تؤدي الجماهير دوراً أكثر فعالية، في تعاطيها مع الأحداث الكبرى في التاريخ، بصفتها تمثل بنية متحررة من إكراهات السياسة وتوازنات السياسيين. فللجماهير انحيازاتها الخاصة، وأولوياتها التي تتحدد وفق عوامل مغايرة للغة المصالح السياسية، يؤدي فيها التاريخ، وعناصر الجغرافيا، ومنطلقات الوعي الثقافي التراكمي، الدور الرئيسي في توجيه بوصلتها، وتراتبية أولوياتها، ومن ثم فهي تعبر عن المواقف التاريخية الموازية للسياسة، لكنها ربما تكون الأكثر صدقاً وموضوعية في سياقها.
إن ما يحدث على صعيد الشارع المصري من حراك، بالتزامن مع المجزرة الصهيونية في قطاع غزة، هو خير تعبير عن هذا التكيف البنائي بين البعد التاريخي للصراع، ودوافع المزاج الشعبي وقدرته على قراءة الأحداث، وفق معاييره الخاصة لمفاهيم العدالة والحق في المقاومة والتحرر.
تأتي أحداث العدوان الجاري الآن على قطاع غزة في ظل ظروف اقتصادية صعبة تمر بها مصر، وفي ظل راهن سياسي متعثر تلوح في أفقه كل عناصر الارتباك، في سياق واقع إقليمي شديد التعقيد، الأمر الذي اعتقد معه البعض إمكان تواري الانحيازات القومية ذات البعد العروبي لمصلحة خطابات أُخرى وطنية النزعة وذاتية التمثلات.
وعلى الرغم من هذا كله، فإن الشارع المصري لم يخف ابتهاجه بعملية طوفان الأقصى، التي جاءت بالتزامن مع احتفالات ذكرى انتصار أكتوبر 1973، الأمر الذي عزز روح الفخر والحماسة الوطنية، وسط حالة من الترقب لردة فعل العدو الصهيوني، وهذا ما انعكس على حالة الحدث والدعوة إلى ضرورة التضامن وفتح معبر رفح، قبيل الرد الإسرائيلي.
ومع تصاعد الأحداث، وإمعان آلة القتل الصهيونية في ممارسة كل صنوف الوحشية والتطهير العرقي، عبّر الشارع المصري عن غضبه، متجاوزاً كل خلافاته الأيديولوجية مع حركة "حماس"، حتى إنه حاصر التيار الذي حاول شيطنة المقاومة، بحيث بات الأخير عاجزاً عن ترديد مقولاته ليتوارى أمام صعود المد القومي، بعيداً عن تصورات الإسلام السياسي وطروحاته، فتصدر اليسار المصري المشهد في وقفة جماهيرية حاشدة أمام نقابة الصحافيين، بالتزامن مع أُخرى داخل أسوار الحرم الجامعي في الجامعة الأميركية في قلب القاهرة، وسرعان ما انفجر طوفان الغضب الشعبي في ساحة الجامع الأزهر، حيث شارك عشرات الآلاف من المصريين في تظاهرات حاشدة تصدرها التيار القومي والناصري وأفراد الشعب العادي، وامتدت إلى الإسكندرية وطنطا ومناطق أُخرى، تندد بممارسات العدو، وتدعم المقاومة وحقها المشروع في النضال بالطرق كافة.
تجاوزت حالة التضامن في الشارع المصري الحدث الانتخابي المقبل، وأهملت كل ما يواجهه المصريون من مصاعب اقتصادية، فلا صوت الآن يعلو فوق صوت غزة، إذ يمكن للمراقب أن يلحظ طوابير المصريين أمام بنوك الدم للتبرع للمصابين، كما دشن بنك الطعام المصري جسراً برياً إلى القطاع، وتراصت عشرات الشاحنات الضخمة محملة بأطنان المساعدات والتبرعات المستمرة على مدار الساعة.
وتسعى الحكومة المصرية، من جهتها، إلى التماهي مع الخطاب الشعبي بأقصى قدر ممكن، فسمحت بالتظاهر، ونظمت عملية جمع التبرعات، ويبدو أن النظام تفهم ضرورة احتواء مشاعر الغضب الشعبي، وتحقيق نوع من الاصطفاف الوطني خلف القيادة العسكرية التي تواجه هي الأُخرى تحديات كبيرة في ظل المخططات الصهيونية الرامية إلى إخلاء القطاع، وتصدير أزمتها إلى مصر.
وربما يؤدي التماهي الجاري بين الشعب والنظام إلى تحقيق انفراج في المجال العام، وبناء جسور الثقة من جديد بين المواطن ومؤسسات الدولة، والانطلاق خطوة نحو الانفتاح السياسي على المعارضة كخطوة لاحقة للحوار الوطني.
إن تفاعل الشعب المصري مع الحدث، بعيداً عن طروحات الإخوان المسلمين، وجماعات الإسلام السياسي، التي احتكرت عبر عقود توظيف القضية الفلسطينية والحديث باسمها، يعني أن الاجتماع نجح في صنع أدواته الخاصة، وتطوير آليات اشتغاله بالقضايا القومية، ليعبر عن انشغالاته وهمومه واهتماماته بمعزل عن السياسة ومناوراتها وأولويات أصحابها، ما يعني أن قضية فلسطين ما زالت تمثل الاهتمام الأول للجماهير المصرية، على الرغم من أزمات الواقع وارتهاناته.
ويمكن القول إن التحديات الكبرى، وإن كانت تؤثر في سيكولوجية الجماهير، لكنها لا تصنعها، بل على العكس، يمكن لسيكولوجية الجماهير، التي تتكون وتتشكل عبر جملة من المعطيات الخاصة على مدار التاريخ، أن تدفع في اتجاه تغيير دفة الأحداث الكبرى، وحتى صناعتها، من خلال إبراز معطيات جديدة، وتكوين استجابات فاعلة لما تواجهه من تحديات.