فادييفا، إيرما لفوفنا. "اليهود في الإمبراطورية العثمانية: صفحات من التاريخ" (بالعربية)
النص الكامل: 

اليهود في الإمبراطورية العثمانية: صفحات من التاريخ

إيرما لفوفنا فادييفا

ترجمة وتحقيق أنور محمد إبراهيم

القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020. 586 صفحة.

 

تُجدد كبيرة الباحثين في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية إيرما لفوفنا فادييفا (Irma Fadeeva)، في كتابها هذا، تأكيد بعض الحقائق لدى عرضها تطور ظروف حياة اليهود في الإمبراطورية العثمانية، ومنها أن الحركة الصهيونية هي ثمرة أحداث وقعت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، ونتيجة مشكلات تعرّض لها اليهود في وسط أوروبا وشرقها.

لم يكن للأفكار الصهيونية التي ظهرت وتطورت بنجاح في أوروبا الشرقية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر سوى تأثير طفيف في اليهود العثمانيين، وذلك لأسباب شتى. فالإمبراطورية العثمانية بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تتكامل بالتدريج مع النظام الاقتصادي العالمي باعتبارها شبه مستعمِرة. وهذا التحالف الاقتصادي، مترافقاً مع الانهيار السياسي، دفعا الأتراك إلى إجراء إصلاحات داخلية.

عندما نجح الصهيونيون في فتح مكتب في إستانبول، لم يجدوا تأييداً بين أبناء عقيدتهم المحليين، بما في ذلك الموجودون في فلسطين، وإنما واجهوا صعوبة في إقناع النائب اليهودي فلاخوف أفندي بالموافقة على عرض أفكارهم في البرلمان العثماني.

نشر بعض الصحف الصادرة بالفرنسية والإسبانية مواد عن الحركة الصهيونية بعد تبنّي تركيا الفتاة لدستور 1908، ألقت الضوء على أفكار ثيودور هيرتسل، لكن المؤرخ اليهودي أفرام غالانتي (Afram Galante) أفاد بعدم اهتمام الجمهور بها. وتعود قلة الاهتمام إلى اقتناع اليهود بأن هذه الحركة لا مستقبل لها في تركيا، وذلك بسبب موقف الحكومة التي تَخضع فلسطين لإدارتها، كما أن بعض قادة الجالية اليهودية أخفق لدى محاولته استغلال الصهيونية في النزاعات اليهودية الداخلية.

وظهرت في القاهرة بنهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، منظمات صهيونية فتحت مدارس خاصة بها، كان يتردد عليها في البداية 100 طالب، ثم بلغ عددهم 290 طالباً من الجنسين كانت أغلبيتهم من الأشكناز. غير أن هذه المدارس بدأت مع بداية سنة 1903، تنهار بالتدريج بسبب قلة التمويل، بحيث لم يتبقّ فيها سوى 40 طالباً، كما أخفقت المنظمات الصهيونية، بين نهاية القرن التاسع عشر وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، في جذب اليهود المحليين إلى أنشطتها، ويعود ذلك، على الأغلب، إلى استقرار اليهود والازدهار النسبي لأحوالهم.

ويشير العدد الكبير نسبياً من الفرمانات الخاصة بفلسطين إلى إيلاء الحكومة العثمانية اهتماماً خاصاً بهذه "الولاية" التي تمثلت أهميتها في كونها مكاناً للمقدسات اليهودية والمسيحية والإسلامية، فضلاً عن قربها من طرق الحجيج إلى مكة التي كانت حمايتها ضمن واجبات السلطان. وأدى الجانب الاقتصادي دوراً في الاهتمام العثماني هذا، إذ كان الحجاج الذين يتوجهون إلى مكة يدفعون في مقابل زيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، كما "ملأ اليهود والمسيحيون الذين كانوا يزورون الأماكن المقدسة في فلسطين خزانة السلطان" (ص 445)، وزادت إيرادات الخزانة نظراً إلى تطور علاقات الباب العالي بالدول الاوروبية.

غير أن الأمر لا يخلو من تباينات في موقف الحُكم العثماني تجاه الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فقد حاول الباب العالي بجميع الوسائل التقليل من عدد الرعايا الذين يتمتعون بالحماية الأجنبية، وهو ما ينطبق على تدفق اليهود الروس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى القدس وصفد، فقد أُعلن في سنة 1882 السماح لليهود من البلاد الأخرى بالاستيطان في أي جزء من أجزاء الإمبراطورية باستثناء فلسطين. وفي سنة 1884، توجه رئيس المكتب الشرقي للاتحاد اليهودي العام ورئيس الطائفة اليهودية في إستانبول م. فرنانديز إلى وزير الخارجية العثماني يطلب الموافقة على قبول الدعم المالي المقدم من آل روتشيلد إلى اليهود في فلسطين، وكان الرد العثماني بأن الباب العالي يخشى ظهور "المسألة البلغارية الثانية" في فلسطين؛ ولهذا أصدر الباب العالي في مطلع سنة 1887 مراسيم جديدة تقضي بحظر إقامة اليهود الأجانب في القدس أو في أي أجزاء أُخرى من فلسطين لفترة طويلة. وفي العام التالي أكد وزير الخارجية العثماني توفيق باشا للسفير الأميركي في إستانبول أوسكار شتراوس (Oskar Straus)، أن حكومته عازمة على شيء واحد هو منع اليهود من احتلال فلسطين في المستقبل، منعاً لحدوث تعقيدات سياسية في المنطقة، وأمر جمال باشا بتدمير الوكالة الراعية لشؤون اليهود المهاجرين في فلسطين، وبنفي زعماء الصهيونيين واليهود الذين لا يحملون الجنسية العثمانية.

فيما بعد اختلف الأمر، ففي سنة 1916 صرّح طلعت باشا لأحد مراسلي الصحف الألمانية بالموافقة على منح اليهود الألمان الحقّ في الهجرة إلى فلسطين وإقامة الحكم الذاتي المحدود هناك، ونتيجة ذلك تم في برلين تأسيس "اتحاد المنظمات اليهودية الألمانية للدفاع عن حقوق يهود الشرق." بعد ذلك وعدت الحكومة التركية بإصدار تشريع اجتماعي خاص يحفظ حقوق اليهود في فلسطين، وفي تموز / يوليو 1918 حصلت السلطات الألمانية على امتيازات ضخمة في فلسطين لإنشاء مستعمرة لليهود الألمان، غير أن الأوضاع ساءت على جبهات القتال الألمانية والتركية، الأمر الذي حال دون تنفيذ المخططات.

ويعود تغير موقف الحكم العثماني إلى عدة أسباب بعضها داخلي مثل تدخلات المتنفذين اليهود في البلاط العثماني من أجل تعزيز الوجود اليهودي في فلسطين، ووصول حزب الحرية والائتلاف إلى السلطة، وانتشار ظاهرة الرشاوى، وفي هذا السياق اعترف البارون روتشيلد بأن "أفضل النتائج كان يتم التوصل إليها بالكلمات الطيبة التي كانت تصاحبها بعض الهدايا" (ص 481)؛ أمّا البعض الآخر فخارجي مثل هزائم الدولة العثمانية وتطور القوة العسكرية الأوروبية.

يعرض الكتاب الظروف التي ساهمت في تحديد نسبة اليهود في فلسطين خلال الحكم العثماني، فقد ازداد عددهم في القرن السادس عشر بفضل تدفق اليهود الأوروبيين، ليصل إلى نحو 12% من سكان القدس، ثم تراجع جرّاء الإفلاس والتدهور الناجمَين عن الغزوات العثمانية، لكنه شرع يتزايد بعد سنة 1840، إذ استقرت أغلبية اليهود، مثلما حدث من قبل، في المدن الأربع: القدس، وصفد، وطبرية، والخليل، والتي كان فيها قنصليات أوروبية، ويشير ذلك إلى إدراك المستوطنين اليهود استحالة الحياة من دون حماية أجنبية.

لم تَحُل انتقادات فادييفا لظروف حياة اليهود في أقاليم الدولة العثمانية دون تأكيدها أن الإمبراطورية كانت ملاذاً للفارّين من الدول الأوروبية، إذ لم يكن لدى العثمانيين مظاهر تحديد إقامة أو مذابح أو اضطهاد قائم على أسس دينية أو إثنية، مثلما هي الحال في أوروبا.

السيرة الشخصية: 

جهاد الرنتيسي: كاتب وروائي من الأردن.