على مدار أيام، يكاد هاتفي ينفجر جرّاء عدد الاتصالات من أقارب ومعارف وأصدقاء، يطلبون مني أسماء الشهداء الذين سقطوا بفعل دويّ الانفجار الذي وقع بالقرب منهم. بسبب انقطاع الإنترنت عن قطاع غزة، وبقاء خاصية الاتصال كوسيلة وحيدة للوصول إلى المعلومة الضيقة أو الخاصة. وبسبب عدم القدرة على الخروج من المنازل في ظل القصف العشوائي والمكثف، يحاول المذكورون سابقاً معرفة ما حلّ بمعارفهم وأقاربهم من خلال الذين ما زالوا يتمتعون بـ" نعمة الإنترنت" في الشق الثاني من الوطن! إنها مفارقة غريبة تحمل في طياتها الكثير من المشاعر والارتباطات العاطفية والإنسانية لهؤلاء المحاصَرين بالصواريخ الثقيلة، ومحمّلة بكمّ هائل من التضامن مع الذين سقط عليهم الصاروخ الذي لم يُصب هذه المرة المتصلين.
في يوم السابع من أكتوبر، استفاق العالم على ضربة غير مسبوقة للاحتلال، على الأقل هكذا يصف قادة الاحتلال ما جرى. مئات المقاتلين الفلسطينيين يجتازون السلك الفاصل المزوّد بأحدث المعدات التكنولوجية العسكرية والتجسسية الإسرائيلية، ويسيطرون في غضون ساعات على معسكرات ومستوطنات فيما يُعرف بـ"غلاف غزة"، وهي المنطقة الواقعة على بُعد 7 كلم عن الحدود الشرقية لقطاع غزة. شكلت هذه السيطرة السريعة المباغتة ضربة إلى هيبة العسكري الإسرائيلي والتكنولوجيا الأمنية والسردية الأمنية الإسرائيلية التي تحاول منذ بداية الاحتلال خلق تصوُّر عن مكونات المؤسسة الأمنية، يغذي الردع لدى العدو والأمن لدى الجمهور.
لقد كانت النتيجة الأولى المباشرة لدولة الاحتلال ومجتمعها ومؤسستها الأمنية الصدمة. وبالتزامن مع محاولاتها استعادة احتلال منطقة "غلاف غزة"، بدأت بعدوان جديد استهدف المدنيين بشكل أساسي، وتمثل بقصف عشوائي لأحياء بأكملها في مدن وبلدات قطاع غزة. وفي محاولة لتشريع ما تقوم به، مستغلةً التعاطف - الانحياز - الدولي، ادّعت دولة الاحتلال أن المدنيين في غزة كانوا جزءاً من الحدث، ووصفهم متحدثون إسرائيليون، بينهم وزير الجيش يوآف غالانت، بـ"الحيوانات البشرية". لكن تبنّي هذه الفرضية بأن ما يجري عملية انتقام، قد يكون كافياً لتفسير هذا العدوان الواسع، لأن المتتبع للتصريحات الإسرائيلية خلال السنوات الماضية، من بينها تصريح رئيس أركان جيش الاحتلال السابق أفيف كوخافي، يجد أن الاستهداف الواسع للمدنيين والبنية التحتية هو جزء مهم من استراتيجية إسرائيلية في مواجهة المقاومة في فلسطين، وحتى في لبنان.
وكعادتها، تتعامل دولة الاحتلال مع نزوح السكان كإحدى أدوات القهر والقمع والضبط، وقد عمدت إلى تفعيلها على نطاق واسع في هذا العدوان. فإعلان جيش الاحتلال عن زمان ومكان وخريطة النزوح، عبر المناشير والمنشورات على مواقعه ومنصاته، هو عملية ضبط لمكان وزمان الفلسطيني من خلال آلة الحرب الإسرائيلية. عدا عن كونه ضبطاً مركباً، حيث ينزح الفلسطيني في عملية تبدو كأنها بإرادته، أو لحمايته، بينما في الحقيقة، هي جريمة يمارسها الاحتلال بحقه، لكنه يريد له أن يفعّلها بنفسه، تماماً كما في "الهدم الذاتي" في القدس، وهو قسريّ في حقيقته، ذاتيّ في تعريفه السطحي. إلى جانب ذلك، تحاول دولة الاحتلال الاستفادة من هذه الجريمة في البروباغاندا التي تقودها، وهدفها أنسنة النزوح، فقد ظهر الناطق باسم جيش الاحتلال، وهو يشرح للمراسلين الأجانب عن خط النزوح وخريطته، مغرقاً إياهم بالتفاصيل الهندسية، متجاهلاً وإياهم التفاصيل الإنسانية، والمبدأ العام. لقد استهدفت عمليات التهجير حتى الآن ما يقارب 1.1 مليون فلسطيني، طُلب منهم مغادرة منازلهم ومناطقهم في أقل من 24 ساعة إلى مناطق جنوبي قطاع غزة.
وفي التفاصيل الحقيقية للمشهد، تفيد الشهادات بأن الرعب هو سيد الموقف، وخاصة في ساعات الليل المتأخرة، في ظل اضطرار سكان غزة إلى النزوح والتنقل من منطقة إلى أُخرى تحت سماء ملبدة بالطيران الحربي الذي يقصف كل ما هو متحرك، بفعل البلاغات الكاذبة عن إخلاء المناطق، تمهيداً للقصف، وكذلك القصف العنيف والشرس الذي خلّف مشاهد مروعة للأطفال والنساء والشيوخ المتناثري الأشلاء، الأمر الذي جعل عائلات بأكملها تنزح إلى مراكز الإيواء "التي جرى قصفها أيضاً"، والبعض لم يكن يملك خيار النزوح والخروج من المنزل بفعل غزارة القصف المكثف العنيف الذي كان يستهدف أيضاً الطرقات العامة والشوارع، وقد شكلت هذه التجارب الليلية حالة من الصدمة والفزع التي بدأت تظهر على وجوه الغزيين الذين نزحوا إلى جنوبي قطاع غزة.
هذه الحرب لم تكن الأولى التي تُفرض على سكان غزة، وقد لا تكون الأخيرة، لكن هذا السياق من العنف المكثف الممارَس بحقهم بنفس الأدوات، مع اختلاف الوتيرة، جعلهم يتشاركون ما يكفي من تجارب عززت لديهم وعياً وبناء نفسياً منحهم امتيازاً جديداً لفلسطينيتهم، يمكّنهم من إعادة تشكيل ذواتهم كفواعل اجتماعية تمارس دورها وحقها الطبيعي في مواجهة المستعمِر في خضم الحرب والحصار، إذ رفضت أغلبيتهم الانصياع إلى توجيهات المستعمِر وأدواته، واختارت البقاء في المنازل وعدم النزوح إلى مناطق جنوبي غزة، على الرغم من أنه خيار محمّل بكثير من الموت؛ والذين نزحوا، أغلبيتهم ممن تهدمت بيوتهم بفعل القصف.
في هذا الجو الذي يلخصه معنى واحد هو الموت، بدأت تخرج سرديات الصمود من جديد من كل حيّز وبقعة في مدينة غزة بأشكال متعددة، لكن أبرزها كان انتشار الدعوات إلى فتح منازل المواطنين للنازحين من الأقارب والأصدقاء، والمفارقة هنا أن هؤلاء المواطنين تواجدوا في مناطق تعرّضت للقصف الشرس والعنيف، وليس للأحزمة النارية المتواصلة والبراميل المتفجرة، الأمر الذي خلق حالة قد تبدو متناقضة في تفاصيلها، لكن تناقضاتها هذه تؤطّر لمعنى التضامن الاجتماعي والصمود في خصوصية مدينة غزة. وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ ومرّ بها الفلسطينيون في غزة بفعل الحساب، فإنهم يتشاركون فيما لديهم في البيوت التي لجأوا لها، فتكلفة استقبال شخص جديد داخل البيوت الفقيرة والمهترئة هي بمثابة تحدٍّ كبير، لكن بعض البيوت في غزة الآن تضم أعداداً كبيرة تفوق الـ 100 شخص في أحيان كثيرة.
في اتصال مع صديقة لي في غزة، أخبرتني أنها اضطرت، هي وعائلتها، إلى النزوح إلى منطقة دير البلح في الوسطى عند أحد أقارب والدتها ليتواجدوا مع ما يزيد عن 150 شخصاً في حيز مكاني لا يزيد عن 120 متراً، وفي تفاصيل الحديث، قالت إن أكثر من عشرة أشخاص تشاركوا فراشاً واحداً، يتبادلون النوم عليه في الوقت نفسه، أفقياً وعامودياً، وكذلك التناوب على مرحاض واحد طوال اليوم، وترشيد استهلاك المياه، المقطوعة أصلاً، إلى الحد فوق الضروري جداً.
لكن لم تخلُ التفاصيل الضاغطة من المواقف المضحكة ولحظات المشاركة بين الجميع، التي هوّنت وطأة المشاهد القاسية ورائحة الفوسفور الأبيض. في اتصال آخر مع زميلة نزحت إلى مناطق وسط غزة، أشارت إلى أن أغلبية النازحين يتحينون الفرصة المناسبة - التي قد تتحول إلى غير مناسبة في بعض الأحيان، فقد تحتمل الموت - للعودة إلى منازلهم لجلب بعض ما تبقى من الطعام والخبز والمياه ومشاركته مع الجميع. كما أن سرديات الصمود لم تقتصر على ما بين جدران المنازل، بل خرجت إلى الشوارع بالمبادرات الاجتماعية والشبابية التي سعت لتقديم وجبات الطعام المطهو في الشارع بشكل جماعي بين أبناء الحيّ وتقديمها للنازحين في المدارس، وكذلك تقديم الألبسة وكل ما يمكن تقديمه من مستلزمات صحية وشخصية للنازحين.
في كل بيت وعائلة ألم ومعاناة كبيرة تكفي لأجيال قادمة، لكنهم حملوا بداخلهم هذه المحن، وصنعوا منها قصة مقاومة جديدة لهذه المدينة العنيدة على مرّ التاريخ، لمواجهة منظومة استعمارية، وافق كل العالم على سفكها دماء أهالي غزة، ووقف موقف الداعم والمؤيد أمام هذه المشاهد المأساوية التي مثّلت الوجه الأكثر بشاعةً للصراع مع الاستعمار، وتذكيرنا بوجهه ونياته الحقيقية بإبقاء الأرض الفارغة وإزالة الآخر تماماً، من خلال إبادته ومحوه، ومحو كل ما يدلل على وجوده وثقافته وهويته.