شهادة من بيروت إلى غزة الروح
التاريخ: 
25/10/2023
المؤلف: 

في تمام الساعة العاشرة صباح يوم السبت، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبعد سماع الخبر الذي لم يستوعبه عقلي الباطن كما يجب، حين اقتحمت كتائب القسام غلاف غزة وقامت بأخذ عشرات الصهيونيين كأسرى، اتصلت بوالدي الذي لم يسبق أن حدثني بهذه اللهجة الممزوجة بسعادة عارمة وغصة حزينة عمّاا ينتظر شعب غزة. لم أتمكن من تمالك نفسي وحبس دموعي حين أخبرني بأن لا كلمات يمكن أن تصف ما ستقدم عليه إسرائيل ضد هذا الشعب المكلوم؛ سكتَ لوهلة كأنه يحبس دموعه ويتظاهر بالقوة: "ريما بدي ياكي تكوني ريما القوية، قوية حتى لو نزلتي تزوري غزة وما لقيتي حدا مننا."

كان قد مضى على مغادرتي قطاع غزة سنة وشهر وسبعة أيام. نعم أتذكر جيداً لحظة أدركتُ أنني سأعيش أول حرب على قطاع غزة وأنا بعيدة عن قصف الصواريخ الهمجية، والأشلاء المتناثرة هنا وهناك. لم أدرك أنها ستكون الحرب الأشد ضراوة، ولم أكن أعلم بأن تلك الصواريخ أخف وطأة من الهلوسات التي تراودني طوال ساعات الليل، وبأن تأنيب الضمير سيدمرني إلى هذا الحد، بسبب خوفي على عائلتي.

أتصل بصديقتي ويتملكني الخجل لتركي هذه المدينة العظيمة، كما أخجل من أن أسألها عن أحوالها. صدقاً عجزت كل كلمات اللغة العربية عن أن تسعفني في هذا الموقف. أقول لها: "أخبريني بالتفاصيل مهما تكن سخيفة، بدي برّد نار العجز جواتي." تخبرني بأنهم تركوا بيتهم، وكانوا قد شاهدوه في نشرات الأخبار مدمّراً بالكامل، وفروا إلى بيت أخيها في وسط مخيم جباليا لتمطر إسرائيل المنطقة بوابل من الصواريخ "العمياء" التي دمرت عشرات المنازل وقتلت الشعرات، بينهم زوجة خالها الحامل في الشهر التاسع، ولم يتم العثور على جثمانها حتى هذه اللحظة. أتساءل: هل يمكن أن يولد طفل تحت ركام هذا الدمار؟ هل يعقل أن يستقبل طفل هذه الحياة بالموت؟! أتخيل خالها الذي يبحث عن أفراد عائلته في مستشفيات القطاع ويدون على ورقة: هذا شهيد وذاك جريح وتلك مفقودة! هم ليسوا أرقاماً. أطلب منها أن تستفيض بالحديث، فهذا أقل ما يمكنني تقديمه.

لم يسبق أن شاهدتُ أقرب صديقاتي بهذا الضعف. يتمزق قلبي حين تخبرني: "تبهدلنا يا ريما، ادعيلنا"، وتخذلني دموعي في كل مرة أتظاهر فيها بالقوة بعد الكم الهائل من الويلات التي تطرق أذني. تصف صديقتي فرارهم إلى الجنوب، بناء على طلب حكومة الاحتلال الإسرائيلية منهم، بأنه شبيه بأهوال يوم القيامة؛ استقلوا الحافلة التي نقلتهم إلى مدارس الأونروا، ولمّا وصلوا لم يجدوا أدنى مقومات الحياة، حتى إنهم ينتظرون ساعات طويلة للحصول على بضع أرغفة من الخبز، هذا إذا حالفهم الحظ في الحصول عليها. تخبرني عن ليالٍ كاملة نامت فيها على الكرسي لعدم وجود فرش للنوم، كذلك تخبرني بأنها كانت تتوضأ بالمحارم المبللة، وتقول: "لم يكن هناك مياه للشرب، وإن وجدت أمسك نفسي عن الشرب كي لا أضطر إلى استخدام الحمام، ذلك بأن عليّ أن أنتظر ساعات طويلة كي أتمكن من الدخول."

يقطن أهلي في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، لم تؤثر فيهم تحذيرات العدو بالنزوح إلى الجنوب. تخبرني أمي: "كيف سأترك بيتي وأقاربنا الهاربون محتمون لدينا؟ كيف سأتركه وأعيد خطأ أجدادك حين فروا هاربين في نكبة 1948؟" أتحدث إلى والدي الذي يكرر على مسمعي الحديث ذاته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إخوتي. أقول لهم: "أخجل من أن أملي عليكم ما تفعلون، أنا معكم بقلبي ودعواتي، فقط كونوا بخير، كونوا مع بعضكم البعض حتى لو أخذتم قرار الفرار إلى الجنوب." وأستمر بالدعاء لهم لقلة حيلتي.

الساعة الثانية عشرة ظهراً، وخلال مكالمة مع ماما، لم أعد أتذكر ما كانت تخبرني به حين قطع حديثنا صوت صاروخ 16F - أُدرك صوته تماماً من خلال خبرتي وذاكرتي في الحروب السابقة التي عشتها في غزة - وانقطع الاتصال مع عائلتي حتى نهاية اليوم. كان قد قُصف بيت الجيران الذي تحطم على ساكنيه. تحدثني نور أختي: "قصفوا دار علاء بدون تحذير"، وهو البيت الملاصق لبيت أسرتي كما هي حال بيوت المخيم كافة. أطلب منها أن تخبرني ماذا جرى بالتفصيل، فقد كنت مذعورة من هول المشهد، وأسترجع في ذاكرتي عدد أفراد العائلة هناك: "صرلهم 6 ساعات ما قادرين يطالعوا ولا جثة، طالعوا بس رجل وإيد مشتبهين إنها تكون لزوجة علاء." اقشعر بدني، ولم أجد إجابات عن الأسئلة؛ ما هذه الصواريخ التي يقصفون بها ليكون الدمار بهذا الحجم؟ بقيتُ أحاول الاتصال بوالدي لعل هناك ما يخبرني به، حتى أجابني، وكانت الساعة التاسعة مساء، قائلاً: "استشهدت زوجة محمد، وأطفاله الأربعة، ووالدته، وأخوه حمزة وزوجته، وأخوه رأفت وزوجته وطفله، وأخواته غيداء وهيفاء وضياء، ورجال الإنقاذ تعبوا كتير ولسه ضايل جثة غيداء ما قادرين يطالعوها"؛ كيف سيتحمل محمد ووالده –الناجيان الوحيدان من العائلة- هذه المصيبة؟! كيف؟!

يقول لي جاد، ابن أختي، الذي لم يتجاوز عمره الأربع سنوات: "ما تبكي يا ريما أنا مش خايف من القصف لأنو بدنا نروح عالجنة زي عمو يلي مات." أنهار أنا من البكاء، وأتساءل كيف لطفل بهذا العمر أن يتحدث عن الموت، وعن القصف، وعن الجنة؟ كيف لهم أن يكونوا بهذه القوة كي يتمكنوا من مساندتي، بينما يجب أن يحصل العكس؟

أخجل من سؤال أمي، التي تحاول خلال حديثها معي التخفيف من حدة الموقف متظاهرة بأنهم بخير: "شو تغديتي يا ماما؟ كيف كانت جامعتك اليوم؟" أخبرها بأن حديثها هذا يشعل في داخلي لهيب الشعور بالذنب أكثر، وأرجوها بأن تسرد لي أحوال بقية أفراد العائلة والجيران: "كيف حال لمى ابنة عمي، هذه الطفلة المريضة بالفشل الكلوي؟ كيف تتمكن من الغسيل ثلاث مرات في الأسبوع في ظل هذا الوضع المأسوي؟" تصيبني الدهشة حين تخبرني: "بتغسلها حنين أختها الكبيرة بمواد وحقن بدائية، يعني إذا ما ماتت من القصف رح تموت من سوء الرعاية الصحية"! تخاف أمي أن تخبرني بأن أدوية جوري، ابنة أختي، على وشك النفاد، علماً بأن انقطاع هذا الدواء يسبب الشلل، لكنني أعلم وأشعر بأدق التفاصيل التي يواجهها كل فرد من أفراد أسرتي، لأنني تركت قلبي معلقاً هناك في غزة حين قدمتُ إلى لبنان.

في صباح السادس عشر من الشهر الجاري أخبرني تامر، أخي الكبير، بأن والدي قرر النزوح إلى الجنوب. يرفض تامر هذه الفكرة الشنيعة، لكنه لن يبقى بعيداً عن حضن العائلة؛ فالقصف في الشمال عشوائي، والبيوت التي سلمت من القصف لم تسلم من قنابل الغاز، وبالتالي لم يعد الوضع يحتمل.

اليوم الخميس هو اليوم الرابع الذي تمضيه أسرتي في كلية تابعة لوكالة "الأونروا" بعد أن نزحت إلى الجنوب؛ اعتقدتُ لأول وهلة بأنهم سيوفرون لهم غرفاً داخل الكلية، إلى أن علمت أن بابا نصب خيماً غير مسقوفة من أغطية السرير والبطانيات لتأويهم وقت النوم، وهي لا تقي لا من برد ولا من حر. أمّا عن قوت يومهم، فهم بالكاد يجدون بقالة فيها بعض المعلبات وزجاجة ماء، وهي لا تكفيهم لكن لا خيار لديهم!

أطلب من أخي الأصغر أن يطلعني على تفاصيل حياتهم اليومية؛ عن مشاعرهم وعن كل شيء، فيقول: "بتعرفي يا ريما وزني نزل 6 كيلو في أقل من أسبوعين، بناكل وجبة باليوم، لأن ما في أكل يكفي، وأصلاً أحسن مشان ما نضطر نفوت الحمام لأن بدك توقفي طابور ساعات. بيس اكتأبت وماتت (بيس هي قطة عائلتي)، ما تقلقي عملتلها كفن ودفنتها. بستغل كل لحظة يوقف القصف وبنام. بصحا من النوم، بنتظر حتى ييجي الليل وأنام، مابعرف شو أعمل، كل النهار ما في دراسة، ما في إنترنت، ما في نادي ألعب كورة، مكسور ظهرنا، رجعنا لحياة بدائية بشكل مش معقول، بتعرفي أصلاً إني مشيت تحت القصف ما يزيد على 45 دقيقة، حتى لاقي إنترنت، وإحكيكي، بعرف إنو الوقت كتير متأخر الساعة وحدة بالليل، بس بعرف إنك ما بتقدري تنامي، وبعرف قديش قلبك محروق علينا."

آآآخ ياحبيبي ياريتني بس معكم بس.

عن المؤلف: 

ريما صالح: متدربة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت