منذ أن بدأت وسائل الإعلام تنقل تفاصيل عملية "طوفان الأقصى" التي نفذها مقاتلو "كتائب الشهيد عز الدين القسام" (الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس") في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وما تلاها من عدوان دموي ومدمر على قطاع غزة (عملية "السيوف الحديدية" الإسرائيلية)، بدأ السؤال يُطرح عن احتمال مشاركة حزب الله في هذه الحرب، على مبدأ أن الحزب والحركة معاً في محور المقاومة، وكون عملية "حماس" كشفت ضعفاً غير متوقع لدى القوات البرية الإسرائيلية، وخصوصاً أن 1200 مقاتل من "حماس" تمكنوا خلال أقل من 3 ساعات من القضاء على القوة العسكرية الإسرائيلية المكلفة بالاعتداء على قطاع غزة وحماية مستوطنات الغلاف، وفق تصريح نائب رئيس المكتب السياسي لـ "حماس" صالح العاروري لقناة "الجزيرة".
يحاول تقدير الموقف هذا سبر غور ما يمكن أن يقدم عليه حزب الله في سياق معركة غزة؛ من أين؟ وكيف؟ في حال كان القرار دخول المعركة، ولماذا؟ في حال كان القرار عدم التورط فيها، وذلك من خلال معلومات خاصة ومنشورة في وسائل الإعلام، والسعي لتحليلها والخروج بسيناريوهات محددة.
أ – تحركات حزب الله الميدانية
منذ اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى"، سُجلت 5 أنواع من التحركات الأمنية والنشاطات العسكرية لحزب الله، والتي تحمل في طياتها الدلالات التالية:
1 – استنفار عناصر حزب الله في الجنوب والطلب إليهم البقاء على أهبة الاستعداد والجهوزية.
2 – تحريك قوات مقاتلة من النخبة في سورية، بالإضافة إلى تحركات مماثلة للواء "فاطميون"، وهي ميليشيا عناصرها أفغانيون تدربهم وتمولهم إيران.
3 – سحب حزب الله عناصره الأمنية المدربة والمتفرغة من قواعده المعروفة عند خط الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، تحسباً لاحتمال استهدافها من جانب إسرائيل.
4 – خوض حزب الله مناوشات مدروسة وفق قواعد الاشتباك المعمول بها، بحسب التفاهم الذي أرساه رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري بعد عدوان "عناقيد الغضب" سنة 1996، والتي تم تأكيدها والعمل بها بعد "حرب تموز" (كما يطلق عليها اللبنانيون)، أو "حرب لبنان الثانية" (كما تسميها إسرائيل) في سنة 2006، وبموجبها يكون الفعل وردة الفعل متوازيين: قذيفة في مقابل قذيفة، وضحية في مقابل ضحية، من دون الانجرار إلى حرب جديدة، أو معركة كبيرة.
ولفت مراقبون إلى أن المناوشات التي خاضها حزب الله، حتى كتابة هذه المقالة، تركزت في منطقتين: منطقة الضهيرة ومروحين ويارين في القطاع الغربي، ومنطقة شبعا ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا في القطاع الشرقي؛ المنطقة الأولى تقع عند الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة كخط حدودي غير مُرسّم بعد حرب 2006، والثانية خارج حدود الخط الأزرق.
5 – محاولات توغل داخل فلسطين المحتلة انطلاقاً من القطاع الغربي؛ فقد أعلنت حركتا "حماس" والجهاد الإسلامي مسؤوليتهما عنها، وهي نشاطات أمنية يُستبعد أن تحدث من دون تسهيل ودعم لوجستي من حزب الله.
ب – حراكات دولية وإقليمية مؤثرة
على المستوى الإقليمي والدولي يمكن تسجيل تحركات ميدانية، وحراك دبلوماسي، وتصريحات ذات دلالة توحي بما يمكن أن يكون عليه الوضع في حال قرر الجيش الإسرائيلي الدخول براً إلى غزة، أو في حال الإبقاء على القصف التدميري والحصار التجويعي للقطاع:
1 – لقد بادرت الولايات المتحدة فور تبلغها بعملية "طوفان الأقصى" إلى تحرك متعدد الأوجه: دبلوماسي تمثل في وصول وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى إسرائيل، وقيامه بجولة مكوكية في المنطقة دعماً للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وإجهاض مشروع قرار روسي في مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف المعارك وإدخال مساعدات إنسانية إلى القطاع؛ سياسي من خلال دعم الولايات المتحدة الموقف الإسرائيلي، بدءاً بالرئيس جو بايدن الذي قرر أن يصل إلى إسرائيل عبر الأردن (لضرورات أمنية) في زيارة دعم صريحة لكن حماّلة أوجه أيضاً، وصولاً إلى أصغر موظف في إدارته، وتهديد إيران وحزب الله من مغبة القيام بأي تحرك لفتح جبهة جديدة ضد إسرائيل؛ عسكري من خلال المباشرة بإرسال تجهيزات عسكرية إلى إسرائيل من مستودعات الجيش الأميركي في المنطقة، ومن مستودعاته خارج المنطقة، والتي من المفترض أنها كانت مخصصة للحرب في أوكرانيا، وإرسال حاملتي طائرات، واحدة منهما هي الأكبر لدى الولايات المتحدة؛ دعائي وإعلامي من خلال تبني البروباغاندا الإسرائيلية المضللة، إلى درجة انزلاق الرئيس بايدن نحو تأكيد رؤية مجازر ادعتها إسرائيل جرت في مستعمرات غلاف غزة، من قطع للرؤوس وحرق للأحياء، أطفالاً ونساءً وكباراً في السن، من دون أن يكلف نفسه التأكد من مثل هذه الادعاءات التي تراجع عنها البيت الأبيض بعد تصريح بايدن، لكن وزير الخارجية بلينكن، ومنسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي، وغيره من المسؤولين، واصلوا تكرار الكذبة الإسرائيلية، وهو الأمر الذي تبنته معظم وسائل الإعلام الأميركية، وأيضاً من دون تدقيق.
2 – لم تخرج سلطات الدول الأوروبية عن المسار الأميركي / الإسرائيلي، من خلال تبنيها الكامل للادعاءات الإسرائيلية، وتقليد الولايات المتحدة في كل ما ذُكر أعلاه، دبلوماسياً وعسكرياً وسياسياً وإعلامياً، إلى حد قمع البوليس الفرنسي تظاهرة في العاصمة باريس منددة بالمجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وتحريك بريطانيا سفنها في البحر الأبيض المتوسط دعماً لإسرائيل، وتكرار التحذيرات لإيران وحزب الله من مغبة مؤازرة غزة عبر فتح جبهة جديدة من لبنان أو من سورية.
3 – استدعت التصريحات العلنية الإسرائيلية المدعومة من الإدارة الأميركية بتهجير سكان قطاع غزة إلى صحراء سيناء موقفاً علنياً رافضاً من مصر، التي استشعرت خطر استقبال أكثر من مليوني فلسطيني على أراضيها، ورفضت المغريات المادية التي قدمتها واشنطن لها، كما استدعت موقفاً مماثلاً من الأردن الذي يخشى، إذا ما تم تهجير الغزيين إلى سيناء، أن يتم تهجير فلسطينيي الـ 48 والضفة الغربية إلى الأردن، وفق مخططات الترانسفير التي يريد تنفيذها غلاة اليمين، وخصوصاً اليمين الصهيوني الديني المتطرف الممسك بحكومة بنيامين نتنياهو، وهو أمر يُقوض السلطات الحاكمة في الدولتين العربيتين. وإلى الموقفين المصري والأردني، برز الموقف السعودي الرافض أيضاً والمتضامن مع عمّان والقاهرة، ومعهم السلطة الفلسطينية، ليتشكل محور (موقت على الأغلب) يُفرمل الاندفاعة الأميركية المطالبة بدعم عربي لمخطط تل أبيب/ واشنطن التهجيري بذريعة القضاء على "حماس" التي وُصمت من جانب الطرفين بـ "الداعشية".
4 – تحركت تركيا أيضاً، كقوة إقليمية، بدبلوماسية هادئة، ما جعلها أقرب إلى محور القاهرة – عمّان – الرياض - رام الله (الموقت)، علماً بأن اتصالات مباشرة ومهمة جرت بين الرئاسة التركية وكل دول هذا المحور الموقت، جعلت من أنقرة جزءاً من هذا المحور.
5 – بالتوازي مع الهجمة الدبلوماسية الأميركية / الأوروبية الداعمة بالمطلق لإسرائيل، والمتبنية جميع مواقفها، جال وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان في بعض الدول العربية انطلاقاً من بيروت التي وصلها بعدما تعذر وصوله إلى دمشق بسبب قصف إسرائيل مطاري دمشق وحلب وإخراجهما من الخدمة، وبينما كانت تصريحاته في البداية تدعو بهدوء إلى التوقف عن تدمير غزة، فإن تصريحه يوم 16/10/2023 الذي نقلته وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، بدا حازماً، إذ أعلن أن "محور المقاومة" سوف يتحرك خلال ساعات وفقاً للتطورات في قطاع غزة.
6 – برز أيضاً الموقف الروسي الداعي إلى وقف المقتلة في غزة، وهو الأقرب إلى الموقف الفلسطيني، والمنتقد للتحركات الأميركية، مع العلم أن موسكو استفادت مما يجري في المنطقة في حربها في أوكرانيا. وكذلك لم يكن الموقف الصيني الهادئ بعيداً عن المطالبة بعدم جر المنطقة إلى حرب ضروس.
دلالات وخلاصات
ما يمكن أن يُستنتج من كل هذه المؤشرات، أن حزب الله يعمل، حتى كتابة هذا النص، على استراتيجية دفاعية تُظهرها تحركاته الميدانية؛ إن عبر دعوة احتياطه إلى التوجه إلى قراهم والبقاء فيها على جهوزية، وسحب عناصره الأمنية المتفرغة من قواعد حدودية مواجهة، أو عبر اختيار بقعتين جغرافيتين محددتين لنشاطاته العسكرية.
يشعر حزب الله بالضغط النفسي والمعنوي إزاء عدم استغلاله فرصة الانكسار الذي أصاب إسرائيل بداية عملية "طوفان الأقصى"، لكن الظروف المحلية المتصلة بالبيئة اللبنانية غير المحبذة لدخول الحزب في عملية هجومية، وتفضيل البقاء على الجهوزية الدفاعية، ناهيك بالحشد العسكري الدولي في البحر المتوسط الداعم لإسرائيل والوجود القديم الأميركي في منطقة الخليج اللذين يهددان إيران ولبنان بتدخل مباشر، بالإضافة إلى الرد العنيف الإسرائيلي، كلها أمور ستعني تدمير لبنان وإلحاق ضرر كبير بإيران، وبالتالي فإن حزب الله مضطر إلى أن ينحني قليلاً أمام العاصفة. لكن حزب الله وإيران وضعا خطين أحمرين لعدم توسيع معركة غزة جغرافياً، هما: التوغل البري في غزة وتهجير أهلها، وكسر المقاومة، ولا سيما حركة "حماس"، وهو أمر يقول مصدر من "حماس" أن الحركة تفهمه، وهي على تنسيق تام مع الحزب بشأن جميع التطورات.
أمّا إذا تم تجاوز الخطين الأحمرين المشار إليهما، فسيدخل حزب الله في المعركة، وبالتالي ستدخل إيران في الحرب، لأن هزيمة ماحقة لـ "حماس" في غزة سوف تعني انهيار منظومة "محور المقاومة" الذي عملت إيران أعواماً على بنائه.
والمتوقع وفق هذا السيناريو أن تتسع جغرافيا المعركة من لبنان إلى سورية، كبقعتين للهجوم المباشر على فلسطين المحتلة والجولان المحتل، بإسناد طبعاً من إيران والميليشيات العراقية الممولة إيرانياً، والتي تملك صواريخ بعيدة المدى، وكذلك من الحوثيين في اليمن.
وإذا ما اتسع النطاق الجغرافي للحرب الإسرائيلية/ الغربية ضد الفلسطينيين، قد يعمد حزب الله، وفقاً لتحركاته الميدانية، إلى فتح المعركة مع إسرائيل من مزارع شبعا، ومن الجبهة السورية المقابلة للجولان المحتل، بحيث يمكن وصل الجبهتين، مع عدم استبعاد محاولة اقتحام الخط الأزرق من القطاع الغربي في جنوب لبنان، بالتوازي مع تفعيل القدرات الصاروخية الهائلة.
إن سيناريو كهذا سيكون مدمراً لإيران وحزب الله وللمنطقة برمتها، وحتى إسرائيل لن تكون بمنأى عن هذا الخراب، وكذلك الوجود العسكري الأميركي والغربي في المنطقة، والدول حيث يتموضع هذا الوجود، الأمر الذي قد يدفع الجميع إلى العمل على تلافي الوصول إلى هذه النقطة، وبالتالي إيقاف العدوان على غزة عند مبدأ ربح لـ "حماس" ومن خلفها، ولإسرائيل ومن يدعمها، أو على الأقل خسارة لـ "حماس" وإسرائيل. كما أن زيارة بايدن إلى إسرائيل، بالإضافة إلى كونها تحمل في طياتها دعماً صريحاً لتل أبيب، وإلى جانب أنها حمّالة أوجه أيضاً، كما سبق أن أشارت هذه المقالة، قد تكون بمثابة مسعى أميركي لإنزال إسرائيل عن الشجرة بعدما صعدت إلى أقصى حد ممكن. في كل الأحوال فإن الساعات القادمة كفيلة بتبيان المسار: سواء أكان نحو التدمير أم نحو التهدئة وفق المعادلة المقترحة في تقدير الموقف هذا.