فلسطين من أول نظرة
التاريخ: 
29/09/2023
المؤلف: 

على متن الطائرة النرويجية، كنت أربط حزام لهفتي وهي تشرع في الهبوط في مطار اللد. كانت حفيدتي سارة بقربي، ونحن نتزاحم على شبّاك الطائرة من أجل نظرة أولى تطلّ علينا فلسطين من بين الغيوم البيضاء. لم تكن سوى زرقة البحر تقول للهفتي: "طولي بالك" فلسطين ستبدو بعد قليل، ولهفتي على الشبّاك "تنط" كحفيدي المشاكس.. اللهفة أسرع من بنزين الطائرات حين تدير محركاتها النفاثة لهبوط يهبط قبل هبوط طائرة كسولة، على شبّاكها فلسطيني يبحث عن الوطن من أول نظرة، بين غيم أبيض وبحر أزرق.

 

خالد عيسى في الشجرة

 

وأخيراً، صعدت فلسطين إلى شبّاك الطائرة، واختصرت بخصرها الأخضر هذا السباق بين قمرة القيادة لكابتن نرويجي، وشبّاك مسافر فلسطيني يهبط في بلاده لأول مرة في حياته.

بين غبش الدموع، كانت فلسطين تبذل كل ما في وسعها لوضوح النظرة الأولى حين تطلّ عليها في مطار اللد، سارة تبكي، كنت قادراً على فهم دموعي، لكن لم أفهم دموع حفيدتي الدلوعة سارة التي وُلدت في السويد، لماذا تنساب دموعها على شبّاك طائرة نرويجية تهبط في مطار اللد؟ ربما هو البكاء الوراثي على وطن يورث من جيل إلى جيل، ينهمر الآن من عيني سارة في مطار اللد.

 

خالد عيسى في سخنين

 

عبثاً، كانت أناقة مطار اللد ترتب فوضى المشاعر التي كانت تجرّ حقيبتها إلى وطن "ليس حقيبة"، لكنني مسافر أتفحص جواز سفري السويدي، ضابط جوازات بملامح روسية شقراء في وطن أسمر يلوّح لي من شبّاك مطار اللد.

نصفي ينتظرني في قاعة الوصول، يحمل لي لوزاً أخضر قطفه ابن خالتي الذي أراه لأول مرة في حياتي في ذبول هذا العمر، وأولاد عمي وعمتي حين يحضنون كهولتي العائدة إلى وطنها في ربيع آذار.

وجه آخر للنكبة

حين تكون في فلسطين لأول مرة في حياتك، وتسمع اللهجة الفلسطينية من نصفك الباقي في البلد، لهجة فلسطينية حافظت على بكارتها، ولم تتعرض للتهجين، فتشعر ببعض الخجل من لهجتك الفلسطينية اللاجئة التي "جعلكتها" لهجات الدول المضيفة وجعلتها مثل "طبيخ النوَر"، امتزجت مع لهجات المنافي من سورية ولبنانية وعراقية، إلى خليط من لهجات وزع عليها الفلسطينيون مخيمات اللجوء.

 

خالد عيسى رفقة صالح عباسي في حيفا

 

في فلسطين، أنت أمام لهجة فلسطينية تماماً، لم تتعرض للتلاقح مع لهجات أُخرى.

وحين تصحو، أنت الفلسطيني السوري، في صباح الناصرة، وتحدّق في قاف أهلك في الناصرة المغمسة بالكاف، وأنت غريب القاف تبحث عن بقايا لهجتك الفلسطينية التي قضمتها المنافي. تكتشف وجهاً آخر للنكبة حين تجد لهجة عمك في الناصرة مختلفة عن لهجة ابن أخيه القادم من مخيمات اللجوء في سورية.

 

خالد عيسى في القدس

وحين تتحول عبارة "مش هيك" إلى "مو هيك"، يلفظها زوج ابنتك الفلسطيني، وأنت تتجول في الجليل وتحدّق بلهجتك "إسّا" الجليلة حين تصدمها بلهجة "هلق".

وحين تكون في نابلس وزوج ابنتك الفلسطيني السوري، كل ما يشعر به ونحن نتجول في المدينة القديمة هناك أنها تشبه باب توما في دمشق، تدرك حينها ما تعرّض له الفلسطيني من ازدواجية المكان والمشاعر المختلطة بين الوطن والمخيم.

 

خالد عيسى في شفا عمرو

 

في فلسطين، كنت أصغي إلى أهلنا هناك بما يشبه الطرب، وهم يغرّدون بلهجتهم الفلسطينية البكر بين "بديش" و"بِهمش" و"تعال جاي" و.. إلخ من معزوفة فلسطين الأم، حين تتفرج على "العائدين" من المنافي بلهجات "حوشتها" المنافي، وجعلتها مثل الأكلة الإسبانية الشهيرة "باييلا"، وهي خليط من الأرز والدجاج والسمك واللحم، وهي بالأصل اسمها "البقية"، وتعود إلى أيام ملوك الأندلس، فبعد أن كان الملوك والأمراء الأندلسيون يأكلون من كل ما تشتهي الأنفس، مثل السمك واللحم والدجاج والأرز، كانت بقية الأكل توضع للفقراء، بعد أن يكون قد اختلط الأرز بالسمك والدجاج واللحم، فأصبحت الباييلا أو البقية، والتي اشتُق منها فيما بعد لفظ "البييلا".

 

خالد عيسى وحفيدته إيلياء.. حيفا حفيدة عن جد

 

هي فلسطين التي تحدّق بنا في عكا، وتجعل من ابن بنت خالتي الطفل العكاوي، وهو يستمع إلى لهجة زوج ابنتي الفلسطيني الذي أمضى عمره في سورية، وهو يتحدث بلهجته الشامية، يسأل أمه مستغرباً: ليش عمو بحكي مثل "باب الحارة"؟!

لو تدري يا عدي العكاوي كم من الحارات وزّع عليها الفلسطيني حيرته في المنافي ليصل إلى "إسّا" في الجليل؟!

عن المؤلف: 

خالد عيسى: كاتب فلسطيني.