تسمع في هذه الأيام بعض الأصوات التي تقول إن حجم الخسائر التي تكبدها الاحتلال في عملية "طوفان الأقصى"، ومشاهد "إذلال" أسرى جيش العدو، هي الأسباب التي دفعت الاحتلال الإسرائيلي إلى هذه الوحشية، من دمار وقتل، التي يصبها على قطاع غزة. بيد أن الإجرام الصهيوني الحالي كان سيكون هو نفسه، حتى لو كان عدد القتلى الإسرائيليين أقل من ذلك بكثير.
ولا بد أن نتذكر هنا أن سيناريو سيطرة المقاومة على المستوطنات لطالما لوّح به حزب الله اللبناني، وكان الاحتلال يأخذ هذا السيناريو على محمل الجد، ويجري مناورات استعداداً له. والتصور كان أن حزب الله، بالاستناد إلى قوة "الرضوان" التابعة له، سيشن هجوماً مباغتاً في الجليل، ويستولي على عدة مستوطنات من عدة محاور، ثم يتحصن مقاوموه فيها محتفظين بالمستوطنين كرهائن حتى يحيّدوا سلاح الجو الإسرائيلي. كما كان للاحتلال تصورات للتعامل مع هذا المخطط، أهمها إخلاء مستوطني الجليل بأسرع وقت كي يحرم حزب الله من نقطة قوته.[1]
الملاحظ في هذا السيناريو، أن الاحتلال كان سيفعل بلبنان ما يفعله بغزة الآن لو نفذ حزب الله سيناريو السيطرة على عدد من المستوطنات في الجليل. فقد صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، خلال مناورة الضربة الساحقة في حزيران/يونيو المنصرم، "أن حزب الله إذا اعتدى على إسرائيل، فإنها ستعيد لبنان إلى العصر الحجري"[2]. فكما هو واضح لا يتعلق الأمر بعدد قتلى الاحتلال، وإنما بجوهر عقيدة الاحتلال الأمنية، التي كان أحد تجلياتها "نهج الضاحية"، والذي هو سلوك دائم لدى الاحتلال، عبّر عنه غادي آيزنكوت عندما كان قائد الجبهة الشمالية في جيش الاحتلال، وسُمّي "نهج الضاحية" نسبة إلى الضاحية الجنوبية في بيروت التي نُفذ فيها هذا النهج خلال حرب تموز 2006، والذي يقوم على استخدام قوة غير متكافئة لإيقاع دمار وضرر بالغَين تجاه أي منطقة تُهاجَم منها إسرائيل.
ولا بد من الإشارة إلى أن كل من يعيش تحت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، يدرك أن نهج الضاحية هو سلوك يومي روتيني لدى الاحتلال، يمارسه على الأفراد المدنيين، لا ضد حركات المقاومة فحسب. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يلقي صبي حجراً على سيارة عسكرية مصفحة ومدرعة من دون أن يسبب لها أي ضرر، وربما لن يسمع جنود الاحتلال داخلها صوت وقع الحجر لأنها مصفحة من الداخل، لكن رد جنود الاحتلال قد يكون بكل بساطة إطلاق النار على هذا الصبي وقتله مباشرة. وفي حالة أُخرى، قد يعتقل جنود الاحتلال هذا الصبي لعدة أشهر أو سنوات، وبعد أن يخرج من السجن سيجد أن عقوبات تطارده، فيجد نفسه ممنوعاً من السفر، ومحروماً من الحصول على تصاريح الدخول إلى الداخل المحتل بكل أنواعها. ولا يتوقف الأمر عليه، فالعقوبات قد تطال عائلته أيضاً؛ فيحرم الاحتلال عائلته وأقاربه من التصاريح ومن مصادر رزقهم. وفي مثال آخر، عندما ينفذ أحد المقاومين عملية ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، والتي قد لا ينجم عنها أي إصابات في صفوف الاحتلال، فإن جنود الاحتلال بعد أن يقتلوا المقاوم، يقومون بسرقة جثمانه، ويصدر الحاكم العسكري قراراً بهدم منزله، ويُمنع أهله وربما أقرباءه من الحصول على التصاريح، ولا سيما تصاريح العمل.
وهذه مجرد أمثلة لما يجري يومياً على الأرض، ولا بد أن لدى كل من يعيش في ظل الاستعمار حكاية عن عنف استعماري مفرط كان ضحيته في يوم ما، سواء أكان مادياً أو رمزياً أو نفسياً. ولذلك يجب أن نظل مدركين أن عنف الاحتلال المفرط لا يتعلق بحجم الفعل المقاوم، وإنما بالرد على جوهر الفعل مهما يكن بسيطا.ً
رفع الغطاء عن الشعب الفلسطيني
عقب الصدمة التي تلقاها الاحتلال بدأ يروج لرواية بأنه يواجه "داعش"، ووصلت هذه الرواية إلى أن يصف وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت الفلسطينيين بالحيوانات البشرية.[3] غير أن الاحتلال بخطابه طوال تاريخه لم يكن لديه وصف أفضل للفلسطينيين ومقاومتهم، فحتى عندما قررت منظمة التحرير التوجه إلى خيار السلام، لم تعترف إسرائيل، ولا أميركا من ورائها، بأن الشعب الفلسطيني شعب مناضل كان يمارس الكفاح المسلح لاستعادة حقوقه الوطنية، وإنما اعتبرت أنها تتعامل مع مجموعة "إرهابيين تائبين"، بحسب صيغة الخطاب.
ومن يتابع الإعلام العبري، ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعي، ويلاحظ الخطاب الساري فيها، يجد أن معظم هذه الوسائل لا تصف الفلسطينيين إلاّ بـ"مخبليم"، أي "مخربين" أو "إرهابيين"، حتى عندما يُقتل الفلسطيني عن طريق الخطأ على يد قوات الاحتلال، أو عندما يكون في حالة دفاع عن نفسه ضد اعتداءات المستوطنين. وهذا التوصيف يشمل الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، فكل فلسطيني يقتله جيش الاحتلال ومستوطنوه هو بالضرورة "إرهابي"، بحسب الخطاب الإسرائيلي.
ومنذ أن ظهر تنظيم "داعش" بدأت إسرائيل بتشبيه الفلسطينيين به، فعقب الهجمات التي نفذها التنظيم في فرنسا سنة 2015 شارك سفير إسرائيل في فرنسا في وقفة عزاء مع الفرنسيين، وقال لهم أنه يتضامن معهم لأنه يدرك ما يواجهونه، لأن إسرائيل تواجه الأمر نفسه. وتحدث في هذا السياق عن "هبّة القدس" (السكاكين) التي كانت تجري في الأراضي المحتلة وشبهها بأفعال "داعش" التي تواجهها فرنسا. وقد كان ذلك الخطاب سارياً ومنتشراً لدى الاحتلال بكثرة في تلك الأيام، وما زال مستمراً وإن بصيغ أُخرى تنزع كلها الصفة النضالية المشروعة عن الشعب الفلسطيني.
ما يعنيه ذلك هو أن توصيفات الاحتلال للشعب الفلسطيني في الوقت الحالي ليست مرتبطة بعدد قتلاه في معركة "طوفان الأقصى"، وإنما هو موقف دائم لم يتراجع عنه يوماً، حتى إنه ازداد في الوقت الحالي، ويلقى صدى واسعاً، ودعماً أميركياً.
لماذا تشبه إسرائيل الفلسطينيين بـ"داعش"؟
يمكن القول إن كثافة التوصيف الإسرائيلي، في الوقت الحالي، للفلسطينيين بأنهم "دواعش" و"حيوانات بشرية" هي مجرد مبرر وذريعة لما تنوي إسرائيل تنفيذه بحق الفلسطينيين، ليس في قطاع غزة وحدها بل أيضاً في كل فلسطين، وتحديداً في الضفة الغربية، إذ يرافق القتل والدمار الوحشي في قطاع غزة، عمليات قتل وتعذيب للمواطنين في الضفة الغربية والقدس، ويبدو أن الداخل سيتبعها قريباً. فقد أعلن إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، أنه وجه وزارته لشراء أكثر من 10 آلاف قطعة سلاح لتوزيعها على المستوطنين،[4] وأضاف أنه فعلاً بدأ بتوزيع 4 آلاف قطعة على ميليشيات المستوطنين في المستوطنات على حدود قطاع غزة والضفة الغربية وفي الداخل (المدن المختلطة). وفي وقت لاحق، أعلن أنه أعطى أوامره لمفوض الشرطة بالاستعداد لسيناريو "حارس الأسوار 2" الذي يعتقد أنه قاب قوسين أو أدنى.
وإلى ذلك، يبدو أن إسرائيل باتت ترى أن هناك فرصة تلوح أمامها لاستغلال الوضع الحالي لحسم الصراع، سواء في غزة أو الضفة أو الداخل، ذلك بأنها تروج دعاية أمام الغرب، وتحديداً أمام الولايات المتحدة، بأن ما حدث لها يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو بمنزلة 11 أيلول/سبتمبر الأميركي، وفي رواية أُخرى، شبهته بحادثة بيرل هاربر. وهذه التشبيهات ليست بريئة ولا عفوية، فالولايات المتحدة بعد هذين الحدثين قامت بأفعال كبيرة جداً في العالم، ومنها أنها دخلت بعد "بيرل هاربر" الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، واستخدمت السلاح النووي في نهاية الأمر ضد اليابان، وأيضا بعد 11 سبتمبر احتلت أفغانستان والعراق، وسعت إلى تغيير أنظمة في دول أُخرى.
في هذا السياق، يأتي تصريح نتنياهو بأن إسرائيل "ستغير الشرق الأوسط"[5] في حربها المعلنة ضد الشعب الفلسطيني، كإشارة إلى أن إسرائيل تسعى إلى إنهاء القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد في ظل الضوء الأخضر الذي منحه الرئيس الأميركي جو بادين لنتنياهو ليكون حاسماً في حربه على الشعب الفلسطيني.[6] وقد استخدم بايدن هو الآخر ذريعة ما سُمي بـ "الفظائع" التي ارتكتبها المقاومة لتبرير دعمه وإسناده وإعطائه الضوء الأخضر لإسرائيل لتفعل ما تريد.
لقد دمرت عملية "طوفان الأقصى" جزءاً كبيراً من صورة الاحتلال أمام نفسه وأمام المنطقة والعالم؛ فقد جرى تدمير الصورة التي بناها الاحتلال لنفسه بأنه الدولة المتفوقة عسكرياً وأمنياً وتكنولوجياً واستخباراتياً، والدولة ذات الجيش الذي لا يقهر، والذي انتصر على عدة دول عربية ودمر جيوشها في ستة أيام، الأمر الذي قد يغير كثيراً من الأمور؛ فقد لا يكون العرب، بعد الآن، متحمسين للتطبيع مع إسرائيل، وخصوصاً أن التطبيع معها في كثير من الأحيان يرتبط بمساعي مواجهة إيران. فكيف يمكن للعرب أن يقتنعوا بأن إسرائيل المهزومة قادرة على مواجهة إيران؟ ومن ناحية أُخرى، فإن هذه الهزيمة المذلة ستشجع دولاً وأطرافاً أُخرى على مواجهة إسرائيل، لإدراكهم مدى هشاشتها وزيف الصورة المبنية حولها. ولذلك تقوم إسرائيل بارتكاب الجرائم الآن في قطاع غزة، ويبدو أنها ستستمر في إجرامها كي تثبت للعالم والعرب بأنها هي إسرائيل التي كانت عليه في سنة 1967.
ختاماً
إن عجلة التاريخ لا تسير إلى الوراء، والزجاج إذا كُسر لا يرأب، فإسرائيل تواجه اليوم تحدياً لم تواجهه في تاريخها، حتى في حرب 1973. وكل العالم رأى ما حل بها من هزيمة ووهن وضعف، إذ استطاعت فصائل مقاومة، ولا نتكلم هنا عن جيوش، داخل قطاع جغرافي لا تزيد مساحته على 360 كلم محاصر من كل الجهات منذ أكثر 17 عاماً، أن تتفوق على جيشها ومخابراتها وتكنولوجيتها وصناعاتها العسكرية والأمنية، وأن تلحق فيها هزيمة نكراء مذلة في ساعات معدودة. لذا، فإن الإجرام الإسرائيلي الحالي لن يجدي نفعاً في ترميم صورتها، وكذلك لن يمكّنها من تحقيق أي أهداف سياسية، حتى مع الدعم الأميركي المطلق. أمّا نحن فلا يجب أن نكترث كثيراً لخطاب الاستعمار الصهيوني وللموالين لهذا الخطاب، فقد اختصر فرانز فانون هذه الحكاية عندما أوضح أن "الاستعمار ليس آلة مفكرة ولا خطاباً يمكن تفكيكه، وإنما هو عنف أهوج لا يمكن أن يخضع إلاّ لعنف أقوى".
[1] "عرب 48": https://2u.pw/9z26JJh
[2] "الجزيرة": https://2u.pw/aCD9SdS
[3] "رأي اليوم": https://2u.pw/3mRxIyq
[4] "الأناضول": https://2u.pw/YLFeeb0
[5] "الأناضول": https://2u.pw/lvptI0Y
[6] "الجزيرة": https://2u.pw/QqlsY2Y