عبر مقاربة منهجية قادمة من السجن في فلسطين المستعمَرة، تسعى هذه الدراسة لنقد سياسات المعرفة والهوية التي كرّستها النزعة الاحتكارية للصهيونية، فكرة ومشروعاً ودولة، من ناحية، والمركزانية الأوروبية باستعلائيتها المعرفية والأخلاقية الممجوجة من ناحية أُخرى، وذلك فيما يتعلق بمفهوم "الإبادة الجماعية". لكن الدراسة لا تعمد إلى ذلك عبر مقاربة المعاناة، ولا مقارنتها بين "محرقة اليهود" التي اقترفتها النازية و"نكبة الفلسطينيين" التي اقترفتها الصهيونية ولا تزال، بل تعمل على بحث مفهوم الإبادة، وترسيم خطاطته بين الأصل والتأصيل، ثم بحث واقع الإبادة والتطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية ودولة مستوطنيها في فلسطين منذ النكبة حتى اللحظة. وتقول هذه الدراسة بوجود نمط إبادي يضاف إلى حقل "الإبادة الجماعية"، وهو "الإبادة الفردية" التي من سماتها التحديدية: التقسيم الثنائي بين المستعمِر والمستعمَر؛ المراقبة المسحية والرأسية الشاملة؛ الابتعاد النفسي بين الضحية والجلاد؛ تطبيع قتل المستعمِر للمستعمَر؛ خلخلة زمكان الآخر؛ تضخيم خطر وعدائية الآخر المستعمَر.
مقدمة
في النصف الأول من سنة 2023، تجاوزت حصيلة الشهداء الذين سقطوا في فلسطين المستعمَرة 150 شهيداً وشهيدة قضوا في عمليات قتل اقترفتها الأجهزة الأمنية العسكرية التابعة لمنظومة الأبارتهايد الاستعماري الصهيوني. وبالتالي، فإن إسقاط مواصفات ومقاييس "الإبادة الجماعية" من حيث عدد الضحايا، على الأقل، سيكون له تداعيات معوجّة لن تنسجم مع المحددات القانونية الدولية التي صيغت لتحليل الحدث وتسليط الضوء على العديد من الإبادات الجماعية في التاريخ المعاصر كالمحرقة النازية ومذابح رواندا والأرمن، والتي لم تكن لتتسبب بإشكاليات منهجية علمية كالتي تسبب بها بعض الباحثين والباحثات الذين ألحقوا نكبة 1948 بهذا السياق.[1]
ولذا، فإن سياسات القتل الصهيونية المتصاعدة في الأعوام الأخيرة، لن تلتقطها مجسَّات اتفاقية منع الإبادة الجماعية وتحريمها الخاصة بالأمم المتحدة. وإذا ما قمنا بالتسليم الاعتباطي بأن الإطار العام للإبادة الجماعية لا ينطبق على ما يتعرض له الفلسطينيون والفلسطينيات من قتل ممنهج، في الوقت الحاضر على الأقل، فلماذا لا ندّعي أن تطبيع القتل الاستعماري الذي بات حاضراً بصورة شبه يومية في الزمكان الفلسطيني المستعمر هو "إبادة فردية"؟ أو بالأحرى قد يكون من الأدق القول: إبادة جماعية مقنّعة بالإبادة الفردية.
ومن هنا بالتحديد، تهدف هذه الدراسة التي تتصدى عبر أدوات دراسات السجن النقدية[2] لهذا التساؤل الذي يسعى الباحث الأسير للإجابة عليه، إلى تفحُّص السياق الذي نشأ فيه مصطلح الإبادة الجماعية وصولاً إلى تسليط الضوء على مقاربة الباحثة كريستن مونرو (Kristen Monroe) الخاصة بـ "علم نفس الإبادة الجماعية" (Psychology of Genocide)، ثم إجراء عملية موضعة للنكبة داخل السياق الكولونيالي الصهيوني، باعتبارها كينونة صهيونية أنتجت كلاً من الصهيوني المستعمِر والفلسطيني المستعمَر، وصولاً إلى طرح المحددات الأولية للأنموذج المعرفي للإبادة الفردية من خلال الإجابة عن السؤال المركزي للدراسة، وهو: ما هي المحددات والإجراءات التي يستطيع من خلالها المستعمِر الصهيوني إجراء عملية الإبادة الفردية في حقّ الفلسطيني المستعمَر؟ وفضلاً عن ذلك، ثمة هدف منهجي من وراء هذه الدراسة هو تجريب مقاربة منهجية لدراسات السجن، من سماتها التفاعلية والجدلية لغرض إنتاج معرفة متحررة ومقاوِمة وقادرة على الانعتاق من الكينونة الصهيونية الكولونيالية التي تسعى بدورها لاحتجاز الفلسطيني كموضوع خاضع للاستباحة والتفكيك والإقصاء والإبادة على المستويات المادية والمعرفية والنفسية.
أولاً: المقاربة المنهجية، دراسات السجن ما بين سياسات المعرفة وسياسات الهوية
في خضمّ تطلّعه لإنتاج معرفته المتحررة من القوالب والنماذج الجاهزة والمُمركزة غربياً، فإن الأسير الباحث لا يضفي شرعية علمية على التحيز والاشتباك المعرفي مع الآخر بمنهجية عمياء لا تؤدي إلّا إلى التحيز العنصري وزجّ الآخر في الدهاليز المعرفية ذاتها التي يطمح الأسير الباحث إلى الانعتاق منها. فتثبيت سياسات المعرفة والهوية الخاصة به وتعيينها، يُعدّان ضمن المركّبات الأساسية أكثر من كونهما بحثاً عن شرعية معينة في عملية تشييد الموقع الثقافي الذي ينطلق منه الأسير نحو تكوين رؤاه ومناهجه التحررية والمقاومة في أوج اشتباكه الثقافي والمعرفي مع آخره الصهيوني الكولونيالي، إذ إنه لا ينتج معرفته الخاصة به فحسب، بل يعيد ويستعيد رسم ملامحه وهويته الإنسانية أيضاً، ويمتلك ذاته التي تغدو ذاتاً مفكرة ترفض بكل ما أوتيت من جرأة تلك المنظومات والأطر المعرفية التي تشكّلت في سياق التنوير والحداثة الممركزين غربياً وكولونيالياً. هذا هو الهدف المؤسس لدراسات السجن منذ أن شرعت في تأسيس مسارها النقدي بإعلان رفضها مقولات الموضوعية والحياد والمعتمدات العلمية والمعرفية الممركزة غربياً، وذلك في إطار سعيها لإنتاج المعرفة الخاصة بالمقهورين والمستعمَرين، ضمن مقاربة منهجية تكفل بلورة الذوات الواعية والمتحررة للفئات والجماعات المقهورة والمهمّشة والمستعمَرة.
وهذه المقاربة المنهجية التي تتبلور بالتدريج في صيرورة إنتاجها تخلق أيضاً مناخاً خصباً لجرأة المستعمَر ومقاومته وإرادته في تشكيل خطابه المفتوح على النقد، والانفتاح على ثقافة كونية تستنكر وترفض الإقصاء والتمركز والعنصرية، وعدم الوقوع في مهاترات موضعة الذات الغربية – الآخر داخل مقولات الإثنية والعرقية والجوهرانية. وفي سبيل توفير أسس راسخة للموقع الثقافي والمعرفي الخاص بالأسير الباحث تتوخى هذه الدراسة تقصّي أثر سياسات المعرفة والهوية في الخطابات المعرفية والثقافية والعلمية، إذ سيجري التركيز على رؤية إدوارد سعيد المتعلقة بهذا الجانب، انطلاقاً من كونه مثقفاً كونياً ومنحازاً في الآن ذاته إلى المقهورين والمقهورات كفلسطيني أُقصي عن وطنه في إثر النكبة الكولونيالية التي ألمّت بفلسطين وشعبها ولا تزال منذ سنة 1948.
يرى سعيد في مقدمة كتابه المؤسِّس "الاستشراق" أن المعرفة يجب أن تأخذ منحى بحثياً وجامعياً متجرداً، وهذا لا اعتراض عليه من الناحية النظرية. و"أمّا في التطبيق فإن الواقع أكثر إشكالية كثيراً، ذلك بأنه ما من أحد ابتكر قط طريقة لفصل الباحث عن ظروف الحياة، وعن حقيقة انشباكه (واعياً أو لاواعياً) في طبقة، في طقم من المعتقدات وفي منزلة اجتماعية، أو عن مجرد فاعلية كونه عضواً في مجتمع."[3]
إن "طقم المعتقدات" المكوِّن لسياسات معرفة الأسير الباحث وهويته، هو طقم حي ومتفاعل ومشتبك مع الواقع، وثمة محددات وشروط عديدة ساهمت في تكوينه من أهمها: (1) الانتماء إلى وطن منكوب ومستعمَر منذ سنة 1948؛ (2) التطلع نحو التحرر من الهوية المشوّهة التي رسمته بها الكينونة الكولونيالية الصهيونية؛ (3) ملاحقة ومصادرة الجسد في إثر عملية الاشتباك مع الآخر الصهيوني المحتل؛ (4) الخطاب المعرفي الصهيوني الذي نشأ في سياق التنوير الحداثي الكولونيالي الممركز أوروبياً هو السبب الرئيسي في معاناة الشعب الفلسطيني واضطهاده واستعماره؛ (5) ما جرى ويجري اقترافه في حقّ الشعب الفلسطيني من تطهير عرقي زاحف، وإبادة جماعية مقنّعة بإبادة فردية، لا تمارسهما دولة أو حكومة احتلال، بل منظومة شاملة مكونة من الكولونيالية والاستيطان والأبارتهايد.
إن هذه المحددات التي ينطلق منها الأسير الباحث هي مجرد محددات واهية ومتعصبة ومنحازة انحيازاً عنصرياً أعمى، وذلك في اعتقاد المنظومة المعرفية الممركزة غربياً، إذ إن المعتقد المعرفي الغربي وفي سياق هيمنته على الميدان البحثي، نجح في أجواء المركزية الغربية، وما يطلق عليه سعيد "الإجماع التحرري العام"، في إثبات فرضيته القاضية بأن " 'المعرفة الحقيقية' هي جوهرياً لا سياسية (وفي المقابل) أن المعرفة السياسية صراحة ليست 'معرفة حقيقية'."[4]
إن جوهر المعرفة الحقيقية، بهذا المعنى الظاهري، لا يجري لممارسة طقوسية يتم من خلالها حرمان وإنكار وإقصاء كل مَن يجرؤ على المساس بجوهر هذه الحقيقة التي تصبح حقيقة نهائية مقدسة يتعين على جميع المشتغلين بالمعرفة اعتناقها وتمريرها، فمن المنظور الغربي فإن اكتشاف نيوتن لقوانين الجاذبية لم ينتج منه سوى حقائق علمية مطلقة لا يمكن الطعن بها وبقيمها العلمية. أمّا إذا ظهر باحث يفترض أن اكتشاف قوانين الجاذبية جرى شحذه بقِيَم ومعانٍ سياسية لم يكن لها هدف سوى التحرر من هيمنة الكنيسة في تلك الآونة، فإن في فرضيته اعوجاجاً وعيباً لا يمكن إصلاحهما إلّا بتماهي الباحث مع المعتمد المعرفي الغربي الأسمى.
وفي هذا السياق، يثبت سعيد مهزلة الفصل بين الذات الباحثة وبين الموضوع المبحوث باسم الحياد والموضوعية، "ذلك أنه إذا كان صحيحاً أنه ما من إنتاج للمعرفة في العلوم الإنسانية يمكن أن يتجاهل أو يتبرّأ من انشباك مؤلفه كفاعل إنساني في ظروف حياته، فلا بد أن يكون صحيحاً أيضاً انه بالنسبة للأوروبي أو الأمريكي الذي يدرس الشرق لا يمكن أن يكون ثمة تبرؤ من الظروف الرئيسية لواقعه هو: [وهي] أنه يواجه الشرق بوصفه أوروبياً أو أمريكياً، أولاً، ثم فرداً، ثانياً."[5]
وإذا ما سحبنا هذا الرأي على الأسير الباحث، فإنه لا يطمح إلى مواجهة المعتمد الغربي بأدوات جوهرانية كتلك التي احتجزه بها الغربي المستنير في إبان عهد الاستعمار الأوروبي للشرق الجغرافي وللعالم بأسره، إذ إن إنتاج المعرفة الخاصة بالجماعات المقهورة والمستعمَرة والمضطهدة، لا يتم سوى من خلال تحطيم البنية الثنائية – المانوية – الكولونيالية التي خلقها وفرضها الخطاب المركزي الاستعماري على عالم خارج أوروبا. أي أن الأسير الباحث لا يجري حسابات معرفته التحررية، إلّا عندما ينزع عن وجهه الأصيل الملامح المسخة - القناع - التي وسمه بها المستعمِر والقاهر الصهيوني والكولونيالي.
وفي سبيل نزع هذا القناع المسخ، فإن المطلوب من الأسير الباحث إجراء عملية "جَرْد جوانية" من أهم أهدافها معرفة ذاته، هذه الذات المفكرة، وهو ما يسلط الضوء على دور البعد الشخصي في تكوين رؤية أو مجال بحثي في العالم. ويستند سعيد في رؤيته تلك إلى المفكر الإيطالي الراحل أنطونيو غرامشي الذي طالب في "دفاتر السجن" الباحث أو المثقف العضوي بمعرفة نفسه أولاً، ذلك "بأن نقطة انطلاق الاتفاق النقدي المُحكم هو وعي المرء لما هو حقاً، وهو 'اعرف نفسك' كنتاج للعلمية التاريخية حتى اللحظة الحاضرة التي أودعت فيك آثاراً لا حصر لها، دون أن تترك جَرْداً [بها]."[6]
إن عملية الجَرْد المعرفية الجوانية هذه تُعدّ من أهم إجراءات الأسير الباحث التي يعتمدها في إطار سعيه نحو تشكيل موقعه الثقافي من جهة، ومعرفته المتحررة المقاومة من جهة أُخرى. فمجرد إدراك التحرر في مقولاته يعني ضمن عدة أشياء تصدّيه للاضطهاد الذي يُمارس في حقّه، والأهم خوفه من ممارسته للاضطهاد ذاته في حقّ مضطهدِه، أي أن الأسير الباحث ليس هو ذاك الذي إذا فكر بقلبه فحسب فإنه ميت، وإذا فكر بعقله فقط فإنه مُميت، وإنما هو الذي يفكر بعقله على إيقاع قلبه، قلبه هو فقط، لأنه قلب الإنسان الذي يسعى نحو التحرر من معادلة الكينونة الكولونيالية الرهيبة.
ثانياً: ما بين مصطلح الإبادة الجماعية وعلم نفس الإبادة الجماعية
ظهر مصطلح إبادة جماعية (genocide) أول ما ظهر في أوروبا عشية الحرب العالمية الأولى التي شهدت أولى أمارات الفظاعة الإنسانية المنبعثة من عقل شامل نجح في إحداث نقطة تحول عظيمة في تاريخ الحروب والمقتلات والمذابح البشرية، وذلك من خلال عقلنة القتل ومنهجته. وأمارات هذه العقلنة هي التي أسست وأدارت معسكرات تجميع وإبادة جميع الشاذين عن مقاييس العرق والحداثة بطابعهما النازي في الحرب العالمية الثانية. إن ظهور المصطلح في أوروبا كان شأناً أوروبياً، أي أنه تبلور في إثر ما شهدته القارة من مجازر ومذابح، ولم يكن هذا المصطلح لينشأ في سياق عدوان الإبادة الجماعية الذي نفذه المستعمِر الأوروبي في حقّ السكان الأصليين فيما أصبح يُعرف لاحقاً بأميركا الشمالية والوسطى والجنوبية، أو في حقّ القبائل الأفريقية في ذروة اكتشاف المستعمر الأوروبي لقدرته الخلاقة على دفع عجلة التاريخ إلى الأمام حيث عالم المركزية الأوروبية الحضارية التي أنتجت "عبء الرجل الأبيض" الذي روَّج من خلاله الاستعمار بصفته "مهمة خلاصية".
يتكون مبنى المصطلح "جينوسايد" من كلمتَين أوروبيتين معرِّفتين مركزيتَين هما: "genos التي تعني باليونانية: عِرق، أمّة، قبيلة،cide أو caedo التي تعني باللاتينية: مجزرة، قتل."[7] وأول مَن دشَّن هذا المصطلح هو اليهودي البولندي رفائيل لمكين (Raphael Lamkin, 1901-1959) في سياق الحرب العالمية الثانية، فأصبح الأب الروحي لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية.[8]
وقبل تسليط الضوء على أهم بندين في هذه الاتفاقية، فإن المواد الأولية التي شُيّد منها مصطلح الجينوسايد جرى توفيرها من سياق إراقة الدماء الأوروبية وإبادة اليهود "العقلانية" في أفظع حربَين عرفهما التاريخ الإنساني حتى الآن. وبالتالي، فإن المصطلح مشحون بما تعرضت له شعوب أوروبا من قتل ممنهج ومُبقرط [من بيروقراطية] لم تختبره من قبل، والمقاييس والمعايير الأُخرى التي صيغت بها الاتفاقية يبدو أنها خاصة إلى حد ما برؤية أوروبا إلى ذاتها المركزية، وإلى العالم من حولها في الآن نفسه.
ولعل معالم هذا النهج تتضح عند التعرف إلى مجريات إعداد وصوغ هذه الاتفاقية، "اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية"، والتي تم إقرارها في كانون الأول / ديسمبر 1948 في باريس. فخلال المداولات الأولية لصوغ الاتفاقية من طرف الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ذُكر ما حدث في فلسطين من نكبة في حقّ شعبها خمس مرات، علماً بأن دولاً عربية مثل مصر وسورية هما مَن ذكر ذلك، كما ذُكرت "الأعمال العدائية والقتل بين الهند وباكستان أربع مرات، الاحتلال الياباني لأراضٍ صينية ثلاث مرات، كما ذُكرت الحرب الأهلية في إسبانيا ونظام فرانكو مرة واحدة فقط."[9]
أمّا جرائم النازية فهي وحدها التي حظيت بسوء الذكر الأكثر، لتشكل هذه الجرائم ذات الطابع المركزي الأوروبي بصورته النازية المفرطة البياض، القاعدة العامة للاتفاقية التي خيّمت عليها الظلال الثقيلة والفظيعة لمصطلح "الهولوكوست" الذي أصبحت ألـ التعريف الملحقة به العلامة الحصرية الخاصة بيهود أوروبا الذين أبيدوا في معسكرات التجميع والإبادة النازية. ومع ذلك، فإن المفكر اليهودي آرنو ماير رفض تغليف المأساة اليهودية بمصطلح الهولوكوست لأن هذا المصطلح مشحون بمعانٍ دينية أدت إلى "عبادة 'دنيوية متعصبة بشكل مفرط' للذاكرة يرى أنها قدر أفرخت ]أنشأت] 'ذاكرة إلزامية جماعية ليس من شأنها أن تقود إلى تفكير نقدي يراعي السياقات الملموسة فيما يتعلق بالكارثة التي حلّت باليهود'."[10] وقد استبدل ماير الهولوكوست بابتكار مصطلح آخر هو "قتل اليهود" (Judeocide)، مؤسساً لتسيُّد الإبادة اليهودية وفصلها عن الإبادات الجماعية الأُخرى، وإفراد معايير ومقاييس خاصة بها لا تستدعي تحميل أوروبا المركزية المسؤولية الأخلاقية عمّا حدث فحسب، بل تحيلها أيضاً إلى معتمَد حصري مطلق من غير الممكن المساس به، ويمكن استخدامه في عمليات البحث والمقارنة مع إبادات بشرية أُخرى.
إن عرض مصطلح الإبادة الجماعية في نشوئه الأوروبي المركزي واليهودي الحصري، لا يعني بالضرورة الوقوع في فخ المقارنة أو الاحتجاج على المادة الخام – الهولوكوست – التي شُيّد منها المصطلح والاتفاقية الخاصة به، إذ إن "الفلسطينيين لا يمكنهم أن يطبقوا على أنفسهم، عن علم وبشكل مشروع، صيغ التميّز التي تناسب اليهود."[11] ومن هنا، فقد حذَّرَنا إدوارد سعيد بشدة من مغبَّة المعادلة والمقارنة متسائلاً: "مَن الذي يريد المعادلة على المستوى الأخلاقي بين الإبادة الجماعية والتجريد الجماعي من الحقوق؟ سوف يكون من الغباء مجرد محاولة ذلك."[12] وإذا ما كنا من الناحية الأخلاقية لا نستطيع إقحام أو التنافس على إلحاق نكبة 1948 بخطاب الإبادة الجماعية المتوافَق عليه والذي تسوده روح الهولوكوست، فلماذا لا نسعى لبلورة مقاييس ومحددات خاصة بتطهير وتهجير وإبادة مئات الآلاف من الفلسطينيين في إبان نكبة 1948؟
بطبيعة الحال، ثمة مقاربات أُخرى لمصطلح الإبادة الجماعية لم يتم إدراجها في اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بتعريف ومنع وتجريم الإبادة الجماعية، ومنها "الديموسايد" (democide) وهو "مصطلح أوسع من مصطلح 'الجينوسايد'، ويشمل أعمال الإبادة الجماعية وعمليات 'البوليتيسايد' (politicide) – الإبادة الجماعية على خلفية سياسية."[13] وقد قام الباحث في الإبادات الجماعية "ر.ج. رومل" بإلحاق 174 مليون قتيل على مدار القرن العشرين بمصطلح "الديموسايد". وثمة أيضاً مصطلح آخر أطلقه بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان في الأعوام الأخيرة وهو الإبادة المجتمعية (sociocide)، والذي يشير إلى تدمير جميع المقومات المجتمعية للجماعة مثل القرى والمدن والبيوت والبُنى التحتية والاقتصاد والثقافة.[14]
أمّا المعيار العام المتوافق عليه لتعريف وإقرار الإبادة الجماعية من الناحيتين القانونية والقضائية، فهو ما وصفته وأقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس في كانون الأول / ديسمبر 1948، وهو اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، والتي ينصّ بندها الأول: "تُقر الأطراف المتعاقدة بأن الإبادة الجماعية، سواء ارتُكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها."[15] ويظهر التعريف العام للإبادة الجماعية في البند الثاني على النحو الآتي: "أي من الأفعال التالية، المرتكَبة بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، لمجرد كونها كذلك: (1) قتل أعضاء من الجماعة؛ (2) إلحاق أذى جسدي أو روحي فادح بأعضاء من الجماعة؛ (3) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي، كلياً أو جزئياً؛ (4) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال في نطاق الجماعة؛ (5) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أُخرى."[16]
وعلى الرغم من شُحّ المصادر والمراجع الناتجة من ظروف السجن الصهيوني الكولونيالي القهرية، فإن الانطباع الذي يمكن ملاحظته بعد تفحّص البندَين الواردَين أعلاه، هو أن هذه الاتفاقية بصيغتها القانونية تشبه إلى حد معين دليل الاستعمال المرافق للأجهزة الكهربائية والذي من دون الاستعانة به لا يمكننا تشغيل وإدارة الجهاز الكهربائي. وعليه فإن غياب الأبعاد الأخلاقية والنفسية والاجتماعي والثقافية عن الإطار العام للاتفاقية يضع كثيراً من التحديات أمام تطبيقها على أعمال التطهير العرقي والقتل والتهجير الممنهجة، وخصوصاً في إبان نكبة 1948، علاوة على أن الاتفاقية مُعدّة لمعالجة نتائج الإبادة الجماعية ولا تبحث في دوافعها ومسبباتها.
وهذا ما يقودنا إلى الخوض في مقاربة أُخرى تتعلق بتفسير الإبادة الجماعية ضمن ما اصطلح على تسميته "علم نفس الإبادة الجماعية"، وهو العلم الذي تبلور في العقود الأخيرة، لينهمك في الحفر في تربة المجتمعات التي ارتُكبت في حقّها عمليات إبادة جماعية، إذ يستخرج الدوافع والمسببات الواعية واللاواعية التي أدت إلى ارتكاب الإبادة الجماعية، فضلاً عن تسليط الضوء على الإجراءات المرتبطة بهذه الدوافع، وذلك عبر تسخير مقاربات علم النفس بتوجهاتها المتعددة في سبيل الوصول إلى تشخيص واضح للقتل المُمنهج.
وعلى الرغم من تطور "علم نفس الإبادة الجماعية" داخل البناء المعرفي الغربي، وعدم انعتاقه التام من تأثيرات وتداعيات المحرقة النازية على معظم العلوم الاجتماعية الغربية الطابع، فإنه بابتعاده عن المعايير القانونية لمفهوم الإبادة الجماعية، وتركيزه على الدوافع النفسية والعرقية والعنصرية والثقافية التي أدت إلى الإبادة، يفسح في المجال أمام صوغ مداخل مغايرة لقراءة وتحليل ما حدث ويحدث الآن في فلسطين المستعمَرة من إبادة جماعية مقنّعة بالإبادة الفردية تنفذها أجهزة الأمن العسكرية الصهيونية في حقّ أجساد الفلسطينيين وكياناتهم وأحيازهم.
ومن هذا المنطلق، تقدم لنا كرستين مونرو مقاربة تفسيرية لمستويات ودوافع وخطوات الإبادة الجماعية على النحو الآتي: المستوى الأول - مجتمع متعدد التقسيمات الإثنية الواضحة؛ المستوى الثاني - ضائقة اقتصادية، أزمة سياسية، حرب، ثورة، والتي ينقسم المجتمع فيها ضد نفسه، ويشرع في الاقتتال الداخلي؛ المستوى الثالث - التصورات الذهنية، أي تكوين الصور النمطية التي تساهم في تقسيم المجتمع إلى "نحن" و"هُم".
أمّا الخطوات الناتجة من هذه المستويات، والتي تؤدي إلى ارتكاب الإبادة الجماعية، فهي أربع: الأولى، خطوة المستوى السيكولوجي: "نوع من الأيديولوجية التي تعمل على إسباغ الشرعية وتبرير الذبح الذي سيقع. وكثيراً ما يأخذ هذا التبرير شكلاً 'علمياً' مريباً [....]. لذا تصبح الإبادة الجماعية 'إجراءً' علمياً واقياً من العدوى التي يأتي بها وسطاء 'التلوُّث العنصري' الذين يُنظر إليهم بوصفهم فطريات وبكتيريا مسبِّبة للمرض والتدهور والموت لدى الشعوب المُضيفة."[17] وهذا ما ينسجم مع رؤية ريتشارد ليرنر في هذا الجانب إذ يؤكد: "وينجم عن تلك الأيديولوجية الراديكالية اتجاه لشيطنة (demonization) جماعة الأقلية، ورؤيتهم كخطر، وشعور بالتفوق العنصري أو الديني عليهم."[18] والثانية، خطوة المستوى الإدراكي و"تتمثل في نقلة في إدراكنا، (أو رؤيتنا) لأنفسنا مقارنة بالآخرين. وهناك دليل أخذته مونرو عن كتاب كريستوفر براوننغ (Christopher Browning) عن "النازي باتليون 101" (Nazi Battalion 101) يوحي أن البروتوكول الاجتماعي، والرغبة في عدم 'إراقة ماء الوجه' أمام الزملاء، تصبح أكثر أهمية من حياة 'الآخر' في ظل هذه الظروف [فنجازيهم في ما يعملون]. وقد نرى أنه 'ليس لدينا الخيار' إلّا أن نفعل ما نفعله. أما التغير السيكولوجي الثالث فهو أننا قد ننظر إلى أنفسنا كأننا نتصرف بوحي من عاطفة مقلوبة (twisted compassion)، فنرى أنفسنا مخلوقات أخلاقية (تتصرف بوازع من ضمير) تسعى لتخليص 'الآخر' من بؤسه [....]. وأخيراً ولعلها النقلة الرئيسية التي تسبق كل ما عداها، فتتمثل بحدوث الابتعاد (نفسياً) عن الضحية وتجريده من إنسانيته (distancing and dehumanization). أمّا الابتعاد فلا يشير بالضرورة إلى المسافة الفيزيقية التي ألقت آيخمان بعيداً عن أولئك الذين كان يساهم في قتلهم – ولكنه يشير إلى المسافة النفسية والانفعالية التي يخلقها المعتدون بينهم وبين ضحاياهم الذين يُحمَّلون لاحقاً اللوم على ما حاق بهم من مصير."[19]
إن مقاربة مونرو تفسح في المجال في بعض مستوياتها وخطواتها أمام تشييد مفهوم أنموذج الإبادة الفردية في فلسطين المستعمَرة وتطويره، وذلك بعد تثبيت وتعيين السياق الكولونيالي لتجليات الإبادة الجماعية التي نفذتها وتنفذها منظومة الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني في حقّ الفلسطينيين والفلسطينيات.
ثالثاً: كينونة الإبادة الكولونيالية المقنّعة
إن عدم موقعة النكبة التي ألمَّت بالشعب الفلسطيني في سنة 1948 في سياق مشروع الحركة الصهيونية الكولونيالي، لن يكفل تبلور الوعي ضد – الكولونيالي، وذلك لتداعياتها وإفرازاتها الزمكانية النكبوية التي ما زالت مستمرة حتى الآن. فتثبيت التموقع يجعل من النكبة كينونة كولونيالية قامت بخلقها الحركة الصهيونية انطلاقاً من دوافع قومية تشكلت بدورها داخل السياق المركزي الأوروبي في ذروة قرن القوميات – القرن التاسع عشر – لتصبح هذه الحركة "مزيجاً من أيديولوجيا قومية وممارسة استعمارية."[20]
وهذه الممارسة الاستعمارية لم تنتهِ بانتهاء اللحظة المؤسسة للنكبة، ذلك بأن القومية التي تسعى الصهيونية لبلورتها لم تتحدد ملامحها النهائية بعد، وخصوصاً ملامح المكان – "أرض إسرائيل" – أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الذي كان وما زال "مشروعا قومياً وكولونيالياً غير مكرّس من أجل عموم سكان البلاد [....]. لذلك، فقد كان الوجود الصهيوني، وظل دوماً، شأناً سياسياً له علاقة، بهذه الكيفية أو تلك، بعلاقات قوة تراتبية، كما أنه أضحى منذ بداية تمأسس الصهيونية، موضوعاً سلطوياً أيضاً."[21]
توفر القومية بصورتها هذه إجابات معرفية وثقافية واجتماعية متماسكة إلى حد ما، لا بل تزداد متانتها كبناء للهيمنة والسيطرة من خلال ارتباطاتها بالقوة الاستعمارية للحركة الصهيونية التي ما زالت منظومة سيطرتها في طور التكوين، أي أن "المقصود هو أن إسرائيل ذاتها قامت كحالة استعمارية أو في إطار نشاط استعماري، ولم تكن دولة قائمة احتلت مستعمرات. ومن الناحية الزمنية، ما زالت حالة الاحتلال الأولى ماثلة في الثقافة السياسية وفي الفهم الذاتي لإسرائيل كدولة."[22]
إن هذه "الحالة الاستعمارية" لا تعبّر حقيقة عن جوهر الكولونيالية بأنماطها الأوروبية المركزية كالاستعمارين البريطاني والفرنسي لمعظم أنحاء العالم، إذ إن "إسرائيل" لا ترتكز ولم تنطلق من المتروبوليتان أو الدولة الأم لاستيطان مناطق أُخرى من العالم، الأمر الذي يجعل من هذه الحالة الاستعمارية المشوهة هجيناً مكوّناً من ثلاثة أنماط رئيسية، هي: الكولونيالية، والاستيطان، والأبارتهايد. وهذه الأنماط لا تتشكل ولا تنطلق في الممارسة النكبوية العملية إلّا من منطلقات أيديولوجية قومية عنصرية ذات قدرات لاهوتية مُعلمنة. وعليه، فإن التسبّب بإعطاب تاريخي إنساني جغرافي زماني لشعب آخر هو إحدى أهم نتائج هذه المنطلقات، أكانت منطلقات الحركة الصهيونية، أم أي حركة أُخرى تؤمن بهذه المنطلقات وتنبعث منها.
إن التقاء الصهيونية بطابعها الصهيوني الناشىء في أجواء الحداثة المركزية الأوروبية مع الكولونيالية الهجينية (الاستعمار، والاستيطان، والأبارتهايد..) أحال الحركة الصهيونية من "حركة تحرر قومي" إلى كينونة كولونيالية نكبوية حية وضارية لا تفتأ تفرز وتولّد تداعيات وإفرازات مشوهة، منذ طرد سكان قرية زمّارين في سنة 1882 في سبيل إقامة قرية زراعية يهودية صهيونية في سهل مرج ابن عامر، حتى محاولات الحكومة الصهيونية الكولونيالية الحالية الرامية إلى طرد وتهجير سكان قرية الخان الأحمر. كما أن سياسات واستراتيجيات القتل الممنهج لم تختلف كثيراً سوى في تقنياتها منذ مجزرة دير ياسين في نيسان / أبريل 1948، حتى مجزرة قصف البيوت الآمنة في غزة بأحدث الصواريخ الحربية الأميركية الصنع في أيار / مايو 2023.
إن هذه الكينونة الكولونيالية الصهيونية، وفي خضمِّ إنتاجها ما يكفل تنفيذ مخططات الحلم القومي الصهيوني الشامل، أثّرت أيضاً في تبلور آخرها "المشوّه" والمنكوب والمستعمَر والمقهور، وهو الفلسطيني اللاجىء والشهيد والجريح والأسير والمبعد والمطارد والملاحق والمصادر جثمانه، غير أنها لم تكن لتراه بتجلياته هذه، وإنما أخفت إنسانيته ومعاناته بتغليفه بتصنيفاتها الرهيبة، وهي أنه مخرب وإرهابي ومتوحش وقاتل وهمجي وقذر ومعادٍ للسامية، يسعى لإنكار الحقّ اليهودي الأخلاقي والسامي الديني الخلاصي في "أرض إسرائيل التوراتية"، ومنافسة اليهودي الناجي من أهوال المحرقة النازية على خطاب الضحية والمظلومية والاضطهاد، وذلك من خلال سعي الفلسطيني السيزيفي للصراخ في وجه العالم بأن ما حدث ويحدث في حقّه هو قتل ممنهج وإقصاء وتمييز وإبعاد وطرد وتهجير. والأنكى من ذلك كله هو أن يصرخ الفلسطيني في وجه آخره الصهيوني ومعتمداته ذات العنف المعرفي الممركز غربياً، بأن ما يحدث في حقّه فعلاً هو الإبادة الجماعية المقنّعة بالإبادة الفردية، والتي يمكن تقصّيها على الأقل منذ بداية سنة 2023 حتى أواخر أيار / مايو، وهي المدة التي قتلت فيها أجهزة الأمن العسكرية الصهيونية 159 فلسطينياً وفلسطينية بينهم 27 طفلاً وست نساء. ووفقاً لمقاييس ومحددات اتفاقية منع وتجريم الإبادة الجماعية للأمم المتحدة، فإن 159 شخصاً قُتلوا بأحدث أدوات القتل فتكاً ووحشية لا يمكن إدراجهم تحت بنود الإبادة الجماعية، إذاً، تحت أي بند من بنود أنماط القتل يمكن إدراجهم؟!
سيكون عدد الضحايا "معقولاً" إلى حدّ ما إذا كان الأمر يتعلق بحادث تصادم بين قطارين لنقل المسافرين، ووحدها شركات التأمين مَن سيتجشَم عناء تكاليف التعويضات لأسر الضحايا. أمّا في الحالة الفلسطينية النكبوية، فإن القتل على الطريقة الصهيونية الكولونيالية محيّر ومثير للغاية بالنسبة إلى معايير الاتفاقيات والمعاهدات والمحاكم الدولية التي تُعنى بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. وبالتالي، فإن الرقم 159 ضحية لن يجافي بالنسبة إليها بند "ضحايا أعمال قتالية وعدائية متبادلة ما بين طرفَي الصراع."
غير أن نتائج التحقيق الذي كشفت عن نتائجه صحيفة "واشنطن بوست" في يوم الجمعة الموافق فيه 26 أيار / مايو 2023،[23] والمتعلق بالإعدامات التي تنفذها أجهزة الأمن العسكرية الصهيونية في حقّ الفلسطينيين، يثبت أن "أعمالاً عدائية متبادلة ما بين طرفَي الصراع" لا يمكن التأكد من صحتها على أرض الواقع في مدينة جنين على الأقل، التي كانت وما زالت مسرحاً للجريمة المنظمة التي تنفذها الأجهزة الأمنية العسكرية الصهيونية، إذ يسلّط التحقيق المزود بمقاطع فيديو حقيقية الضوء على عملية اغتيال نفذتها وحدة أمنية عسكرية صهيونية خاصة – المعروفة باسم وحدة المستعربين – في حقّ الشابين نضال خازم ويوسف شريم في وضح النهار وفي سوق مزدحمة بالمرتادين. فقد أشار بعض الخبراء إلى أن "اقتحامات خلال النهار في أماكن مكتظة مثل جنين في نهار 16 آذار / مارس يُعدُّ انتهاكاً للخطر الدولي على عمليات القتل خارج نطاق القانون، وأن هذا الانتهاك تزيد فداحته لأن مَن ادّعت إسرائيل أنهما مسلحان لم يكونا يشكلان أي تهديد للقوات الإسرائيلية لحظة الاغتيال، إلى جانب وجود العديد من المدنيين في المكان."[24]
كما أشار "مايكل لينك" المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية إلى أن "عمليات القتل هذه غير مشروعة إلى حد بعيد بموجب المعايير الدولية، وما يزيد في عدم مشروعيتها هو اختيار تنفيذ عمليات الاغتيال في سوق مدنية مزدحمة بشكل واضح. وأشار لينك إلى أن أياً من الشابَّين المستهدفَين في الغارة لم يبدُ أنه يمثل أي تهديد، ولا حتى تهديداً وشيكاً، وكان من الممكن إلقاء القبض عليهما."[25]
من الجدير ذكره أن هناك تصويراً واضحاً يوثق لحظة اغتيال الشهيد نضال خازم بعد السيطرة عليه من طرف أحد أفراد وحدة المستعربين الصهيونيين، إذ قام الجندي المستعرب بإطلاق النار من مسدسه على رأس الشهيد خازم من مسافة صفر، ثم استقل السيارة برفقة أفراد الوحدة وفرّوا من مسرح الجريمة. وأشار التحقيق إلى قتل أفراد الوحدة للطفل عمر عوادين (14 عاماً) في المكان نفسه، عندما كان راكباً على دراجته الهوائية، وأثبتت التسجيلات المرئية أن الطفل عوادين لم يكن يشكل أدنى خطر أو تهديد على عمليات وحدة القتل الصهيونية. أمّا ردّ الأجهزة الأمنية العسكرية الصهيونية على نتائج التحقيق الصحافي فكان آلياً بارداً فحواه: "المستهدفان في عملية الاغتيال كانا متورطَين في أعمال عنف وتعريض حياة الإنسان للخطر."[26]
إن تعليق لينك القاضي بأن "عمليات القتل هذه غير مشروعة إلى حد بعيد بموجب المعايير الدولية" مُشبع بالآلية الباردة والمحايدة والمهنية ذاتها والخاصة بتعليق أجهزة الأمن العسكرية الصهيونية على عملية الاغتيال، إذ هي عبارات القانون الدولي الجاهزة والمُعدّة سلفاً للقياس والمقاربة والمقارنة والمعادلة. فإذا ما خالف الحدث أو الواقعة هذه المقاييس فإنه سيتم التغاضي عنه، وإلقاؤه في أعماق حيرة القتل الصهيوني الممنهج. ومن هنا بالتحديد، يشرع أنموذج الإبادة الفردية في التجلّي كي يتصدّى لهذه الحيرة مستعيداً قتل الفلسطيني والفلسطينية والذي هو من الأمور التي تشذّ عن الأعراف والقواعد العامة لمفهوم الإبادة الجماعية.
ويتبلور هذا الأنموذج – البراديغم – من خلال الدوافع التي أدت بالجندي الصهيوني المستعرب إلى إجراء عملية التأكد من القتل – "فيدوي هريغا" بالعبرية - في حقّ الشهيد نضال خازم. ويمكن القول إن أول ما تبادر إلى الأذهان عند طرح هذا الأنموذج هو مصطلح الهوموسايد (homicide) الذي يعني حرفياً قتل الإنسان أو الكائن، غير أن مصطلح الهوموسايد، وإن كان يحمل بُعداً إجرامياً إنسانياً، إلّا إنه لا يعبّر عن الأنموذج التي تتبنّاه أجهزة الأمن العسكرية الصهيونية في ملاحقتها وتصنيفها للفلسطينيين أفراداً. وبالتالي، فإن ما نقترحه هنا هو مصطلح الإبادة الفردية (personocide/individualcide) المحمّل بأبعاد ذات ملامح إنسانية هوياتية سياسية ثقافية نفسية واضحة، إذ ثمة فرق شاسع ما بين مصطلح "الهوموسايد"- قتل الإنسان – وبين مصطلح الإبادة الفردية "البيرسونوسايد". فالأول طابعه إجرامي بحت ولا يحمل معاني عقائدية خاصة بالمستويات السياسية والاجتماعية والمعرفية والثقافية، فالسارق أو المغتصب بقرر قتل ضحيته بعد اغتصابها لا لأنها عربية أو أميركية أو مثلية أو برجوازية أو فنانة، بل لأنها امرأة سُلبت إرادتها وقام هو بإخضاعها واغتصابها مُلبياً رغبة أو نزعة نفسية مَرَضية. أمّا في مفهوم الإبادة الفردية فإن قتل الفرد أو الشخص يأتي في سياق إخضاع الجماعة التي ينتهي إليها، أي يصبح القتل محمّلاً بدوافع وأبعاد تمييزية ما بين الأنا والآخر، والفرد الذي تجري عملية إبادته في هذه الحالة ليس ضحية، وإنما "مجرم" و"إرهابي" "ومخرب". وبهذا، إذا كان المغتصِب هو القاتل المعتدي في الهوموسايد، فإن القاتل (الجندي المستعرب) في أنموذج الإبادة الفردية هو الضحية – المرأة المغتصبة - الذي يدافع عن وجوده أمام نضال خازم الأعزل والخاضع، والذي يضمر نيات إجرامية وإرهابية تجاه الجندي – الضحية.
ومن هنا يأتي تطبيق هذا الجندي لنظرية الحرب العادلة (just war doctrine) "والتي يمكن في أساسها الاعتقاد بأنه من الممكن السماح بقتل البشر باعتباره 'أهون الشرور' عندما يكون الأمر ضرورياً من أجل عدوان يهدد الحياة"،[27] لتتجلى المفارقة في هذا الجانب، من خلال الجيش الذي ينتمى إليه الجندي - الضحية، وهو "جيش الدفاع الإسرائيلي"، فالدفاع هنا يعني الهجوم الصاعق والماحق بأعتى أنواع التقنيات العسكرية على الآخر الفلسطيني المعتدي، سعياً وراء إبادة تطلعاته وأمانيه بالتحرر والخلاص من إفرازات النكبة الكولونيالية. وفي خضم دفاعه عن وجوده، فإن هذا الجيش الذي يدّعي أنه أكثر جيوش العالم أخلاقية وإنسانية، يُقرّ بعجزه النسبي عن تجنّبه التام القاضي بعدم وقوع ضحايا من المدنيين لدى الطرف الآخر الذي هو في هذه الحالة بضع نساء وأطفال لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا نياماً في إحدى الليالي التي شهدت تدمير شقة سكنية في أحد الأبراج في غزة من خلال "صاروخ ذكي" و"إنساني" للغاية قَتل في طريقه نحو هدفه الذي هو "الطرف الآخر الإرهابي"، أكثر من عشرة نساء وأطفال، في العدوان الأخير (أيار / مايو 2032) على غزة المحاصرة.
رابعاً: محددات أنموذج الإبادة الفردية
انطلاقاً من مقاربة كرستين مونرو الخاصة بـ "علم نفس الإبادة الجماعية"، فإن ثمة إمكاناً لطرح مقاربة مغايرة لأنموذج الإبادة الفردية في سياق كينونة النكبة الكولونيالية، وذلك من خلال بلورة أولية لأهم المحددات الخاصة بهذا الأنموذج تتصدى للسؤال التالي: ما هي المحددات والإجراءات التي دفعت بالجندي الصهيوني المستعرب إلى إطلاق رصاصة قاتلة على رأس الشهيد نضال خازم كي يتأكد من قتله؟ وعليه سيتم تكثيف المحددات المتعددة التي يتشكل بها وعي الإبادة الفردية الخاص بالجندي الصهيوني المستعرب بستة محددات على النحو الآتي:
1 - التقسيم الثنائي: إن الإفراز الأولي للصهيونية كخطاب قومي كولونيالي هو المانوية الكولونيالية – المستعمِر والمستعمَر، القاهر والمقهور، نحن وَهُم – فخاصية الثنائية "المانوية" هذه هي من أهم عوامل تشييد واستقرار التمثيلات الصهيونية الكولونيالية كهوية وأيديولوجيا وممارسة، وبالتالي لا تحتمل هذه المانوية أنسنة الآخر المستعمَر، إذ إن مجرد الأنسنة يعني الثنائية والتقسيم المعرفي العنفي من خلال علاقة متكافئة وندِّية. "يتعلق الأمر إذاً، في نموذج تمثيل الهوية عند المستعمِر وبناء المعرفة بالعالم، بمانوية متمركزة عرقياً، لا مكانة للآخر فيها إلّا بصفته موضوعاً كولونيالياً، موضوعاً للإخضاع والقهر، لا يسمح بإنشاء أي منفذ لانبثاق علاقة إنسانية يحظى فيها الآخر بالاعتراف به كائناً إنسانياً."[28] وبهذا ينشأ الجندي الصهيوني خارجياً، أي نتاج الطقم من الخطابات والتصورات المعرفية الصهيونية للآخر الفلسطيني المستعمَر، وهذا الطقم يكتسبه الجندي منذ نعومة أظافره في المدرسة والمخيمات الصيفية التأهيلية ما قبل تجنّده في الجيش وفي جميع أجهزة السلطة الأيديولوجية – بتعبير لوي ألتوسير - وصولاً إلى الزي المنسوج من المخاوف والهوس والشكوك والسيطرة على الآخر الفلسطيني المستعمَر.
2 - المراقبة المسحية والرأسية الشاملة: تحوز أجهزة الأمن العسكرية الصهيونية على أحدث التقنيات الخاصة بعمليات المراقبة والمسح والتسجيل والتوثيق. فإذا كانت عمليات المراقبة الصهيونية جماعية الطابع في العقود السابقة، فإن من الملاحظ في الفترة الأخيرة أنها باتت شخصية ورأسية، وذلك من خلال استخدام تقنيات جرى الكشف عنها مؤخراً عن طريق منظمة "آمنستي" التي كشفت النقاب في تقرير لها في أيار / مايو 2023 عن ثلاثة أنظمة مراقبة عالية الدقة،[29] تستخدمها الأجهزة الأمنية العسكرية الصهيونية لمراقبة الفلسطينيين مراقبة فردية على حواجز التفتيش الكولونيالية المنتشرة في وما بين المدن الفلسطينية المستعمَرة، وهي: نظام "الذئب الأحمر"، ونظام "الذئب الأزرق"، ونظام "قطيع الذئاب". وما يجمع هذه الأنظمة معاً هو قدرتها على التقاط صور وجوه الفلسطينيين ومسحها وتوثيقها، في سبيل توفير أوسع وأعظم قاعدة معلومات عن الفلسطينيين المستعمرين من دون علم هؤلاء، الأمر الذي يكفل تحقيق أول مستويات الإبادة الفردية، وهو إبادة الخصوصية والسرية الشخصية للمستعمَر واستباحتها وإحالتها إلى مجرد معلومات أمنية استخباراتية خالية من العواطف والمعاني الإنسانية، إذ تحيل هذه المعلومات المعالجة أمنياً الفلسطيني إلى مجرد هدف محتمل؛ هدف خالٍ من الإنسانية والهوية والملامح. وبالتالي، تصبح عملية تصفيته وتحييده باللغة الأمنية الصهيونية مُيّسرة وغير معقدة. كما أن استخدام هذه الذئاب الإلكترونية في ملاحقة الفلسطينيين يهدف أيضاً إلى إضفاء بُعدَي التوكيل والإنابة، أي تأسيس المسافة المنشودة ما بين المستعمِر القاهر وبين ضميره الأخلاقي والإنساني المدّعي بما يكفل عدم خدش خطاب المظلومية والضحوية الذي شكّلته المفهمات الصهيونية في إبان عهود الاضطهاد والتمييز والمحرقة التي لحقت باليهود في أوروبا المركزية من جهة، والنازية من جهة أُخرى، ليغدو "الذئب الإلكتروني" في هذه الحالة نائباً ووكيلاً إلكترونياً لا يملك أدنى وازع أو رادع أخلاقي في أثناء ملاحقته وتصفيته للجسد الفلسطيني معلوماتياً وإلكترونياً، من دون أن يدرك الصهيوني المستعمِر تهافت ووهم هذه المسافة الأخلاقية الزائفة عندما يلمح رغماً عنه انعكاس ملامح الضحية التي كانها في صور ووجوه الفلسطينيين المستعمَرين المأسورين والمستباحين في قاعدة بياناته الأمنية.
3 - الابتعاد النفسي: هو بلغة كرستين مونرو تأسيس المسافة النفسية ما بين الجلاد والضحية، وهذا التأسيس لا يتحقق إلّا بارتباطه المباشر بالتقسيم بين الأنا والآخر، ثم تجريد هذا الآخر من إنسانيته، كي يتحمل في النهاية الشهيد نضال خازم وحده المسؤولية عن مقتله على يد الجندي الصهيوني المستعرب الذي بدوره لم يشعر بأدنى تأنيب ضمير بعد إطلاقه الرصاصة على رأس خازم. إن تفكيك الإنسانية في هذه الحالة يعني إلغاء ومحو الملامح الإنسانية، وفي هذا الجانب يقول الفيلسوف اليهودي إيمانويل ليفيناس (Emmanuel Levinas) "إن الآخر هو الكائن الوحيد الذي بإمكانه أن يغري المرء بالقتل. إغراء القتل هذا واستحالة القتل هذه، يشكلان الرؤية الفعلية للوجه. أن ترى وجهاً هو أن تسمع بالفعل 'لا تقتل' وأن تسمع 'لا تقتل' هو أن تسمع العدالة الاجتماعية."[30] غير أن الجندي لا يقوى على سماع أهم وصية من الوصايا العشر "لا تقتل"، فدوي الرصاص أعلى وأشد، وهو رصاص وقذائف منظومة القتل الممنهج الصهيونية التي تمت عملية تأسيسها من المواد الأولية للكولونيالية الممركزة غربياً، وهي السلطة وعلاقاتها بالمعرفة، لتنشأ بالنهاية بيروقراطية القتل ضمن نطاق مؤسساتي دولاني وقانوني حداثي وعقلاني للغاية، إذ "تتميز منظومة السلطة البيروقراطية بتضاؤل الاحتمال بأن يكتشف الفاعل الشذوذ الأخلاقي لأفعاله"،[31] لتغدو المرجعية الأخلاقية للسلطة البيروقراطية متميزة بلغة ومفردات جديدة مثل الولاء والواجب والانضباط. ومن هنا تتحقق قدرة البيروقراطية على الحلول محل الأخلاق، لا بل إنتاج منظومة أخلاقية جديدة، تتمثل في الكفاءة والدقة وتحقيق الغايات، ليصبح الفلسطيني كائناً مستباحاً (homosacer) – قانون روماني قديم يبيح قتل واستباحة واستعباد بعض الفئات من البشر - فلا تعود المسؤولية عن القتل أو الإبادة الفردية مسؤولية شخصية يتحملها الجندي، بل مسؤولية عائمة بلغة حنا أرندت،[32] أو مثلما يطلق عليها ستانلي ملغرام حالة الوساطة (agentic state) التي "تمثل ظرفاً سيكولوجياً يرى الأفراد فيه أنفسهم غير مسؤولين عن أفعالهم [لأنهم مجرد منفذين للأوامر]."[33]
4 - تطبيع القتل: إن القتل في وضح النهار مثلما جرى في حقّ الشهداء خازم وشريم وعوادين، يُعدّ إصراراً من طرف منظومة الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني على جعل الإبادة الفردية شأناً بديهياً وطبيعياً، لا بل يتوجب على الفلسطيني المستعمَر تذويته في أثناء متابعته ومشاهدته عمليات الإبادة التي تنفذها أجهزة الأمن العسكرية الصهيونية في وضح النهار وساعات الزحام بحيث لا يعود استخدام القتل الموجه والمنظم جماعياً فحسب، بل يصير أيضاً، فرداً ورأسياً في سياق الملاحقة والتصفية والتحييد ومصادرة الجسد. وهنا بالتحديد، يكتمل إجراء تطبيع القتل عبر إلغاء وإبادة ما هو ردة فعل طبيعية في مواجهته، فالقتل أو ممارسة الاعتداء القاتل يتطلب دفاعاً عن النفس، أي المقاومة بجميع أشكالها. وهذه المقاومة يجري التعامل معها من طرف المنظومة عبر إقامة وتأسيس عدة مفاهيم عنفية معرفية موجهة تمنح الجندي المستعرب القدرة على نزع الصفة الطبيعية عن المقاومة لتصير شذوذاً وإرهاباً وتخريباً، ويصبح مَن يمارسها بدوره كائناً ليس طبيعياً، بل مخرباً مسخاً في أثناء عملية مطاردته، ووحده القتل المرفق بسياسات الملاحقة هو الطبيعي، ليتجلى بُعد آخر من أبعاد الأمن الصهيوني هو الأمن الشخصي الوجودي أساساً، وهو أمن فردي ملتحم مع الهمّ الأمني الجماعي الصهيوني. وبالتالي، فإن سياسات الإقصاء والتنكيل والقتل التي ينتجها هذا الأمن ضد الفلسطينيين تستهدف في الأساس أجساد هؤلاء الفردية وشخصياتهم الخاصة بهم، إذ ليس ثمة متسع داخل الحيز الزمكاني الصهيوني الكولونيالي لجسد الفلسطيني المستعمَر، وهو ما يسمح بتوفير إجراءات إقصائه كلها عن متن الحركة الدائمة لحالة استعمار الأبارتهايد الاستيطاني الصهيوني، وأهمها الإجراء النابع من الصيغة المتجددة للمنظومة الأخلاقية الصهيونية، إذ "إن وضع الضحايا خارج دائرة واجباتنا الأخلاقية، واعتبارهم غير جديرين بالعطف تبعاً لذلك، يزيل الضوابط الأخلاقية أمام ارتكاب البشر للعدوان. إن جسد الضحية المجرد من بشريته لا معنى له، فهو نفاية، وإزالته أمر تقتضيه النظافة لا غير. وفي هذه الحالة لا يكون هناك أي إطار أخلاقي أو عاطفي يربط المعتدي بالضحية ويردعه عن القتل."[34]
5 - خلخلة زمكان الآخر: إن اختراق زمكان الفلسطيني المستعمَر من طرف الصهيوني المستعمِر، يتطلب توفير هذا الأخير لعدة ضمانات تكفل استباحته للوجود الفلسطيني بمعانيه الزمنية والمكانية والتاريخية، وهذه الضمانات يجري إعدادها وتطويرها داخل الكينونة الصهيونية الكولونيالية، أي في مستوياتها الميتافيزيقية – النفسية والمعرفية والأيديولوجية – فالزمكان بات صهيونياً ذا أبعاد توراتية خلاصية، ويتحقق على إيقاع برامج السيطرة والقمع والإقصاء وملاحقة الفلسطينيين داخل مركز مدنهم وأسواقهم وقراهم ومخيماتهم وميادينهم وفي الأوقات كافة.[35] وذلك في سبيل إخضاع الزمن الفلسطيني للزمن الصهيوني، الأمر الذي يسهّل عملية التدخل العنيف المستمرة لمجالات وإيقاعات الزمكان الفلسطيني، وهذا هو جوهر المانوية الكولونيالية بحسب فرانز فانون الذي ينقل "جيبسون" وصفه لهذا الجوهر الذي "يتم التعبير عنه بقوة بمصطلحات مكانية، لأن المانوية مستقلة عن الزمن. وبالنسبة إلى المواطن الأصلي التاريخ توقف. التاريخ هو تاريخ المستعمِر. وبالنسبة إلى المستعمَر ليس ثمة تاريخ سوى سيطرة المستعمِر على المكان."[36] وعليه، فإن نزع الإحساس بالزمن عن الفلسطيني بعد استباحة ونكب مكانه، يمنح المستعمِر الصهيوني أولوية فكرية معرفية كفيلة بتزويده بأخلاق الإبادة الفردية للفلسطيني "وما هو غير ممكن حداثياً هو تحقق زمن المستعمَر خارج الزمن الأورو - أميركي السائد، فالاستعمار بما هو امتداد بنيوي للمشروع الرأسمالي الحداثي ينفي الزمن عن المجتمعات المستعمَرة لتتموضع من ثم فضاء لا غير."[37] وهذا الفضاء هو مسرح الجريمة أو الإبادة الفردية الخالية من أي معنى زماني خاص بالفلسطيني المُباد، هذا الفلسطيني الذي يخسر سنوياً ما يقارب ستين مليون ساعة عبثاً وتنكيلاً وانتظاراً في أثناء احتجازه وتعطيل حركته خلال عبوره من حواجز التفتيش الأمنية الصهيونية الكولونيالية المنتشرة في وما بين المدن الفلسطينية المستعمَرة.[38]
6 - تضخيم خطر وعدائية الآخر المستعمَر: إن من أهم استراتيجيات القتل والملاحقة التي تنتهجها الأجهزة الأمنية العسكرية الصهيونية تجاه الفلسطينيين هي استراتيجيا "جزّ العشب" ("كيسوح ديشه" بالعبرية)، "وهو مصطلح جديد في اللغة الاستراتيجية الإسرائيلية يعكس فرضية أن إسرائيل موجودة في نزاع عصيّ على الحل، ومتواصل مع كيانات لادولتية تبادلها عداء متطرفاً."[39] كما تعني هذه الاستراتيجيا الهجوم الوقائي والاستباقي على كل مَن يحاول تأسيس مسار لمقاومة الكولونيالية الصهيونية، وتشمل عدة إجراءات من أهمها الملاحقة الحثيثة والاعتقال والمصادرة والإبعاد والاغتيال، أي الإبادة الفردية. أمّا مقوماتها فتتمثل في الإذكاء الدائم لهاجس "الخطر الوجودي" الذي يحيق ويحاصر دولة منظومة الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني، فضلاً عن تضخيم وتهويل حجم وتأثيرات التهديدات والمخاطر، أكانت على مستوى طفل فلسطيني مستعمَر يلقي الحجارة على آلية عسكرية صهيونية، أم الصاروخ البدائي التصنيع الذي يُطلق من قطاع غزة المحاصر ما بين تصعيد وآخر. ويصل التضخيم إلى أقصى درجة عندما يجري تشبيه محاولات الفلسطينيين المقاوِمة بجميع أشكالها، بما لحق بيهود أوروبا في إبان المحرقة النازية، الأمر الذي يستدعي بالضرورة الانقضاض الصاعق على كل مَن تسوّل له نفسه مجرد التفكير في مقاومة سياسات المنظومة الصهيونية.
إن سياسة حملة "كاسر الأمواج" – "شوبير غاليم" بالعبرية - التي أطلقتها الأجهزة الأمنية العسكرية الصهيونية منذ ما يقارب العامَين لمواجهة وكسر عمليات المقاومة الفردية وشبه الجماعية المنظمة في مناطق مثل نابلس وجنين – عرين الأسود وكتيبة جنين - أثبتت فتكها في عمليات الإبادة الفردية لمجموعة شبان وفتية جرى تصويرهم داخل المجتمع الصهيوني على أنهم مدربون جيداً ومسلحون بأحدث وأفضل الأسلحة الهجومية، ويشكلون تحدياً وخطراً عظيمَين على سلامة ووجود المنظومة الصهيونية. وعليه، فإن استخدام أرفع وأفضل الوحدات الأمنية العسكرية القتالية المتمثلة في وحدة هيئة الأركان الخاصة ووحدة العمليات الخاصة وكتيبة المظليين وجهاز الاستخبارات العسكرية أمان وجهاز الشاباك، هو استخدام مشحون ومهووس بجميع التفصيلات الأمنية والعقابية الرادعة التي توفّر المقومات النفسية والمعرفية للجندي القاتل الذي يغدو ضحية يدافع عن وجوده الأخير (last man standing) أمام بضعة فتية لم يتلقوا أدنى تدريب عسكري يؤهلهم لخوض مواجهة جدية مع أكفأ الجنود مهارة على مستوى جيوش العالم. إن هذه المحددات الأولية لأنموذج الإبادة الفردية داخل سياق كينونة النكبة الصهيونية الكولونيالية، شُيّدت من مقولات معرفية نجحت الحركة الصهيونية في إنتاجها على مستوى بنائها الفوقي بأبعاده النفسية والوعي الجمعي واللاشعور المعرفي، ثم قامت بممارستها على الفلسطيني كجسد وزمان ومكان، في ثنائية قائمة أساساً منذ سنة 1948على التطهير العرقي الزاحف والمستمر في تمثيلاته كلها التي تُعدّ الإبادة الجماعية المقنّعة بالإبادة الفردية أفظعها وأشدها فتكاً.
خاتمة
في سعيها الحثيث نحو التحرر الواعي من القوالب والمناهج المعرفية الممركزة غربياً، فإن دراسات السجن تؤسس لمنهج حرفي جدلي حي ومتفاعل وقادر على إعادة قراءة وتفكيك السياق العام للنكبة الكولونيالية، وإجراء وصوغ مقاربات مغايرة وجريئة تتصدى للأسس الرئيسية لعلم المعرفة الغربي بصيغته العنفية، الأمر الذي سيساهم حتماً في وضع المحددات الأولية لمعرفة متحررة تقاوم الكولونيالية الصهيونية وعنصريتها الفاشية. أمّا السعي نحو توفير مقاربة نقدية مغايرة لمفهوم ومحددات الإبادة الجماعية من خلال صوغ أنموذج الإبادة الفردية، فينبع من حاجة الفلسطيني المستعمَر إلى الانعتاق من كونه موضوعاً لممارسات وسياسات منظومة الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني، وتحوله إلى مقاوم ثقافي ومعرفي وإنساني على طريق استعادته جميع ملامحه الإنسانية الجميلة والحرة.
[1] انظر على سبيل المثال:
Bashir Bashir and Amos Goldberg, “Introduction: The Holocaust and the Nakba-A New Syntax of History, Memory, and Political Thought”, in: The Holocaust and the Nakba: A New Grammar of Trauma and History, edited by Bashir Bashir and Amos Goldberg (New York: Columbia University Press, 2018).
[2] تنتمي هذه الدراسة إلى تصور بحثي مستند إلى أدوات خاصة يقترح من خلالها الأسير الباحث مقاربة منهجية سيتم نشرها في إطار دراسة خاصة. ويكتفي الباحث في هذا الدراسة بتخصيص الجزء الأول للإضاءة على موقعيته البحثية. ويمكن مراجعة مدخل هذه المقاربة المنهجية في: باسم خندقجي، "أثر سياسات المعرفة في الخطاب البحثي الأكاديمي"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 128 (خريف 2021)، ص 184 - 199.
[3] إدوارد سعيد، "الاستشراق: المعرفة. السلطة. الإنشاء"، ترجمة كمال أبو ديب (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981)، ص 44.
[4] المصدر نفسه، ص 45.
[5] المصدر نفسه، ص 46.
[6] المصدر نفسه، ص 58.
[7] يائير أورون، "المحرقة، 'الانبعاث'، النكبة"، ترجمة أسعد زعبي، مراجعة وتقديم أنطوان شلحت (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار، 2015)، ص 47.
[8] المصدر نفسه.
[9] المصدر نفسه، ص 45.
[10] جلبير الأشقر، "العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية – الإسرائيلية"، ترجمة بشير السباعي (بيروت: دار الساقي؛ القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010)، ص 23.
[11] المصدر نفسه، ص 46.
[12] المصدر نفسه.
[13] أورون، مصدر سبق ذكره، ص 40.
[14] ماهر الشريف وعصام نصار، "تاريخ الفلسطينيين وحركتهم الوطنية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018)، ص 288.
[15] أورون، مصدر سبق ذكره، ص 44 - 45.
[16] المصدر نفسه، ص 45 – 55.
[17] دافيد باتريك هوتون، "علم النفس السياسي: أوضاع، وأفراد، وحالات"، ترجمة ياسمين حداد (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 298.
[18] المصدر نفسه.
[19] المصدر نفسه، ص 299.
[20] إيلان بابه، "التطهير العرقي في فلسطين"، ترجمة أحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007)، ص 20.
[21] عدي أوفير، "الأكاديميا الإسرائيلية واللاوعي السياسي"، "قضايا إسرائيلية"، العدد 53 (2014)، ص 7 - 13، في الرابط الإلكتروني.
[22] عزمي بشارة، "من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية" (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2005)، ص 18.
[23] انظر:
:Imogen Piper, Meg Kelly and Louisa Loveluck, “Israeli Agents Conducted Raid against Militants in Civilian Area, Killing a Child”, The Washington Post, 26 May 2023.
[24] Ibid.
[25] Ibid.
[26] راديو مكان: صوت إسرائيل بالعربية 6-92.4.FM. نشرة أخبار التاسعة، الجمعة: 26 أيار / مايو 2023.
[27] أورون، مصدر سبق ذكره، ص 42.
[28] محمد بو عزة، " تشكّل الهوية في ظل المواجهة الكولونيالية"، "تبيّن"، المجلد 7، العدد 26، (خريف 2018)، ص 25.
[29] Hagar Shezaf, “Technology to Entrench Apartheid, Amnesty International Says”, Haaretz, May 2, 2023.
[30] جوديث بتلر، "مفترق الطرق اليهودية ونقد الصهيونية"، ترجمة نور حريري (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 75.
[31] زيجمونت باومان، "الحداثة والهولوكوست"، ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014)، ص 254.
[32] المصدر نفسه.
[33] هوتون، مصدر سبق ذكره. ص 91.
[34] ورد في كتاب جيمس والر:
James Waller, Becoming Evil: How Ordinary People Commit Genocide and Mass Killing Oxford: Oxford University Press, 2007), p. 245.
[35] لمزيد في هذا الشأن، انظر: وليد دقّة، "احتلال شمولي: الحواجز كأداة للسيطرة على مستقبل الفلسطيني" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2012)؛ عبد الرحيم الشيخ، "المكان الموازي: رسم الزمن في فكر وليد دقة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 135 (صيف 2023). ص 187 - 220؛ قَسَم الحاج، "حظر التجول والإغلاقات العسكرية: اعتقال الزمكان الفلسطيني وتحريره"، في: عبد الرحيم الشيخ (تحرير)، "مفهمة فلسطين الحديثة: نماذج من المعرفة التحررية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022)، ص 119 - 165.
[36] نايجل سي. غيبسون، "المخيلة بعد – الكولونيالية"، ترجمة خالد عايد أبو هديب، مراجعة فايز الصياغ (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 186.
[37] اسماعيل ناشف، "معمارية الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة" (بيروت: دار الفارابي، 2012)، ص 219.
[38] المعلومات الواردة أعلاه مستقاة من برنامج "فلسطين هذا الصباح" على شاشة فضائية فلسطين التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية، والذي تم بثّه صباح يوم الخميس 25 أيار / مايو 2023.
[39] أحمد خليفة (إعداد وتحرير)، "استراتيجيا الجيش الإسرائيلي في ضوء المتغيرات الإقليمية والتهديدات المستجدة: دراسات لجنرالات وباحثين إسرائيليين كبار" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018)، ص 34.