تحولات النخبة الفلسطينية: مراجعات في التاريخ والهوية
صقر أبو فخر
بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022. 160 صفحة.
يقول الشاعر محمود درويش في قصيدة "أنت منذ الآن غيرك" في ديوان "أثر الفراشة": "الهوية هي ما نُورث لا ما نرث، هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة." ربما لا تكون الهوية هي الذكريات فقط، بل ما فعلناه كي ننهض، والسؤال الآن هو: كم نحتاج إلى تلك النظرة العميقة إلى الهوية كي نعيد قراءة أنفسنا قراءة أُخرى، وكم استغرقنا في الذاكرة والماضي، وكم نحن قريبون من فكرة التحرر في المستقبل؟
هكذا يذهب صقر أبو فخر في كتابه الجديد هذا، بعيداً في تأملاته بشأن أسئلة الهوية، ويتركنا أمام أسئلة حساسة كانت مهمة في تكوين تلك الهوية، ذلك بأن التاريخ كان ماكراً في جعلنا كفلسطينيين نموت يومياً بسبب الاحتلال، ويكون الموت النبيل إشارة إلى بقائنا، وإلى هويتنا كجماعة.
يبدأ الباحث في الفصل الأول بالسؤال عن "فكرة الوطن"، لأنها فكرة جديدة على الثقافة السياسية، مثلما يشير، ويذهب إلى مكان مهم في التاريخ، هو الحقبة العثمانية حين كان الأعيان الفلسطينيون وعائلات المدن منقسمين ومتصارعين، وكان الريف الفلسطيني معزولاً عن السياسة، والفلاحون متشرذمين، والمدينة منقسمة عائلياً. وبينما يشرح ذلك الضعف والانقسام، يسأل الكاتب: "لِمَ سقطت فلسطين بأيدي الحركة الصهيونية؟" (ص 49)، ويجيب أن حرب 1984 خيضت بلا قيادة جدية، أو حركة وطنية حقيقية. ويستشهد بذلك بقول المفكر أنطون سعادة: "إن الدولة اليهودية لم تنشأ بفعل المهارة اليهودية ولا بشيء من الخلق والمهارة اليهوديين، بل بفضل التفسخ الروحي الذي اجتاح الأمة السورية ومزّق قواها، وضربها بعضها ببعض، وأوجدها في حالة عجز تجاه الأخطار والمطامع الأجنبية" (ص 55)، ليستنتج أن التمزق هو نتيجة التشرنق في خيوط الماضي الذي يتعالى على فكرة الوطنية والقومية، حين كانت القبيلة والعائلة هما وطن هؤلاء الأعيان، ولذلك بقوا جماعة وليس مجتمعاً.
يخطر في الذهن هنا سؤال عن الهوية الوطنية للنخبة الفلسطينية، أو عن كيف تشكلت تلك الهوية فيما بعد، فيجيب الباحث أنه بعد حرب 1948 طور الفلسطينيون هوية جديدة هي هوية الشتات، لأنهم جميعاً يشتركون في تجربة فقدان الأرض، وأن النخبة الفلسطينية انقسمت بين الشتات وبين مَن بقي في فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي، وأن النكبة أنهت النخبة العائلية القديمة وأحلّت مكانها نخبة جديدة من المناضلين وخريجي الجامعات، مستندة إلى أبناء المخيمات كقاعدة للعمل الفدائي. ويستنتج الباحث أن هذا الجيل كان راديكالياً مع الاستعمار والاحتلال، لكنه كان تقليدياً في ميادين الفكر، فلم يستطع تحديث المجتمع. ويطرح هنا سؤالاً مهماً أيضاً: "لماذا انحسرت أفكار التقدم والتحرر الوطني والحداثة والنهضة والحريات والعدالة الاجتماعية في أوساط الشعب الفلسطيني، وتقدمت أفكار الانغلاق والتعصب والتكفير والتفكير المشيخي؟" (ص 64)، ويجيب أن بيئة التحرر الوطني الفلسطينية كانت في بعض جوانبها وارثة المجتمع الفلاحي القديم.
تتداعى في ذهن القارىء أسئلة أُخرى، مثل: هل إعادة قراءة هذا التاريخ تجعلنا قادرين على الخروج من عباءة هذا الماضي؟ وأَلَمْ يكن المخيم مكاناً لخروج نخب سياسية وثقافية مهمة، بغضّ النظر عن فشل المجتمع أو الحركات السياسية في احتضان أفكارها الحداثية بشأن المجتمع؟
ربما كانت هذه النخب تحاول الخروج عن تلك البيئة التي تحدث عنها الكاتب، أو ربما لم تستطع أن تبلور مشروعها في ظل بيئة متراجعة. وهنا يأخذ الكاتب القارىء إلى سؤال مهم: إلى أي مدى نحن بحاجة إلى هؤلاء الأبطال الذين يخرجون من الزوايا الضيقة ليطرحوا أمامنا أسئلة مهمة؟
يؤكد الباحث في الفصل الثالث الذي يخصصه لظاهر العمر الزيداني، أن هذا الأخير لم يكن بطلاً، وأنه لم يكن لديه مشروع سياسي يتضمن تحرير فلسطين وانتزاع الاستقلال. ويعود هنا إلى رواية إبراهيم نصر الله "قناديل ملك الجليل" التي تحدث فيها عن ظاهر العمر، فيقول إنها رواية تاريخية لكنها تتضمن قدراً متفاوتاً من التخيُّل، لأن ظاهر العمر وعائلته لم يمتلكوا وعياً وطنياً يرى في فلسطين كياناً سياسياً. وبالعودة إلى التاريخ يرى أبو فخر أن ظاهر العمر كان متمرداً فقط، وأن حكايته انتهت مثلما انتهت حكاية الأمير فخر الدين.
يأخذنا الكاتب بعد ذلك إلى سؤال آخر عن "الرموز" التي هي موضوع الفصل الرابع، فيعتبر أن الرموز أحياناً تعطي الهوية أبعاداً وطنية من دون معنى مثل التراب والزيتون، وغيرها من الرموز. وإذ يقول أنه يفهم ما تعنيه هذه الرموز في تشكيل هوية جماعة ما، إلّا إنه يعتبر أنها هوية موروثة. وفي المقابل، يشير إلى الهوية المتحفزة التي يصنعها الطريق إلى المستقبل، وهي الهوية الجديدة التي نبتكرها في طريقنا لاكتشاف أنفسنا، فـ "الهوية الجديدة تحتاج إلى أسلحة مختلفة وجديدة لأن الهويات ليست جوهرانية، أي ثابتة في الزمن، بل متغيرة ومتقلقلة" (ص 93).
ويدعو الكاتب إلى الخروج من طور الجماعة إلى طور المجتمع كي يتحرر وعي النخب من الاستلاب، ويربط ذلك بالشعر والفن أيضاً، محفزاً القارىء على التفكير في معنى الأصالة التي ليست استهلاكاً لتلك الرموز القديمة فحسب، بل عودة إلى الذات وابتكار الجديد والمختلف أيضاً، وهذا طبعاً واضح كذلك في الفنون والآداب، إذ نرى أن الصور الشعرية التي كَثُر استخدامها، والتي كانت شائعة في وقت ما، كانت تواجه محو الهوية من طرف الاحتلال والاستعمار. غير أن معركة المحو لا تزال قائمة حتى اليوم، وطرق مواجهتها اختلفت وتعددت، وعلينا أن نبتكر بأنفسنا أسلحة جديدة.
في الفصل الأخير، يناقش الباحث السِّيَر الذاتية والمذكرات الفلسطينية ويبيّن علاقتها بالتاريخ وبالرواية، فهي ليست وثيقة تاريخية، لكن المؤرخ يستخلص الحقائق منها. ومع أنها نوع من أنواع الأدب، إلاّ إنها مختلفة عن الرواية، ومن المهم دراستها كونها في حالة الفلسطيني تعني المكان والذاكرة. فالحكاية الشعبية بدأت تغيب وتُمحى، وهنا يقول الكاتب: "وكي لا يفلت الماضي من الذاكرة، انكبّ الفلسطينيون على إصدار الكتب التذكارية" (ص 117)، مفرداً الصفحات الأخيرة لأسماء تلك المذكرات واليوميات.
هذا الكتاب يطرح مجموعة من الأسئلة عن الهوية، ويدعونا إلى الخروج من حالة "الجماعة" كي نصل إلى المجتمع.