عمال غزة من الاضطهاد إلى التهديد الوجودي
التاريخ: 
16/10/2023

تحولت سرية رام الله إلى خلية نشاط وحركة في كل الاتجاهات، فما إن تدخل البوابة الخارجية، سرعان ما تجد عمالاً منتشرين داخل صالة كرة السلة المحتشدة بعشرات الفرش الموزعة على الأرض بانتظام، وإلى جانبها حقائب صغيرة وضع فيها العمال مستلزماتهم. إنهم عمال مكفهرة وجوههم ومتعبون نفسياً، يصلون تباعاً بعد طردهم من عملهم ودفعهم في مسار محفوف بالتهديد والمخاطر والرعب وجرائم شنيعة. أرى بعضاً منهم يقوم بإجراءات الاستقبال الإدارية، وآخرين يجيبون على أسئلة الصحافة، وشابات وشبان يأتون للتطوع، ويزاولون العمل في خدمة العمال المنكوبين، كالقيام بتقديم وجبات الطعام والمشروبات وشراء الحاجات وغير ذلك. كما أرى شركات ومؤسسات وأفراداً يقدمون الدعم، ولجاناً من البلدية والسرية تبحث في نقل العمال إلى فنادق وشقق واستضافات في اليوم الرابع، وقد جرى نقل 200 عامل إلى فنادق بحسب ما قال مسؤول في السرية.

 في اليوم الثاني لهجوم المقاومة على الكيبوتسات وثكنات جيش الاحتلال الذي يحاصر قطاع غزة، ألغت سلطات الاحتلال مرة واحدة، ومن دون سابق إنذار، كل تصاريح العمال الغزيين الـ17,000 وأزالتها عن شبكة الإنترنت، محولة وجودهم داخل إسرائيل إلى وجود غير شرعي، فأضحوا عرضة للاعتداء والعقاب والتهديد. كما جرى قتل أربعة عمال في أثناء عودتهم إلى القطاع بذريعة أنهم مقاتلون،[1]  وتعرض العشرات منهم لاعتداءات كالطرد المقرون بشتائم وضرب، والاعتقال، والإبعاد إلى نقاط العبور مع مدن الضفة الغربية، وبعضهم خسر أوراقه الثبوتية وحقائبه. حدث ذلك على الرغم من عدم وجود أي تهديد أمني من جانبهم، لأن شروط حصولهم على التصاريح، كما قال العمال في أحاديثهم هي: أن يكون العامل بلا سوابق وطنية ضد الاحتلال، أو كما قالوا "سجل أبيض"، وأن يكون متزوجاً ولديه أطفال، وألاّ يقل عمره عن 35 عاماً. ويلاحَظ أن نسبة العمال البالغين من العمر أقل من أربعين عاماً قليلة جداً، بينما يزداد عددهم في الفئات العمرية بين 35 - 60 عاماً، وقد حصل أحد العمال على تصريح وهو بعمر 64 عاماً. وبعضهم يعيل 15 شخصاً، وأقلهم يعيل 7 أشخاص.

فجأة، تحول حلم 17,000 عائلة من قطاع غزة إلى كابوس مخيف؛ تلك العائلات التي بدأت تلتقط أنفاسها من داخل حصار مزمن لا يرحم؛ ذلك الحصار الذي فاقم من نسبة البطالة لتصل إلى 65% داخل القطاع على امتداد سبعة عشر عاماً. لقد استطاعت هذه العينة من عمال غزة أن توفر لقمة الخبز وبعض ضرورات الحياة من عملهم المشروط والمقيد بأثقل القيود، لكن بعد هجوم المقاومة النوعي عبر الحدود، أعلنت سلطات الاحتلال إلغاء جميع تصاريح العمال، لتدخِلهم معاناة أشد هولاً من تلك السابقة المتأتية من البطالة.

جميع العمال الذين التقيتهم في سرية رام الله أكدوا عدم وجود عقود عمل مع أرباب العمل الإسرائيليين، وهو ما يساعد في استغلالهم؛ يقول أسامة، العامل في البناء، إنه اعتاد أن يقبض في نهاية كل شهر، وقد مضى عليه شهر ولم يقبض شيكلاً واحداً، ولا يعرف بعد أن طُرد من عمله إذا ما خسر أتعابه بصورة نهائية أم لا، بينما محمد، العامل في البناء أيضاً، له في ذمة صاحب العمل أجرة أسبوعين. إن العمال يعملون تحت بند "حاجات اقتصادية"، وهذا يعفي أرباب العمل من دفع استحقاقات العمال في حالة المرض وإصابات العمل وفقاً لقانون العمل الإسرائيلي الذي يطبق على العمال الإسرائيليين والعمالة الأجنبية، لكنه لا يطبق على العمال الفلسطينيين. وعلى عكس ذلك، يسمح عدم وجود عقود عمل بالتنكر لحق العمال في الحصول على أجرة عملهم.

قال عون، العامل من الضفة الغربية، الذي ارتضى رب العمل الإسرائيلي تشغيله في ورشة زراعية وهو يعلم أنه من دون تصريح، إنه بعد شهر، عندما ألقت الشرطة القبض عليه وأوسعته ضرباً وشتماً وجرى ترحيله خلف أحد الحواجز العسكرية، وخاطر بالعودة مرة أُخرى لاستلام مستحقاته من العمل، رفض رب العمل دفع أي شيء، وهدده بإبلاغ الشرطة. إنه الشيء نفسه يتكرر مع عمال غزة بعد "طوفان الأقصى"، الأمر الذي يشير إلى اضطهاد قصدي يمارسه نظام الأبارتهايد الاستعماري الإسرائيلي الذي يعمل على تحويل العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي إلى علاقة سيد وعبد، يتبدى هذا الاضطهاد في سيكولوجيا الاستلاب التي يعيشها العمال الفلسطينيون وهم يتحملون كل أشكال التضييق، بما في ذلك العمل خارج قانون العمل، من دون القدرة على الاعتراض. إنه اضطهاد مغطى بذريعة أنه يعطي العمال أجوراً تبلغ ضعفي ما يتقاضونه في القطاع والضفة، إذا ما سنحت لهم فرصة للعمل داخل قطاع غزة، ولا يرى هذا النظام غضاضة في إهانة وإذلال العمال الذين يستغرق ذهابهم إلى أماكن العمل وإخضاعهم للتفتيش والتدقيق ما يزيد على 4 ساعات في المتوسط اليومي، مع أن المسافة تستغرق أقل من نصف ساعة، وفي أقصى الحدود، ساعة بالسيارة. ومن مظاهر الاضطهاد أيضاً، اضطرار العمال إلى السكن بأعداد تفوق سعة المكان ليوفروا أجرة المواصلات، وعيشهم حياة متقشفة جداً بسبب الغلاء الفاحش للسكن والسلع داخل إسرائيل بالنسبة إلى أسعار قطاع غزة؛ إذ يدفع العامل الواحد 170 دولاراً شهرياً في مقابل حيز ضئيل ينام فيه، ويتشارك 15 عاملاً في وجبات طعام اقتصادية يصنعونها بأيديهم، وكل ذلك في سبيل توفير لقمة العيش لعائلاتهم، ليصدق التشبيه القائل إنها لقمة مغمسة بالعرق والتعب. 

 كذلك الأمر، سقط عامل البناء محمد عن السقالة في أثناء عمله في الورشة، وعالج إصابته من رضوض في يده وكتفه من حسابه الخاص، وذلك بعد أن رفض المشغل الإسرائيلي معالجته أو حتى تعويضه عن أيام غيابه عن العمل. كما تكرر استنكاف صاحب عمل آخر عن معالجة أسامة عندما أصيب في أثناء العمل في ورشة البناء، واضطر الأخير إلى مواصلة العمل على الرغم من آلام الإصابة. كان العاملان يخشيان خسارة فرصة العمل ولا يعبآن بآلام الإصابة ومضاعفاتها.

بالإضافة إلى تلك الحالات، نذكر أبو محمود وخليل، وهما يعملان في سوبر ماركت، فيقضيان ساعات عمل أطول من المقرر، ولا يستطيعان الاحتجاج خشية خسارتهما العمل وفرصة دعم عائلتيهما المكونتين من 10 أفراد و9 أفراد، أكثرهم من الأطفال، وتعانيان جرّاء شح الموارد.

أيضاً، كمال عامل في مزرعة دواجن، يعاني جرّاء تحسس متأتٍ من الرائحة التي يستنشقها لساعات طويلة، ولا يقوى على مجرد طلب كمامة للتخفيف من تأثير الحساسية التي تؤدي أحياناً إلى نوبات سعال، ويخشى أن يتسبب هذا له بالطرد. ويعود محملاً بالمشتريات إلى أسرته في عطلة نهاية الأسبوع، ويقول إن كل تعبه ومعاناته وألم معدته يزول وهو يرى أطفاله فرحين بعودته غانماً محملاً بالهدايا.

 ومن هذه الحالات أيضاً، عبد الله عامل دهانات، له أحفاد من ابنتيه المتزوجتين، ويبلغ من العمر 49 عاماً، ويعيل 15 شخصاً، بين زوجة وأبناء وأم وأب. وكان قبل الحصار يعمل في إسرائيل، وتمكن من البناء فوق منزل العائلة محققاً حاجته الماسة إلى سكن مستقل، وعندما عاد إلى العمل في إسرائيل قبل أشهر، فكر في حل السكن لابنه في سن الزواج، وبدأ خطواتٍ أولى، لكن اليوم، وبعد العدوان التدميري الذي يتعرض له قطاع غزة، تحول كل شيء إلى غم كما يقول عبد الله، والحزن بادٍ في عينيه وفي حشرجة صوته.

كل العمال الذين تحدثتُ إليهم، وغيرهم من الجالسين والمتحركين داخل السرية يتابعون الأخبار، ويقومون بالاتصال بذويهم ويتلقون أخباراً غير سارة، من موت وإصابات ودمار وتهجير وانتظار المجهول، وقد تحولت أهدافهم وأحلامهم بتجاوز الأزمة الاقتصادية الحادة إلى هدف نجاة عائلاتهم من الدمار الذي تصنعه الطائرات الحربية الإسرائيلية كل ساعة وكل دقيقة. لقد تحولت مشكلاتهم ومعاناتهم إلى قطرة في إعصار الحرب وأهوالها.

 

[1]  أنظر موقع الجزيرة الإلكتروني.

عن المؤلف: 

مهند عبد الحميد: كاتب وصحافي فلسطيني، رام الله.

A man picks up a Lebanese flag from the rubble after an Israeli airstrike on an apartment block, on October 3, 2024 in Beirut, Lebanon. (Photo by Carl Court/Getty Images)
مايا ك.
حسني صلاح، غزة، من موقع Pexabay
مجد ستوم