الحقوق الشخصية وتمنع حرية التعبير وتلاحق الفرد، عبارة عن قانون عرفي يجيّر كل حالة الدولة لمصلحة المجهود الحربي."[14]
وأضاف: "ما نشهده اليوم هو أشبه ما يكون بالحكم العسكري، يسود خلاله القانون العرفي متغلباً على القوانين العادية المدنية التي تغطي كل جوانب حياة الموطنين، ولا سيما ما يتعلق بالحقوق المدنية والشخصية."[15]
يشعر الفلسطينيون في القدس والداخل المحتل بأن حناجرهم مكبلة، وصدورهم تختنق، إذ يعلق داخلها صدى أصوات أطفال غزة وهم يبكون، ودموع أمهاتها المكلومات، وصراخ رجالها المقهورين. وقد عبّر كثيرون منهم عن خصوصية الحالة التي يعايشونها من خلال مصطلح "القهر".
[1] أحمد سعدي، "الرقابة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيلية في إدارة السكان ومراقبتهم والسيطرة السياسية تجاه الفلسطينيين" (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 11.
[2] المصدر نفسه، ص 17.
[3] المصدر نفسه، ص 21.
[4] المصدر نفسه، ص 25-27.
[5] المصدر نفسه، ص 102.
[6] المصدر نفسه، ص 103.
[7] المصدر نفسه.
[8] المصدر نفسه.
[9] تم الحصول على هذه المعلومات من خلال حوار أُجري مع أماني سراحنة، المسؤولة الإعلامية في نادي الأسير، في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، في سياق الحديث عن تصاعد أعداد المعتقلين بعد أحداث السابع من أكتوبر.
[10] "أبرز الإجراءات التي فرضت صعوبات على الطواقم القانونية"، جمعية نادي الأسير الفلسطيني.
[11] السعدي، مصدر سبق ذكره، ص 103.
[12] "قانون مكافحة الإرهاب" (د.ت. المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل):
[13] تم الحصول على هذه المعلومات من خلال حوار أُجري مع أمجد أبو عصب، المتحدث باسم لجنة أهالي الأسرى في القدس، في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، في سياق الحديث عن تصاعد أعداد المعتقلين بعد أحداث السابع من أكتوبر.
[14] مقابلة أُجريت مع ناصر أبو خضير، أسير محرر من القدس المحتلة، شعفاط، في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقد سُئل عن عودة مرحلة الحكم العسكري.
[15] المصدر نفسه.