من جنين إلى زرعين
النص الكامل: 

أجرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" هذه الحوارية مع القائد الوطني جمال حويل، اللاجىء من قرية زرعين المطهّرة عرقياً في فلسطين 1948، والمقيم في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، وهو عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"، والنائب السابق في المجلس التشريعي الفلسطيني، وأحد مؤسسي كتائب شهداء الأقصى وقادة معركة مخيم جنين في نيسان / أبريل 2002. وهو أستاذ العلوم السياسية والدراسات الفلسطينية في "الجامعة العربية الأمريكية" في جنين، ومؤلف كتاب "معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في سنة 2022. وقد أُجريت الحوارية على عدة جلسات، إلكترونية ووجاهية، امتدت من منتصف نيسان / أبريل حتى بداية أيلول / سبتمبر 2023، وأجراها الياس خوري وعبد الرحيم الشيخ. وتتناول الحوارية: مأساة اللجوء الفلسطيني والتاريخ الاجتماعي للمخيم؛ تأسيس مجموعات "الفهد الأسود" في إبّان انتفاضة الحجارة في سنة 1987 وتجربة الشهادة والأَسر والدراسة الجامعية؛ حركة الشبيبة الطلابية الفتحاوية والعمل في مؤسسات السلطة الفلسطينية؛ تأسيس كتائب شهداء الأقصى وقيادة معركة مخيم جنين 2002؛ الفوز في انتخابات المجلس التشريعي خلال الأَسر وانتخابات المجلس الثوري لحركة "فتح" في الحرية. وتستثمر هذه الحوارية موقعية حويل في حركة "فتح" والحركة الوطنية ومخيم جنين، ورفقة السلاح والأَسر مع القائدين الوطنيين مروان البرغوثي وزكريا زبيدي، لفتح باب الحوار الوطني المسؤول بشأن القضايا المصيرية المتعلقة بخيار المقاومة المسلحة، والاستقطاب الفتحاوي، وإنهاء حالة الانقسام الوطني. كما تتناول الحوارية قراءة حالة "إسرائيل" وتطرّف حكومتها، وتغوّل مستوطنيها، وتوحّش جيشها وأجهزتها الأمنية. هذه الحوارية هي رحلة في التاريخ السياسي والاجتماعي والعسكري للاجىء من مخيم جنين يرى أن العودة إلى زرعين باتت ممكنة وقريبة. 

 

 

جمال حويل، مخيم جنين، 2023

 

مخيم جنين: الولادة والأولاد 

كلاجئ فلسطيني ولد وعاش وقاوم في مخيم جنين، عرّفنا بهذا التاريخ الذي يتصادى مع نكبة فلسطين المستمرة، ويعبّر عن واحدة من صور الصمود المشرقة.

ولدت، أنا وأخي التوأم نجيب، في مخيم جنين في 4 تشرين الأول / أكتوبر 1970، وأصلنا من قرية زرعين في فلسطين 1948. وكانت ولادتنا بعد ستة أيام على رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، فسمّاني والدي جمال على اسم الرئيس جمال عبد الناصر، وسمّى أخي التوأم نجيب على اسم اللواء محمد نجيب. وحين كبرنا، أدركنا كم كان الحس القومي عالياً لدى الفلسطينيين عامة، واللاجئين منهم خاصة، وكم من الآمال كانوا يعلّقون على تحرير فلسطين وتحقق الوحدة العربية. زرعين قريبة جداً من جنين، وتقع على بعد 11 كم إلى الشمال من المخيم، وقد طُهّرت عرقياً في 28 أيار / مايو 1948. وهناك كثير من الروايات الشفوية التي كنا نستمع إليها من لاجئي المخيم الذين شهدوا أهوال النكبة، وأفتخر بأن جدتي زريفة البدر، المعروفة لأهل زرعين والمنطقة، كانت أول مَن أطلق الرصاص على العدو الإنجليزي والصهيوني، وكانت تُحضر السلاح والذخيرة للمقاومين من الأردن ومن سورية، وتشجع المقاتلين على الاستمرار في المقاومة. كانت الهجمة على القرية شرسة، وجُنّدت لها قوات ضخمة، واضطر الناس إلى النجاة بأنفسهم خلال الحرب. سكنت عائلتي في بلدة عرّابة في بادىء الأمر، ثم قيل لجدّي عيسى حويل، الذي خدم في الجيش العثماني 12 عاماً خسر خلالها خطيبته التي انتظرته ثمانية أعوام قبل أن تتزوج شخصاً آخر حين اعتقدت أنه استشهد في الحرب، إنه إذا لم يسكن في مخيم جنين فلن يعود إلى زرعين، فسكن المخيم... ولا تزال عودتنا برسم التحقق بعد رحيله ورحيل والدي.

يبدو أن تجربة جدّك تكررت معك، إذ انتظرتك خطيبتك ثمانية أعوام أيضاً، لكنكما تزوجتما في نهاية المطاف.

خطبنا أيضاً لفترة قريبة من تلك الأعوام، فقد كنت مطارداً لعام ونصف عام، كما أمضيت سبعة أعوام ونصف عام في الأَسر بعد معركة المخيم في سنة 2002. وأذكر أننا حددنا العرس مرتين: الأولى في 21 آذار / مارس 2002، غير أن اجتياح آذار / مارس أجبرنا على تأجيل العرس، والأُخرى في 17 نيسان / أبريل 2002، لكنني خضت معركة مخيم جنين ووقعت في الأَسر قبل الزفاف الذي لم يجرِ إلّا بعد تحرري من السجن. وأعتقد أن الفرق بيني وبين جدّي نابع من اختلاف الحالة، ذاتياً لأن الخبر جاء أن جدي استشهد ولم يؤسر، وموضوعياً بسبب الضغوط الاجتماعية الأقسى في الحقبتين العثمانية والإنجليزية. لكن، يسجَّل لخطيبة جدّي أنها انتظرت ثمانية أعوام، ومن الطريف أنها حافظت على الود، وأذكر أنها زاتنا في سنة 1985.

مأساة زرعين موثّقة، وهناك كتاب يسرد تاريخها ضمن تراجيديا النكبة للأخ إبراهيم حامد الذي يقضي محكومية تبلغ 54 مؤبداً في السجون الصهيونية، وعنوانه: "قرية زرعين" (1994) صدر عن مركز الأبحاث في جامعة بيرزيت.

كتاب الأخ إبراهيم هو عمل توثيقي نادر، وهذا ليس بالغريب عليه كونه أحد أبرز قادة المقاومة الوطنية في انتفاضة الأقصى، وابن بلدة سلواد المقاومة التي نشأ فيها كذلك الأخ ثائر حماد بطل عملية "عيون الحرامية". وقد التقيت الأخ إبراهيم في الأَسر، وتبادنا بعض الطرائف التي كانت تواجهه في أثناء توثيق تاريخ القرية والنكبة، وكنت ألاحظها بنفسي كوني ابن المخيم. على سبيل المثال، مقدار مساهمة العائلات في الثورة، وشرف الانتساب إليها. فزرعين، مثلما تعلمون، كان فيها قادة من ثورة القسّام، وتحديداً محمود سالم الذي كان همزة الوصل بين فرحان السعدي والشهيد عز الدين القسّام. والسعدي من قرية المزار المجاورة التي تشترك مع زرعين ونورس في كثير من الأحداث، وتشكل مثلثاً مقاوماً واحداً. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن زرعين تشتهر بآثارها الرومانية والإسلامية، وتُعتبر سلة غذائية للمنطقة، وربما هذا هو سبب تسميتها، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي كمطلّ على منطقة سهل مرج ابن عامر الذي يسمّى أيضاً سهل زرعين. ولعل موقعها كان سبباً في استهداف أهلها من طرف القوات الإنجليزية والعصابات الصهيونية منذ بداية الهجمة الاستعمارية على فلسطين خلال الانتداب، وخلال النكبة، وحتى اللحظة. لكن أهل القرية والبلدات المجاورة تصدوا لهذا العدوان المتواصل ببسالة... وقد خصصتُ فصلاً من كتابي "معركة مخيم جنين الكبرى 2002"، وأصله دراسة ماجستير في جامعة بيرزيت، لتغطية هذا التاريخ المقاوم على امتداد نحو قرن من الزمن. ومثلما تناهى إلى علمي، فإن العدو أقام نصباً تذكارياً لقتلاه الـ 23 خلال معركة زرعين، على مقربة من القرية، وللمفارقة فإن عدد الجنود القتلى في تلك المعركة هو نفسه عدد الجنود الذين قُتلوا في معركة المخيم!

أذكر الرجل الطيب والد الشهيد الذي كنا نراه في شارع الناصرة، وهو تحت الشجرة التي استشهد عندها ابنه. أذكر أنه من زرعين كذلك، وأنه أخبرنا مرة بأنه أعطى شهادة شفوية للأخ إبراهيم حامد.

هذا الحاج هو أحمد أبو لبان، وابنه سمير كان ممتازاً في المدرسة، وكان مسؤولاً عن الكتابة على الجدران، وكتابة البيانات واللافتات، لكن بعد بضعة أعوام من الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية استشهد بتاريخ 23 آب / أغسطس 1972... قصفوه بالطائرة. وبعد استشهاده زرع الحاج أبو لبان شجرة التين التي لا تزال متجذرة في المكان، وبقي يزورها يومياً من دون انقطاع لأكثر من أربعين عاماً، لأنه كان يرى فيه ابنه، ويجلس تحتها أطول فترة ممكنة ليمر به طيف الشهيد. وكان يقول لي أنه يرى زرعين وعين مائها حين يكون في ظل هذه الشجرة. كان مثقفاً مع أنه تعلّم القراءة والكتابة في الكتَّاب، وتوفي رحمه الله في 20 تشرين الأول / أكتوبر 2014.

هل كنت تتسلل أنت والشباب الفدائيون إلى زرعين خلال عملكم المقاوم؟

للأسف لم أزر زرعين على الرغم من امتلاء ذاكرتنا بها وعيشنا فيها من خلال حكايات الأهل. دخلنا الأَسر ونحن صغار، لكن أخي التوأم نجيب، الذي استشهد لاحقاً، وصل إلى زرعين مشياً على الأقدام. لم يخبرني أنه ذاهب هو وأصدقاء له... المهم أذكر قصة ذات دلالة حدثت معه. في ذلك اليوم، في سنة 1985، جلب معه طيور حمام من إحدى الآبار المهجورة، وكان الحمام قد آنس وحدة البئر، واتخذه منزلاً. فلما وصل إلى المخيم، كان رجل عجوز اسمه أبو عارف النشرتي من لاجئي زرعين يبيع أطفال المخيم حلوى "القْرَيْزَة"، وحين أخبره نجيب بقصة الحمام، قال له: "هذا الحمام إلنا من أيام البلاد، وكله إلي!" استغرب نجيب، وسأله كيف عرفه، فردّ الرجل: "عرفتهم من جنحانهم، بدّي إيّاهم!" الله يرحم الشهيد نجيب، زار زرعين، والبئر، وأتى بالحمام... لكنني لم أحظَ بزيارتها حتى الآن.

ما دمنا في سيرة الحيوانات، سنذهب من الحمام إلى الحمار، حدّثنا عن حمار الشهيد نجيب، وكان ذلك قبيل انتفاضة الحجارة في سنة 1987، أليس كذلك؟ حدّثنا عن المدرسة، وأجواء الانتفاضة.

ولدنا في المخيم، والتحقنا بمدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). كنت الأول بين تلاميذ الصف، ولم يكن الأساتذة يوافقون على إجلاسنا، أنا ونجيب، في مقعد واحد. وقد أرسل لي أحد الأصدقاء صورة لنا في الصف الأول، لم أتعرّف إلى نفسي فيها! كنا نذهب إلى المدرسة بحقيبة واحدة لأن حالتنا كانت مستورة. كان نجيب يحمل الحقيبة في الصباح وأنا أحملها في الظهيرة، لأنه كان يحب "يْطُشْ" مع أصحابه بعد المدرسة. كان والدي يعمل في الكهرباء في السعودية، ووالدتي تدبّر شؤون معيشتنا، وتدرّسنا وهي تهددنا بالعصا التي كانت تحملها في يدها، وفي الصف الرابع اكتشفت أنها لا تعرف القراءة والكتابة! لكنها، على الرغم من ذلك، أصرّت على تعليمنا: نجيب كان يحب الصناعة، وأنا أحب اللغة العربية، وأخي عبد الله يحب الرياضيات، وأخواتي يحببن التربية... وها نحن الآن: نجيب شهيد، وأنا أحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، وأخي عبد الله يحمل درجة البكالوريوس في الرياضيات، وأختي إيمان تحمل الدكتوراه في التربية، وكذلك أخواتي الأُخريات رائدة وتغريد ورويدة كلهن متعلمات وناشطات في العمل الاجتماعي. كان أبي وعمي أحمد معنيَّين أكثر بالجانب الوطني، ويحدّثاننا دائماً عن زرعين، وجدّتي المقاومة التي اكتسبت ثوريتها من خبرة جدّي في حروب تركيا على ما يبدو. وحين زرت والدة الأسير محمود العارضة، مهندس عملية "نفق الحرية" في 6 أيلول / سبتمبر 2021، أخبرتني بقصص لم أكن أعرفها عن جدّتي زريفة البدر التي ذاع صيتها في المخيم، وعرّابة، وجنين كلها... شَكْل جدّتي يشبه الثوار، وقد قتلت جندياً صهيونياً في زرعين، واستولت على بارودته، وأطلقت الزغاريد، ولحقت بالثوار وسلّمتهم البارودة. بالعودة إلى أخي نجيب، فقد اعتُقل في الصف الثاني الإعدادي وعمره 15 عاماً، ولحقت به أنا في العام التالي، وبقينا معاً حتى تحررنا سوياً، وكان هذا الاعتقال شرارة مهمة في وعينا الثوري. ومن الطريف أننا كنا من رواد المسجد، وكان المشايخ يولون جيلنا اهتماماً خاصاً، ويحرصون على تربيتنا وتثقيفنا دينياً، وينظموننا في فرق رياضية.

يعني البيت، والمدرسة، والمسجد، كانت كلها أمكنة ثقافة مقاومة...

تماماً، وكانت بداية معرفتي بالشبيبة الفتحاوية. أذكر في الصف الخامس أنني كنت عائداً من المدرسة، وكان ذلك بتاريخ 24 آذار / مارس 1982، ومررت بجورة الذهب التي سُميت كذلك لأن أهل المخيم يروون أن الجيش الأردني وجد فيها ذهباً. حينها، رأيت رجلاً ممدداً غارقاً بالدم وحوله نساء يندبنه. وحين سألت، عرفت أنه الشهيد فتحي قانوح، وكان جنود الاحتلال قد أطلقوا عليه النار بعد أن قتل ثلاثة منهم في عملية بطولية في شارع الملك طلال. كان ذلك في إثر التظاهرات الاحتجاجية على اجتياح بيروت، وإقالة سلطات الاحتلال لرؤساء البلديات، ومنهم المناضل الراحل كريم خلف، وتسميم مدارس الوكالة في المخيم. كان الشهيد فتحي بطل ملاكمة وكمال أجسام، ومن أيقونات الشبيبة الفتحاوية، وقدوة لجيلنا. كنا مبهورين بصلابته وإرادته وانضباطه، وطبعاً ببطولته التي مكّنته من إرداء ثلاثة جنود ببنادقهم وهو لا يملك إلّا خنجراً. وتكريماً له أُطلق اسمه على قاعة نادي الشباب الاجتماعي في المخيم. وقد لازَمْنا منذئذ أنشطة حركة الشبيبة الفتحاوية، وانخرطنا في أنشطتها من تنظيف الشوارع، والكتابة على الجدران، والمشاركة في التظاهرات. كان الشهداء الأبطال حسن أبو سرية، وسمير أبو لبان، وفتحي قانوح، نماذج عليا بالنسبة إلينا في الفداء والتضحية والعمل المقاوم في إطار حركة "فتح" وذراعها الطلابي حركة الشبيبة. ومع وصولنا إلى المرحلة الإعدادية تبلور وعينا الوطني، وصرنا نعرف لماذا يداهم جيش الاحتلال المخيم، ولماذا يجمع الناس ويعاقبهم في منطقة السهل.

بطبيعة الحال، إن وجودنا في مدارس الأونروا رافقته تشديدات من الإدارة وبعض المدرسين الممتثلين للأوامر بعدم السماح للطلاب بالمشاركة في الفاعليات الوطنية، لكننا كنا نخرق تلك التهديدات، ونتعرض للعقاب... كنا نحيي يوم الأرض، ويوم الشهيد، ونشارك في التظاهرات، ومع ذلك كنت متفوقاً في المدرسة، وكنت كابتن فريق كرة القدم، وكانت لياقتي البدنية عالية. كانت قلوبنا معلقة بالشهداء والأسرى وقادة الشبيبة المنخرطين في العمل الفدائي... كانوا قدوتنا. ومع إنهائنا شهادة "المترك"، وانتقالنا إلى المرحلة الثانوية، انخرطنا بفاعلية في حركة الشبيبة مع اندلاع انتفاضة الحجارة في سنة 1987، وكنت آنذاك المسؤول عن الطلاب في مدرسة جنين الثانوية. كنت أُمسك بالشاعوب ، وأتخيل نفسي في مشهد حربي، وأخطب في الطلاب محرّضاً إياهم على العمل الوطني، ونهج المقاومة، والانضباط الأكاديمي كمفتاح للعمل النضالي. كنا نردد شعارات لا نفهم بعضها، من نوع: "البندقية غير المسيسة قاطعة طريق" و"الثقافة أساس المقاومة". وفي مرحلة متقدمة، اطّلعنا على تجربة الشهيد عز الدين القسّام، وعلاقته بجنين، وآلية تشكيله المجموعات الفدائية، وعندها، يبدو أن أحداً وشى بي، فاعتقلني ضابط الاستخبارات الصهيوني، واسمه "كابتن أودي" في بداية الانتفاضة. اعتقلني بالقرب من المدرسة، وأخذني إلى "المركز" (مقاطعة جنين اليوم)، وكانت التهم تتراوح بين تحريض الشباب في الجلسات العامة والخاصة، ورشق الحجارة، وقنابل المولوتوف على جيبات الجيش، وباصات "إيغيد"، وسيارات المستوطنين... كنا شغَّالين فيهم سبعة بلدي!

انتفاضة الحجارة 1987: الحمار والمسدس 

قلت إن نجيب اعتُقل قبلك، هل التقيتما في الأَسر؟

صحيح. وقد تأثر نجيب كثيراً بتجربة السجن، ولم يستوعب تعامل إدارة السجون مع الأسرى على الإطلاق. وحين تحررنا وانخرطنا في الانتفاضة، كتب لي عبارة: "السجن ظلم ولن أعود إلى الأَسر مهما يكلّف الثمن"، وظل يرددها حين باشر، بعد استشهاد محمود الزرعيني، تأسيس مجموعات "الفهد الأسود"، محاكاة لتجربة ناصر البوز في نابلس، هو والأسير عبد الكريم عويس ووائل أبو سباع وإياد السلفيتي وكمال فحماوي ومروان الزيود وأحمد سمارة وأبو عوض كميل ومحمد الصباغ ومحمد السعدي وآخرون... وقد أحزنه وضع أسرتنا الاقتصادي وعمل والدي، وحالة أهل المخيم، ووجود الجواسيس الذي يعوق العمل الوطني ويضر بالمقاومين، فأصرّ على استئصال ظاهرة الجواسيس، وتحدي استخبارات العدو، ومواجهة جيشه ومستوطنيه، وردع أدواته. كانت أعمارنا تتراوح بين 17 و18 عاماً، لكننا لم نكن نمتلك التجربة الكافية للاشتباك مع الاحتلال على الرغم من امتلاكنا إرادة الفعل. وأذكر في إحدى المرات بعد انتقالنا إلى مدرسة جنين الثانوية، وخلال اعتقالي، أنني قفزت من الجيب العسكري، وهربت في اتجاه المخيم. والمفارقة أن الشباب اعتقدوا أنني جندي صهيوني، فبدأوا برشق الحجارة نحوي لاعتقادهم أنني ألاحقهم، بينما كان جنود الدورية يطلقون عليّ النار! وفي مرة أُخرى، اعتقلتنا قوات الاحتلال من البيت، ثم أفرجوا عني وأبقوا على نجيب. وفي الأيام التالية، كان ضابط الاستخبارات، "كابتن أودي"، يتردد على البيت ويقول لي: أنت تعتقد أنك بعيد عن أعيننا، لكننا نريدك في قضية المسدس، نريد أن نعرف مكانه، وفتشوا البيت من جديد. وجاؤوا مرة أُخرى، وكان من المفترض أن أتقدم لامتحان التوجيهي في حينه، لكنهم اعتقلوني وأبقوني في قيد الاعتقال الإداري عاماً كاملاً. وفي سنة 1982 قام الاحتلال بتسميم خزانات مياه مدارس الوكالة، وكانت أختي الكبرى رويدة ضمن الطالبات اللواتي تسممن، وأذكر أنني زرتها في المستشفى وهي فاقدة للوعي، وهذا مشهد لا يفارق مخيلتي.

كانت قيادات الشبيبة في حينه، وحتى قيادات "فتح"، متواضعة التجربة، وكانت معايير القيادة هي كم مرة رشقتَ حجارة، وكم مرة أطلقتَ النار، وكم مرة اعتُقلتَ، وكم بقيتَ في السجن، حتى إن ذلك انعكس على تجربة الأَسر. فقد أعاد إليّ الإخوة الفتحاويون ذاكرة تعامل المشايخ معنا في المسجد ونحن أشبال، إذ كانوا يتعاملون معنا بأسلوب تلقيني، ويكرسون تقاليد الولاء والطاعة، وينظّرون في أمور نحن أعلم بها منهم... ولذا، كنا ندخل في جدل طويل بشأن العمل الوطني وأساليب المقاومة والبُنى التنظيمية. في المسجد، أدركت متأخراً التقسيم الحزبي، وموقف المشايخ من منتسبي الجبهة الشعبية، و"فتح" التي يعتبرونها علمانية، ولاحقاً أبناء حركة الجهاد الإسلامي الذين ذهبوا في اتجاه آخر فكرياً... كنا متأثرين بتجربة "الكتيبة الطلابية"، واطّلعنا على كتابات منير شفيق الذي تعرفت إليه لاحقاً، ودارت بيننا سجالات بشأن الدولة الديمقراطية، والمواطنة، والمرأة، والمساواة، وضرورة الشراكة في النضال على الرغم من اختلاف الانتماء السياسي والأيديولوجي. وتكررت التجربة مع "فتح" في السجن في مرحلة لاحقة، حيث تسود ثقافة الكراسات التنظيمية والمسلكية الثورية والأسطوريات المكررة من الأسرى القدامى، لكننا تغلبنا على الاختلافات مع الزمن، وصار حضور "الآخر" في العمل المقاوِم ضرورة وطنية. ومن الطرائف التي تدل على التغير والانفتاح أن الأخ عبد الله عواد، المولود لعائلة مسيحية من عين عريك، كان أحياناً يكتب خطبة الجمعة! وعلى الرغم ممّا تعرضت له أنا وأخي نجيب الذي لم يكن معنياً بالسجال، فإننا تمكّنا من تغيير هذه الثقافة، وخصوصاً من خلال تولينا قسم الأشبال وتثقيفهم بطريقة مختلفة. كان نجيب وحدوياً، ومتقبّلاً للآخر السياسي، وكان أول مَن نفّذ الإضراب الشامل لحركة "حماس" في بداية انتفاضة الحجارة، إذ كان مع الإضراب بغضّ النظر عن أي شيء آخر. وقد تركت فيّ هذه التجربة الوحدوية أخلاقيات حميدة، كرفض تولي مواقع قيادية تنظيمية، والامتناع من أنشطة مراقبة سائر الناشطين في العمل الوطني، ولا سيما في الحركات الوطنية الإسلامية خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية، تحت أي ذريعة.

دعنا نرجع إلى قصة الحمار والمسدس والبارودة. يبدو أن تشكيل مجموعات الفهد الأسود ومن قبلها الخلايا الأولى لـ "فتح" في السبعينيات، وخصوصاً داخل فلسطين، مثل مجموعة أبو علاء منصور في رام الله، والتي كانت تابعة لـ "فتح" من دون أن تؤسسها "فتح" بنفسها، كانت ذات طابع فردي وارتجالي، وتذكّر بتشكيلات "عرين الأسود" و"كتيبة جنين" اليوم. فقد توجه الشباب إلى العمل الوطني بجهود ذاتية وتمويل شخصي، ونسبوه إلى "فتح" التي التقطت الظاهرة ورعتها.

أخي نجيب كان محباً للحيوانات، والسباحة حتى في بركة مليئة بالطحالب، لكننا كنا نسكن في بيت عائلة مستورة، وهو بيت صغير مكون من غرفتين ومسقوف بالقُصَّيْب والطين، لأننا لم نبنِ بيتاً مثل جميع الناس في المخيم. نجيب كان يحاول جلب عصفور أو زوج حمام أو دجاج أو كلب أو حمار إلى جوار البيت، وكان حلمه أن يقتني حصاناً، لكن وضع بيتنا لم يكن يسمح بذلك. كانت غاية سعادتنا الذهاب إلى قرية أهل والدتي "أم التوت" وركوب الحمير والخيول لأنها غير موجودة في المخيم. وقد ترافق حب نجيب للحيوانات والمغامرات مع رغبته في الحصول على السلاح. وحصل على أول مسدس في سنة 1985، وهو مسدس قديم جداً، باعه رغبة في الحصول على بارودة. وللمفارقة حصل عليها بطريقة غريبة. فقد علمنا أن شخصاً يقتني مجلات وفيديوهات إباحية من "إسرائيل"، وكانت هذه بطبيعة الحال جريمة اجتماعية ولها أبعاد أمنية! هوجم الرجل في بيته، وكانت الغنيمة بارودة، وليس فقط مصادرة المواد الإباحية. أمّا المسدس الثاني، فقد تمَّت مصادرته من موظف في "بنك لئومي" في جنين بعد مهاجمته وتقييد مسؤول الأمن في البنك. وفي قصة أُخرى، حصل نجيب والشباب على رشاش 250، أطلقوا منه النار على مبنى الحاكم العسكري "المركز"، ولثقله وسخونته بعد العملية تركوه في المكان! ولم يكن الناس مثل اليوم يتحلقون حول شباب الفهد الأسود ويتواصلون معهم، لكن نتيجة نبل الظاهرة، وخطورة العمل المسلح، كان نجيب محبوباً، وكان يخفي سلاحه تحت سترته، لئلا يراه أحد، وإن حدث ذلك حسبه الناس لعبة بلاستيكية. كان نجيب أيقونة، يحبّه الصغار. وقد حدث أن جبريل زبيدي، أخ الأسير القائد زكريا زبيدي، وكان لا يزال طفلاً، طلب منه حماراً صغيراً... قُرّ يعني. وفي إحدى المرات التي ذهب فيها نجيب إلى قرية رُمَّانة لجلب مسدس، وقع نظره على قُرّ، فأحضره للطفل جبريل زبيدي، الأسير لدى الاحتلال حالياً، وكانت فرحة جبريل بالحمار أكثر من فرحة نجيب بالمسدس!

وعلى الرغم من ذلك كشفت استخبارات الاحتلال خلية نجيب، واغتالوه، ولم يعتقلوه.

في تلك الفترة ذهبت للدراسة في الأردن بعد حصولي على منحة دراسية لأتخصص بطب الأسنان، لكنني بعدها تحولت إلى تخصص الاقتصاد والعلوم السياسية، وانتهى بي المطاف في الماجستير والدكتوراه إلى الدراسات العربية والعلوم السياسية والعلاقات الدولية. كانت معي هوية خضراء [هويات كان الاحتلال يصدرها للأسرى المحررين حتى تتم إعاقتهم وضربهم على الحواجز العسكرية]، ولمغادرة فلسطين، ألزموني بتوقيع نموذج مغادرة لثلاثة أعوام. وفي العام الأول لغيابي اغتالوا أخي نجيب لمقاومته الاحتلال وملاحقته العملاء وتصفيتهم، إذ كان يصرّ على إعدام الجواسيس شنقاً لقناعته بأن الواحد منهم لا يستحق رصاصة، فالرصاص كان غالي الثمن، والعقوبات الصهيونية باهظة. ففي يوم جمعة، دخلَت الوحدات الصهيونية الخاصة مخيم جنين متنكرة بلباس نساء وشيوخ ومعهم دمى أطفال تبيَّن لاحقاً أنها بنادق، وذلك في أول عملية اغتيال لشباب الفهد الأسود، فهذا النمط من التصفية لم يكن سائداً حينها ولا معروفاً لدينا. وللأسف لم يكن سلاح نجيب معه لأنه أعطاه لأخ من أجل تنظيفه، وحتى السنجة التي كان يحملها كان أعارها للحّام في المخيم قبيل الاغتيال. كان نجيب ينتظر إشارة لزيارة والدتي، لأنه كان مطارداً ولم يرها منذ فترة طويلة، وفي الوقت نفسه أعتقد أنه جرى نصب كمين له، إذ استفزه بعض الناس حين أخبروه بأن عائلات الجواسيس المقتولين ترغب في الانتقام، فجاء إلى جورة الذهب تحدياً. وفور نزول الوحدة الخاصة من السيارة بدأوا بإطلاق النار، وأصابوه بـ 13 رصاصة. حينها حضر "يتسحاق مردخاي"، قائد ما يُعرف بـ "المنطقة الوسطى" في جيش الاحتلال الذي كان يشرف على العملية بنفسه، ونقلوا نجيب إلى مستشفى "رمبام" في حيفا. وحين زاره والدي، قبيل إعلان استشهاده في 1 آذار / مارس 1991، أخبرني أن حرّاسه كانوا من جيش أنطوان لحد، ويتحدثون اللهجة اللبنانية! كان أخي مكبلاً على الرغم من إصابته البالغة، وسرعان ما أصيب بشلل تام، ولم يكن يتحرك فيه سوى عينَيه.

 

 جمال حويل وأخوه الشهيد نجيب حويل، جنين، 1989

 

 الوالد الراحل مصطفى حويل وابنه نجيب قبل استشهاده، حيفا، 1991

 

 الوالدة الراحلة فتحية علاونة - حويل وابنها نجيب قبل استشهاده، حيفا، 1991

 

وبعد استشهاده، لم يُسمح لك بالعودة لوداعه؟

لم يسمح لي بالعودة! كنت مسؤولاً عن الطلبة الفلسطينيين في الجامعة، وهناك التقيت بالحاج غازي الحسيني، نجل الشهيد عبد القادر الحسيني، وكان مسؤولاً في القطاع الغربي، وبالأخ مروان البرغوثي الذي كان مبعداً في حينه. كما تعرّفت إلى الأخ تيسير أبو سنينة رئيس بلدية الخليل حالياً وأحد أبطال عملية الدبُّويا في سنة 1980، والأخ مروان زلّوم، "أبو سجى"، وهي اختصار لاسم سرايا الجهاد الإسلامي التابعة لحركة "فتح" في حينه، وقائد كتائب شهداء الأقصى في الخليل الذي استشهد في انتفاضة الأقصى. بدأنا التدريب في الأردن بسرية تامة، وكنا نرتدي الأقنعة كاحتياط أمني. وبعد انتهاء فترة الأعوام الثلاثة، نزلت على الجسر ولم يكن في ذهني سوى أخي الشهيد نجيب. التقيت برجل متدين، وكان يعرف نجيب ويعرفني وقال لي: إن التوائم لا يموتون، وإن نجيب موجود في داخلي. وكان ذلك على قدر كبير من الصحة، إذ كان هاجسي ولا يزال أنني سأقضي شهيداً مثل نجيب. ولدنا معاً، وتربينا معاً. كان يزيل البطّانية عنه ليدفئني، ويقاسمني الطعام في البيت والسجن. كنا نذهب معاً إلى المدرسة ونقتسم الحقيبة نفسها، ونذهب معاً في عطلة الصيف للعمل في قطاف التفاح في الجولان، والسباحة في بحيرة طبرية على الرغم من قلة ذات اليد. كنا ننام على سطح بيتنا، وبعد منتصف الليل نتلثّم بالكوفيّات ونذهب للاشتراك في أعمال  الانتفاضة... كنا نوفّر مصروفنا معاً ونشتغل لمساعدة والدنا العامل البسيط والفقير الحال، حتى إننا أرجعنا والدي في أحد أيام الإضراب الشامل ونحن ملثّمان ضمن "القوات الضاربة". لن أنسى ذلك المشهد الذي أعدنا فيه والدي وهو يحمل زوّادته إلى البيت... كنا في مرحلة طُهر ثوري، وتنسُّك، وكم هو مؤلم مجرد التفكير في أن ذلك كله قادنا إلى ما نحن فيه الآن من متاجرة بالقضية. كنا معاً... وحين ودّعته للمرة الأخيرة، قبل مغادرتي إلى الأردن، قلت له: يا نجيب أنت تسير في طريق صعب وخطر، وستكون عرضة للشهادة في أي وقت، والشهادة كلسعة النحلة مثلما تعرف. فقال لي: "أنا جاهز لهذا الخيار، ولن أعود إلى السجن مهما يكن الثمن." كان استشهاده متوقّعاً، وخلال وجودي في الأردن كنت أتواصل معه برسائل مشفّرة.

سمعت خبر استشهاده من "إذاعة القدس" مباشرة، ولم يبلّغني به أحد، وكان الخبر هو: "فرض منع التجول على جنين ومخيمها في إثر اغتيال قائد مجموعات الفهد الأسود نجيب حويل." نزلت إلى الجسر، فاعتقلوني بطريقة وحشية: هجموا عليَّ، وألقوني أرضاً، وقيّدوني، ووضعوا على رأسي "شْوَال" خيش، وهم يصرخون أنني تاجر مخدرات! نقلوني إلى مركز احتلالي في الخان الأحمر في ظروف قاسية، ووضعوني في غرفة باردة وأنا مقيَّد إلى الخلف بوضعية "الموزة" وكيس الخيش على رأسي حتى الصباح. ثم نقلوني في سيارة إلى مركز اعتقال آخر لم أعرف أنه مركز تحقيق جنين إلّا حين سمعت صوت المؤذن لصلاة الفجر الشيخ عبد السلام أبو الهيجا. هناك التقيت بالقائد الحمساوي الشهيد نصر جرار، والد الشهيد أحمد نصر جرار، والشهيد أبو مصعب الحلاجي، نسيب الأخ زكريا زبيدي، وكانا رهن الاعتقال على خلفية عملية الشهيد رائد زكارنة الذي نفّذ عملية فدائية كبرى في العفولة في 6 نيسان / أبريل 1994 رداً على مجزرة الحرم الإبراهيمي التي ارتكبها المجرم باروخ غولدشتاين في 25 شباط / فبراير 1994. بقيت في التحقيق سبعين يوماً، ثم حوّلوني إلى الاعتقال الإداري قبل عودتي لإكمال دراستي في الأردن. كان ذلك في سنة 1994، وكانت السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا. لم يحققوا معي عن أي شيء له علاقة بنشاطي في الأردن، وإنما عن رغبتي في الثأر والانتقام لأخي الشهيد. والغريب أن ضابط الاستخبارات "كابتن أودي" تقصّد أن يكون أول موضوع يتحدث فيه خلال التحقيق هو نفي تهمة اغتيال أخي نجيب عن نفسه، مع أنه كان يعلم بالعملية وأن اسم نجيب كان على رأس قائمة الاغتيالات. وقد أسرّ لي بأن الضابط الصهيوني الذي قتل أخي هو "كابتن نير" الذي كان قائد الوحدة الخاصة، وأنه أخذ عملية اغتيال نجيب كتحدٍّ أمام مسؤوليه. كان ضباط الاستخبارات، وخصوصاً "سيناي" و"أودي"، يلقون بعض العبارات التي تشير إلى معرفتهم بما سيحدث بعد تأسيس السلطة الفلسطينية. قال لنا "سيناي": "في يوم ما ستجلسون مكاني هنا، وتقومون بما أفعله الآن!" أمّا "أودي"، فأذكر، في صغري ربما في سنة 1987، أنه استوقفني في المخيم، وقال لي: "نحن نعتقل 'فتح'، ولا نعتقل 'حماس'، لأنهم أقلية في المخيم. لكننا نريد أن نصنع منكم كلبين يأكل الواحد منكما الآخر." وفعلاً، هذه استراتيجيا صهيونية مستمدة من سياسة "فرّق تَسُد"، وسياسة الاحتواء، وتعزيز الصراعات الداخلية في الحركة الوطنية الفلسطينية... المهم، لم يكن استشهاد نجيب هيّناً، ولم أتقبل فكرة أن أكمل دراستي وهو في التراب، وكنت أتساءل ما إذا كان ذلك ابتعاداً عن نهجه. بعد أن تعاهدنا، ودّعته، وذهبنا كل في طريقه، لكنني أحسست بأنني تركته وحيداً. ولذا، أوصيت في حالة استشهادي أن أُدفن مع نجيب في القبر ذاته. 

ألا تريد أن تُدفن في زرعين، عودة بالموت إن لم تكن عودة بالحياة؟

نموت في جنين كي نحيا في زرعين. هذه حياتنا: من زرعين إلى جنين، وبالعكس! أمضينا هذه الحياة بين المخيم والسجن والمقبرة. تنقّلنا بين عدة سجون. كنا في سجن عتليت، وكانت ظروف الحياة فيه صعبة جداً: معتقل وسخ، وضرب، وإهانة، وتفتيش عارٍ، ورش بمواد كيماوية ضد القمل، شيء يشبه معسكرات النازية! وهناك، تعرّفنا إلى بعض المقاتلين الذين أُسروا في عمليات لحزب الله، أو أسرى من الإخوة اللبنانيين من تنظيمات أُخرى. عشنا في معسكر على أرض عناتا، اسمه "سجن عناتوت"، وكان مخزن لمركبات عسكرية ودبابات، كما عشنا في سجن النقب، وسجن جنين، وسجن نابلس. ولديّ بعض أوراق الصليب الأحمر ورسائل نجيب ورسالة من الشهيد محمد السعدي إلى أخي نجيب وهو في سجن النقب، وكان السعدي من شباب الفهد الأسود، وهو الذي صفّى الجاسوس الذي وشى بأخي نجيب.

العودة إلى فلسطين: الشبيبة والختيار

لكنك بعد التحرر من السجن عدت إلى الأردن لاستكمال الدراسة، فعززت علاقاتك التنظيمية داخل "فتح"، وخصوصاً مع الأخ مروان البرغوثي. حدّثنا عن تلك الفترة، وعن عودتك وعملك في السلطة الفلسطينية وغير ذلك.

خلال الفصلين الأول والثاني لدراستي صرت المسؤول عن ملف طلبة فلسطين، ونادي الطلاب العرب والأجانب، في الجامعة. ولم يكن هذا النوع من العمل الطلابي معهوداً في الجامعة، لكن ساعدنا الظرف العام لحرب الخليج، ووقوف الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب العراق في حينه. استعنّا بالطلاب الأجانب، من فرنسا والبوسنة والهرسك وأريتريا وأندونيسيا، في تنظيم بعض الأنشطة المتعلقة بفلسطين. وقد التقيت أخي مروان البرغوثي بالمصادفة، ثم تعززت علاقتنا. فأنا كنت أعرفه عن بعد من خلال زياراتي لجامعة بيرزيت في أيام الشباب من أجل المشاركة في أنشطة متعلقة بالشبيبة الفتحاوية، وكنا نستمع إلى خطاباته الحماسية ونعجب بها. وحين تم إبعاده في 14 أيار / مايو 1987 كان اسمه لامعاً، كرئيس لمجلس الطلبة في جامعة بيرزيت لثلاث دورات متتالية، وقيادته لحركة الشبيبة الفتحاوية. وبالمناسبة هناك مقابلة منشورة معه يقول فيها حرفياً: "نحن مقبلون على انتفاضة عارمة"، قبل نحو ستة أشهر من اندلاع الانتفاضة، وفي وقت لم تكن حتى كلمة "انتفاضة" شائعة. أذكر أنه التحق بالجامعة فصلاً واحداً في درجة الماجستير، لكنه لم يكمله بسبب العودة إلى فلسطين مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في إثر اتفاق أوسلو في سنة 1993. وعلى الرغم من فارق العمر الذي بيننا، فإن علاقتنا شرعت تتوطد بشكل ممتاز، وجرى تدريب أكثر من 200 طالب في الأردن، وإرسال عدد من الإخوة إلى لبنان. وكان أبو القسّام حين يزورنا في الجامعة يضفي جواً ثورياً خاصاً. وفي تلك الأثناء أرسل العراق إلى الأردن أسلحة صغيرة، آلاف الكلاشينات، وكان هناك ساحات تدريب في الجامعة، وآنذاك ترددت إشاعة فحواها أن "الإسرائيليين" سيهاجمون الجامعة! كان هناك رقابة مشددة من طرف عمادة شؤون الطلبة، وكنا نحشد المئات لمواجهة مَن يريد إعاقة عملنا الطلابي: من ارتداء الكوفية وتوزيع البيانات والمشاركة في الأنشطة، إلى تعليق صورة قائد وطني فلسطيني مثل أبو إياد خلال معرض طلابي، وانتهاء بالاستقطاب من أجل التنظيم والتدريب العسكري. وأذكر مرة أن عميد شؤون الطلبة استدعاني، وكان لقاء صاخباً، وحين غادرت طلب مني التوقيع، فوقّعت اسمي على هيئة خريطة فلسطين! فسألني: "كل طلاب الضفة هيك؟" فقلت له: "كل طلاب فلسطين هيك!" طبعاً أنهيت دراستي وعدت إلى البلد.

كانت السلطة الفلسطينية في طور التشكل، وكانت حركة "فتح" تشهد تغييرات تنظيمية أهمها تشكيل "اللجنة الحركية العليا" التي ترأّسها الأخ مروان البرغوثي، وجرت انتخابات المجلس التشريعي... حدّثنا عن تلك التحولات.

بعد التخرج عدت إلى الضفة الغربية، والتقيت أخي مروان البرغوثي. كان رئيساً للجنة الحركية العليا، وأنا عملت في الشبيبة التي كانت قيادتها مقتصرة على جامعتَي بيرزيت والنجاح. ونظراً إلى صداقتي مع زميل دراسة وشريك سكن سابق هو الأخ بلال دويكات، وكان من المبعدين الستة إلى الأردن بعد حصار جامعة النجاح الوطنية في نابلس في 17 تموز / يوليو 1992، والذي تسلَّم مدير استخبارات طوباس... أقنعني بالعمل معه، وصرت نائباً له! كان الموضوع هزلياً من بدايته حتى نهايته: اعتقدت نفسي جيمس بوند، مع أنه لم يكن في تلك الفترة "ضغط عمل" مثل اليوم! كنا نشتغل "شؤون اجتماعية" أكثر من كوننا جهازاً أمنياً. ومع ذلك ذهبنا إلى دورات خارجية وتدربنا مع الاستخبارات المصرية والإيطالية. وفي حينه، زرت سويسرا وألمانيا، والمفارقة أننا اعتُقلنا بتهمة حمل جواز سفر مزور، ودخول غير قانوني إلى البلد! لم أقتنع بالعمل في الاستخبارات، وانتقلت لفترة قصيرة إلى وزارة الصناعة حيث منحوني أخفض درجة في الوزارة! لم أمكث طويلاً كذلك، وانتقلت إلى العمل في دائرة الرقابة على الائتمان في بنك فلسطين الدولي، ثم عملت في المجلس التشريعي الذي كان في حينه في قيد التأسيس (1996 - 1997)، وعُيّنت مديراً عاماً للدائرة الاقتصادية، قبل أن أصبح عضواً في المجلس عن حركة "فتح" في فترة لاحقة. بعد ذلك انتقلت إلى مكتب رئيس المجلس التشريعي الأكثر مرونة من حيث ساعات الدوام، وذلك للتفرغ للشبيبة الفتحاوية. وفي ذلك الوقت، نظّمنا زيارات لعدة دول في العالم، بتنسيق مع الأخ أبو القسّام، وكنا نواجه تحديات كبيرة من طرف الصهيونيين في أوروبا، وخصوصاً في السويد. وبعد أن صرت عضواً في المجلس التشريعي بعد نحو عشرة أعوام، وأجريت عشرات الزيارات كنت أتذكر تلك المرحلة، وصار لدينا مقاربات جديدة لخدمة القضية الفلسطينية بعيداً عن مناكفة الصهيونيين ومناصريهم. 

عملت مع الشبيبة، وتضمّن عملك تدريباً للأشبال، وهناك دراسة خاصة للأخ علاء دنديس بشأن أهمية تدريب الأشبال والشبيبة قبيل اندلاع انتفاضة الأقصى... حدّثنا عن ذلك، وعن صورتك مع أبو عمار.

الأخ أبو القسّام كان يضع رهاناً كبيراً على الشبيبة، وأنا شخصياً كنت ولا أزال مقتنعاً بهذا الرهان. أقمنا العديد من معسكرات الأشبال في جنين، وكنا نتطلع إلى مساهمة الشبيبة والشباب في أي مواجهة مقبلة، فأيامنا كلها مواجهة مع الاحتلال... كان لهم دور فاعل في "هبّة النفق" في 25 - 27 أيلول / سبتمبر 1996. وفعلاً، فإن دراسة الأخ علاء دنديس "الكفاح المسلح الفلسطيني، انتفاضة الأقصى 2000: فتح في جبل الخليل نموذجاً" (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2017)، هي أفضل توثيق لدور التعبئة على مستوى الشبيبة في خلق جيل المواجهة الأحدث سناً من كتائب شهداء الأقصى. أمّا الصورة مع الأخ أبو عمار، فأُخذت في بداية انتفاضة الأقصى، إذ كان يصرّ على أن يدور علينا هو كي يسلِّم، لا أن يقف ونسلّم عليه نحن، في إشارة إلى أنه ما زال شاباً. وكانت الجلسات معه عاصفة، وخصوصاً في لحظات التوتر والاعتقالات السياسية التي كنا نتوسط فيها لإخراج المعتقلين، مثل قضية طرد وزير الخارجية الفرنسي لوينيل جوسبان من جامعة بيرزيت في 27 شباط / فبراير 2000 على خلفية تصريحاته التي وسم بها المقاومة بالإرهاب... لكن في هذا اللقاء الأخير، كان السؤال الأساسي إن كان هناك قرار سياسي بالتصعيد. فقال حينها: "أنا أسقطت باراك، وبدّي أسقّط شارون." كانت هذه خلاصة لقاء كان مقرراً له نصف ساعة فاستمر ثلاث ساعات... وكانت الصورة الأخيرة معه.

 

 ياسر عرفات ومروان البرغوثي، رام الله، 1998

 

ياسر عرفات وجمال حويل، رام الله، 2000

 

ياسر عرفات وزكريا زبيدي، جنين، 2002

 

"مظلة مروان": فلسطين بين حقبتين

هذا الحديث يفتح المجال للمقارنة مع الحقبة الحالية. كنتم، تحت مظلة الأخ مروان البرغوثي، تديرون الشبيبة بطريقة مختلفة: لجنة حركية عليا، وتنظيم، واستعانة بأكاديميين كبار لمرافقة وفود الشبيبة إلى الخارج من وزن الراحل هشام أحمد فرارجة، وتدريب ميداني للشبيبة والشباب في المخيمات الصيفية وحتى في معسكرات الأمن الوطني، الأمر الذي تسبب باحتجاج أميركي رسمي لدى الرئيس أبو عمار. لكن ذلك كله تبخّر... كانت الشبيبة وقود الثورة، لكنها صارت الآن وقود السلطة. كان أبو عمار يلعب بأكثر من كرة، بينما اليوم هناك كرة واحدة فقط، فضلاً عن مهارة على اللعب بها.

كل شيء تغير ما عدا وحشية "إسرائيل"، وسفورها تجاه الحقوق الفلسطينية. الشبيبة تغيرت، و"فتح" تغيرت، والسلطة تغيرت، ومنظمة التحرير تغيرت، وحركة "حماس" والمعارضة الفلسطينية تغيرت أيضاً. واسمحوا لي بتوضيح ذلك بالتفصيل. أولاً، الشهيد الراحل أبو عمار، رأس الوطنية الفلسطينية، كان يستند إلى رمزية كبرى وشرعية ثورية على الرغم من المعارضة الشديدة لاتفاق أوسلو من يومه الأول. لكنه أصر على "ملاحقة العيّار لباب الدار" على جميع الجبهات، العدو والصديق. لقد استطاع خلق إجماع فلسطيني على مواجهة "إسرائيل" سياسياً وميدانياً، وهبّة النفق وانتفاضة الأقصى ومن ضمنها معركة مخيم جنين، تشهد على ذلك. لقد وظّف أبو عمار، بشخصيته الكاريزماتية، الشبيبة و"فتح"، حركة وتنظيماً، وأجهزة السلطة، ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية لتحقيق مشروعه، إن جاز القول. ثانياً، حركة "حماس" كانت، في حينه، تنحت شرعية نضالية في الميدان، وهي شرعية معمّدة بالدم من خلال العمليات الفدائية النوعية، العادية والاستشهادية. وكان هذا رصيدها في الحوار للانضواء تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية، وليس منطق الانقسام والمحاصصة السياسية بالقوة. أمّا حركة الجهاد الإسلامي، فكانت ولا تزال تعبّر عن رغبة صادقة في المشاركة في عملية التحرر الوطني من دون مطامح سياسية معلنة في الحكم، وقد عمّدت ذلك المسعى بالدم من الشهيد فتحي الشقاقي ومحمود طوالبة، حتى الشهيد خالد منصور وشهداء "كتيبة جنين". أمّا اليسار، وخصوصاً الرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فموقفهم واضح حيال التمسّك بشرعية البيت الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من تغيّرها، وهم يصرّون على مواجهة العدو على الرغم من شحّ الإمكانات، وقد دفعوا في سبيل ذلك دماء قادة، وأعوام أَسر، من الرفيق أبو علي مصطفى حتى الرفيق أحمد سعدات. ثالثاً، كان أبو عمار يلعب بالبيضة والحجر: من إعلان "نبذ الإرهاب" وما تبعه من اعتقالات سياسية وتوتر داخلي كان يحلّه بتقبيل رأس الشيخ الشهيد أحمد ياسين، حتى صرخته "شهيداً، شهيداً، شهيداً" ورشاشه أمامه وهو محاصر في مقاطعة رام الله حتى استشهاده. رابعاً، في حينه لم يكن النقد بهذا الحجم على السلطة، وعلى تفكك المنظمة، ربما لأن السلطة والمنظمة لم تكونا بهذا الانكشاف، وربما لأن العلاقة مع الناس ومع "إسرائيل"، وخصوصاً "التنسيق الأمني"، لم يكونا بهذا الوضوح، أو لأن وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد مكّنت الجميع من قول ما يريد في نقد القائمين على "المشروع الوطني" المتهاوي. خامساً، كان مشروع ياسر عرفات إقامة دولة، وإن لم يوصله اتفاق أوسلو إليها، في الوقت الذي لم يرَ "الإسرائيليون" في أوسلو غير حل لمشكلة الأمن بسواعد فلسطينية، وتخلُّصٍ من تبعات الاحتلال في إدارة سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ذلك بأن السلطة الفلسطينية هي وكيل أمني يدير منطقة أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة. لكن الحكم الذاتي بتلك المواصفات لم يتحقق أيضاً! وحين أدرك أبو عمار فشل أوسلو، ولا سيما بعد مباحثات كامب ديفيد مع إيهود باراك، وضع سلاحه على الطاولة، واستثمر في انتفاضة الأقصى. 

توقفت في المقارنة عند العلاقة بالناس، واستشراء التنسيق الأمني، ولم تتحدث عن التحوّل في البرنامج السياسي لدى القيادة الفلسطينية الحالية.

الأخ أبو عمار أصاب، وأخطأ، وعاد إلى الصواب. أصاب بتبنّي خيار الكفاح المسلح، وأخطأ في المسار السياسي الذي لم يقد إلى دولة ولا حتى إلى تنفيذ مراحل أوسلو، وعاد إلى المواجهة المسلحة، واستشهد. أمّا الأخ أبو مازن، فمع أنه يعرف بتاريخ الصهيونية وفكرتها، مثلما توضح كتاباته وخطاباته، إلّا إن برنامجه قائم على تشخيص فحواه أن أبو عمار أخطأ في العودة إلى نهج الكفاح المسلح في هبّة النفق وانتفاضة الأقصى. لكنه لم ينظر إلى تسويف "إسرائيل" ونظرتها إلى الطبيعة الوظيفية للسلطة الفلسطينية في حفظ "الأمن" وإدارة شؤون السكان، من دون دولة، ولا سيادة، ولا حتى سلطة، وهذا ما صرّح به الأخ أبو مازن نفسه: "نحن سلطة بلا سلطة." وقد جرّب برنامجه الذي آمن به قبل أكثر من عشرين عاماً على أوسلو، والقائم على المفاوضات والمسار الدبلوماسي والقانوني، ونبذ الكفاح المسلح نهائياً، لكن هذا الرهان فشل. فلا إسرائيل ولا الأميركيون أعطوه أي شيء، بل إن هذا المسار حوّل حقوقنا السياسية إلى مسائل مطلبية من اختصاص قائد جيش الاحتلال في الضفة الغربية، و"منسق الإدارة المدنية". لقد تحولت قضيتنا إلى أموال مقاصّة، وبطاقات VIP وBMC، وتصاريح عمل، ودفعات لم شمل، وتسهيلات لزيارة الأماكن المقدسة في الأعياد يتم إلغاؤها في العادة... وحتى خيار المفاوضات الذي نرفضه لعبثيته، لم يعد قائماً! لقد أدى هذا البرنامج إلى تفتيت الوضع الفلسطيني، وتكريس الانقسام، وزعزعة وحدة "فتح"، وتفريغ المنظمة من مضمونها، وتعطيل المؤسسات السياسية، وانهيار القضاء... وفي المقابل، تعززت سيطرة "إسرائيل"، وزادت المستعمرات بشكل سرطاني، وتغوّل المستوطنون، ووصلت العنصرية إلى أقصى حدودها بعد إعلان "قانون القومية اليهودية" في سنة 2018، واستيلاء اليمين الديني على السلطة، ونقل سفارة أميركا إلى القدس، وبلغ التطبيع الرسمي العربي، الذي صار "تتبيعاً" على رأي الأستاذ الياس خوري، حدّاً لم يخطر في بال "الإسرائيليين" حتى في أجمل أحلامهم... وصلنا إلى انهيار تام في النظام الفلسطيني، وإدارة ظهر من طرف النظام العربي والإقليمي والدولي، الأمر الذي قاد إلى تردّي الوضع القيمي على المستوى الوطني، معززاً بالاعتقال السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتراشق الإعلامي، وثقافة التخوين والتطاول على الرموز الوطنية. وهذا بالتأكيد انهيار شامل لم يسبق له مثيل، وهو أخطر من الهزيمة العسكرية.

كيف أثّر ذلك في المقاومة، كخيار مواجهة، وفي الميدان، وكثقافة وطنية؟

أدى هذا كله إلى انكشاف ظهر المقاومة، ومحاولة نزع الغطاء عنها، والطعن في شرعيتها، وحتى المشاركة في تقنينها في غزة، ومحاصرتها في الضفة. لقد سادت تعبيرات "الانفراد بقرار السلم والحرب" و"المتاجرة بالدم الفلسطيني" وما شاكل، وساهم التنسيق الأمني وتغيير طبيعة المشهد الجغرافي من استيطان، وطرق التفافية، وحواجز، ووسائل مراقبة... في الحد من عمليات المقاومة، لكنها بالتأكيد لم تتوقف. أمّا فيما يتعلق بثقافة المقاومة، فإنه لا بد من تأكيد أن جموع الشعب الفلسطيني، داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات، هي مع خيار المقاومة، وهذا واضح في الاستفتاءات الجماهيرية المتمثلة في جنازات الشهداء، والالتفاف الشعبي حول المقاومين. وبالتالي، مثلما قال الأخ زكريا زبيدي: "نحن نؤمن بثقافة المقاومة، لا بمقاومة ثقافية." ولا شك في أن هذه الثقافة ترفض الانقسام والتخوين، لكنها كذلك ترفض التنسيق الأمني، والانقضاض على المقاومة، ومحاولة تصفيتها بطرق متعددة، كما ترفض ثقافة ملاحقة الناس في أرزاقهم، وتواطؤ رأس المال مع السياسة، وإغراق الناس في القروض، ومحاولة نشر ثقافة "بدنا نعيش"، وتقديم الشكر إلى "المنسق"! وفي ظل سياسة السلطة الفلسطينية الواضحة ضد العمل المسلح، وموقف الإخوة في "حماس" تحديداً في الحربين الأخيرتين اللتين شنّهما العدو على غزة، ومحاولة الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، وطبيعة العمل المقاوم الذي يتم تصويره بأنه "عمليات فردية"... فإننا في حاجة ماسة إلى مراجعة وطنية شاملة لاستراتيجيا المواجهة، ووضع كثير من النقاط على الحروف تتلاءم مع توحّش العدو، وتغوّل المستوطنين، واشتعال "نقاط التماس" ليس في الضفة الغربية فحسب، بل في الإقليم أيضاً، وخصوصاً في جبهات الجنوب اللبناني والجولان السوري المحتل. علينا إنقاذ حركتنا الوطنية من هذا التيه، وعدم المشاركة في "تصفية القضية الفلسطينية بأيدينا" مثلما كان يقول الشهيدان الراحلان أبو جهاد وأبو إياد. 

ما تقوله صحيح بشأن فصائل العمل الوطني الإسلامي خارج منظمة التحرير الفلسطينية، لكن كيف وصلت حركة "فتح" إلى هذه النقطة؟ أين القيادات التي حققت انتصارات كبيرة في انتفاضة الأقصى؟

شهداء تحت التراب أو أسرى في سجون العدو! لقد حاصر العدو أبو عمار في المقاطعة، ونجح في اغتياله، وساهمت التغطية الدولية، وخصوصاً الأميركية، وتواطؤ بعض الرسميات العربية، في فرض تغييرات في بُنية النظام السياسي الفلسطيني، سلطة ومنظمة، وبُنى المؤسسة الأمنية حتى في الأيام الأخيرة للرئيس الراحل أبو عمار. وقد رافق ذلك إلحاق ضربة موجعة بالنواة الصلبة لقيادة حركة "فتح" وكوادرها المقاومين بالاغتيال والأَسر خلال عملية "السور الواقي"، والتهميش و"الاحتواء" للبعض الآخر في المرحلة التالية تحت عنوان "دولة الأمن والقانون" في بلد لا أمن فيه ولا قانون. كانت موجة تدمير التوجه المقاوم في حركة "فتح" عالية، وتم أَسر الأخ مروان البرغوثي ومعه خيرة التشكيلات المقاومة في الحركة، ومن ضمنها نحن في أعقاب معركة مخيم جنين البطولية. وقد حاولنا ولا نزال كسر تلك الموجة، ولا تزال ثقتنا عالية بأبناء حركة "فتح" وجمهورها الذي أنصف التوجه المقاوم في الحركة سواء في انتخابات المجلس التشريعي التي فزنا فيها ونحن في الأَسر، أو في مؤتمرَي الحركة السادس والسابع اللذين لم يُسقطا خيار الكفاح المسلح، ولم يغيرا شعار الحركة. لكن ذلك لم يَحُل دون إفراغ مؤسسات الحركة والمنظمة والسلطة من محتواها، ولا سيما في ظل استشراء الفساد المكشوف، والمحسوبية، والبيروقراطية التي صارت عرفاً سائداً، كأن ميكيافيلي صار ملهم الجميع، على الرغم من المعارضة الشجاعة التي يبديها أبناء الشعب الفلسطيني إعلامياً وجماهيرياً. ويجب ألّا ننسى أن انقسام سنة 2007، والخطأ الاستراتيجي الذي اقترفه الإخوة في "حماس" بالحسم العسكري في غزة، ساهم بشكل مدمّر في إذكاء ثقافة التخندق والاصطفاف والتخوين في صفوف أبناء شعبنا، الأمر الذي رافقته سياسات بوليسية وقبضة قمعية للخصوم السياسيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، سواء على يد القوة التنفيذية لسلطة غزة، أو الأجهزة الأمنية لسلطة رام الله. ويقابل ذلك الانسحاب السياسي للإخوة في فصائل اليسار الفلسطيني، وخصوصاً الرفاق في الجبهة الشعبية، على الرغم من الأثمان الباهظة التي يدفعونها تحت ضربات العدو. ولذلك، فالمسؤولية عن هذا الانهيار الشامل وضرورة معالجته لا تقع على حركة "فتح" وحدها، بل على فواعل حركتنا الوطنية والإسلامية على حد سواء أيضاً.

انتفاضة الأقصى 2000: "شهيداً، شهيداً، شهيداً"

كيف استطاع أبو عمار احتواء هذه التناقضات كلها، داخل "فتح" والحركة الوطنية؟ كان يتحدث إلى أبناء الحركة، والشبيبة، والخصوم السياسيين في "حماس" واليسار، والجماهير... بلغة مختلفة. وصفه "الإسرائيليون" والأميركيون بأنه مارس "الخداع". وتذكر في فيلم "حراس الحافة" القصة التي يرويها "الإسرائيليون" في قضية الشهيد المهندس يحيى عياش، وأن أبو عمار أنكر حتى وجوده في غزة، و"خدع الإسرائيليين" وقال لهم "معلوماتنا أنه في السودان"! كان أبو عمار يضرب بسيف "فتح"، والشبيبة، وقوى المقاومة كلها. كان "بيجرح ويداوي"، أليس كذلك؟

كذلك و"نُص"! أبو عمار كان لديه قناعة بأن "إسرائيل" لن تعطيه شيئاً حتى بحسب اتفاق أوسلو الهزيل، وكان لديه قناعة موازية بحتمية المواجهة وفاعلية العمل المقاوم. كان يضمر مقولة الشهيد أبو إياد: "هل يا تُرى بإيدنا إحنا بنوقف الانتفاضة؟ مين هالحمار اللي بالدنيا بيفاوض، بيوقف سلاحو وبرميه وبيروح يفاوض؟ مين؟ إلّا الذي يريد أن يخدم أعداءه. ولذلك، سلاح الانتفاضة هو أقوى سلاح بإيدينا." وهاتان القناعتان كان خلفهما ممارسة على الأرض، فأبو عمار استثمر في النواة الصلبة المقاومة في "فتح"، التنظيم والشبيبة، وأول عملية لشبابنا، قبل ظهور كتائب شهداء الأقصى، كان خلفهم شعار الشبيبة. صحيح كان هناك نوع من التنسيق الأمني، وكان هناك أخطاء، لكن أبو عمار جعل ما يُعرف بـ "سياسة الباب الدوّار"، في الاعتقالات التي حدثت ضمن ظروف تاريخية معقدة، فرصة للقاء فواعل المقاومة وقادة فصائل العمل المسلح، ولهذا، حاصره "الإسرائيليون" واغتالوه. كانت إشارة واحدة منه تكفي لإشعال الميدان، والجميع يعرف تفصيلات تبنّي هبّة النفق والغطاء السياسي للمقاومين في انتفاضة الأقصى، وماذا يعني تقبيل ياسر عرفات لرأس مروان البرغوثي. كان أبو عمار بين مطرقة العدو "الإسرائيلي" وسندان الضغط الرسمي العربي والدولي، لكنه لم يُلقِ السلاح، ولم يترك المقاومين في المعركة وحدهم، ولم يشارك في حصارهم، ولم يطلب الحماية من أحد. كان مسدسه حاضراً في أثناء إلقائه خطابه في الأمم المتحدة في نيويورك في سنة 1974، وكان مسدسه حاضراً على طاولة مكتبه في المقاطعة المحاصرة في رام الله في سنة 2002، حين أطلق صرخته الشهيرة: شهيداً، شهيداً، شهيداً.

اختلاف القناعات واختلاف البرامج، وبالتالي اختلاف "فتح" والمنظمة والسلطة من عهد أبو عمار إلى عهد أبو مازن، أمور باتت واضحة، لكن دعنا نتحدث عن انتفاضة الأقصى. ما الذي حدث بعد الصورة الأخيرة مع أبو عمار، وهناك صورة مماثلة مع الأخ زكريا زبيدي. كيف بدأت الانتفاضة؟

كنت عائداً من السويد للتو، وصرنا نستمع إلى لهجة مختلفة في لقاءاتنا مع أبو عمار. بدا واضحاً له بعد محادثات كامب ديفيد مع "إيهود باراك" أن إسرائيل لم تعطِ شيئاً، ولن تعطي شيئاً. لمسنا في لغة أبو عمار كثيراً من الإحساس بفشل المسار السياسي، وأن موعد المواجهة اقترب، ولا سيما أن تنكُّر "الإسرائيليين" للاتفاقيات، بتغطية أميركية وبتواطؤ بعض الرسميات العربية، ابتداء من متاهة أوسلو، ومروراً بتفصيلات اتفاقات القاهرة والخليل، وانتهاء بكمين كامب ديفيد، ترك أبو عمار صفر اليدين إلّا من خيار المواجهة حين تبدّى له وهم السلام بأجلى صوره... وقد كان لديه ما يراهن عليه: نواة "فتح" الصلبة، وفصائل المقاومة، والشعب الفلسطيني. هكذا بدأت الانتفاضة. أذكر أنني نزلت بعد لقاء الرئيس إلى جنين، وصادف ذلك يوم افتتاح "الجامعة العربية الأمريكية"، ومهرجان مرج ابن عامر للتراث، واقتحام شارون وتدنيسه للمسجد الأقصى. كان أخي مروان البرغوثي في جنين، وبقينا معاً، لآخر مرة خارج الأَسر، حتى الصباح. تداولنا فيما يحدث، وكان من الواضح لنا أن القيادة الفلسطينية ستوفر غطاء سياسياً للانتفاضة التي فرضها "الإسرائيليون" علينا. كان الشعار الذي تعاهدنا عليه: "إمّا لقاء في القدس، وإمّا لقاء في السماء". لم تكن "كلمة السر" ولا "طبيعة التشكيلات المقاوِمة بنمط السلسلة" هي محور النقاش، بمقدار ما كان القرار بالرد على تفجير شارون للوضع، سياسياً وميدانياً. اندلعت الانتفاضة، وانتهى الأمر. بدأنا المواجهات في جنين برشق الحجارة والزجاجات الحارقة على حاجز الجلمة، وكذلك الأمر على امتداد فلسطين التاريخية. ومع سقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى، كان من الواضح أن "الإسرائيليين" كذلك كانوا قد قرروا سحق الشعب الفلسطيني، وفرض سيطرتهم على المسجد الأقصى، والتخلص من الرئيس ياسر عرفات... بدأ إطلاق النار على الحواجز والمستعمرات، وتم تبنِّي بعض العمليات في بيانات باسم "ميليشيات حركة فتح"، ثم ظهرت "كتائب شهداء الأقصى".

كيف خرجتم باسم "كتائب شهداء الأقصى"، ومن أين جاء الشعار؟

هناك روايات متضاربة بين جنين ورام الله وبيت لحم، ولا أحد يستطيع الحسم، لكن الثابت أن شارون اقتحم الأقصى، ونحن اقتحمنا التاريخ وصرنا "كتائب شهداء الأقصى". أمّا الشعار، فخرج من غرفتي الصغيرة في مخيم جنين. كنا خمسة على رأسهم الأخ الشهيد زياد العامر والأخ الأسير عبد الكريم عويس، وكان لديّ مهارات متواضعة في الكمبيوتر، ومهارات معدومة في التصميم! لكننا جمعنا عناصر الشعار: الصخرة المشرفة، وبندقية أم 16، وقنبلة، والآية القرآنية، وفي اليوم التالي، طلبنا من شبل صغير في جنين عمره 16 عاماً ويشتغل في مطبعة أن يصمم الشعار. بعد ذلك حدث نقاش مع الأخ الشهيد رائد الكرمي والأخ الأسير ياسر أبو بكر بشأن ذلك، كما أن الأخ مروان البرغوثي رأى الشعار لأول مرة على شاشة تلفزيون "المنار". حاول الإخوة الثلاثة مناقشتنا في الشعار، وخصوصاً استبدال بندقية الـ أم 16 ببندقية كلاشينكوف كعلامة فارقة، لكننا قلنا لهم إن الشعار تم تصميمه وانتهى الأمر، وإن دفاتر البيانات في طريقها إليكم: أرسلنا 10 دفاتر إلى طولكرم، و10 إلى نابلس، و20 إلى رام الله، و30 إلى مدن جنوب فلسطين. وأرسلنا الشعار إلى الأخ الشهيد جهاد العمارين والأخ الشهيد جمال أبو سمهدانة "أبو العطايا" في غزة قبل أن يؤسس "لجان المقاومة الشعبية"، ولاحقاً "ألوية الناصر صلاح الدين". وبالتدريج تم تدبّر أمر الدعم المالي، أمّا الغطاء السياسي، فكان حاضراً على الرغم من التضارب الشكلي بين بيانات وصف "العمليات البطولية" من القادة الميدانيين، و"العمليات الإرهابية" من القادة السياسيين. وفي الآن نفسه، انضمت إلى الانتفاضة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بعملياتها الجهادية النوعية، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وبعض الرفاق من حزب الشعب الفلسطيني. امتدت الانتفاضة إلى فلسطين 1948، وارتقى هناك 13 شهيداً... صارت فلسطين كلها، من البحر إلى النهر، ساحة مواجهة واحدة. وعندما أدرك الصهيونيون انفلات زمام الأمور من أيديهم، صعّدوا هجومهم العسكري، واغتالوا القائد أبو علي مصطفى، لكن الرفاق ردّوا بشكل موجع باغتيال الفاشي رحبعام زئيفي... كان رد الفلسطينيين يشتمل على قدر كبير من التجانس بين الاشتباك الميداني للمقاومين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وفي قلب التجمعات الصهيونية في فلسطين 1948، والالتفاف الجماهيري الشامل، والتغطية السياسية. كان شعار الأخ القائد مروان البرغوثي "الوحدة طريق الانتصار" هو بوصلتنا... كان يقود المسيرات الشعبية في رام الله يداً بيد مع الأخ المجاهد حسن يوسف والرفيقة المناضلة خالدة جرار، "شركاء في الميدان وشركاء في البرلمان، وشركاء في الدم وشركاء في القرار"، وكانت المجموعات المقاتلة من مختلف الفصائل تنفذ عملياتها المشتركة. كانت انتفاضة أسطورية على الرغم ممّا قد يسجله البعض عليها من انتقادات "العسكرة" التي لم نخترها نحن، وإنما فرضها علينا "الإسرائيليون". وكان مخيم جنين مثالاً للتلاحم الذي صنعته هذه الوحدة الوطنية التي سجّلها تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني.

لكن موضوع "عسكرة الانتفاضة" الذي انتقده البعض جاء في ظل إدانة دولية منافقة للعمليات الفدائية، الاستشهادية وغير الاستشهادية في قلب الكيان الصهيوني. وفي ظل هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 التي تلاها هجوم أميركا على العالم، واحتلال أفغانستان وتدمير العراق، آنئذ حاول البعض موازاة المقاومة الفلسطينية بالإرهاب العالمي. هل غيّر ذلك في معادلة المواجهة في فلسطين، ميدانياً وسياسياً؟

أوافق على هذه القراءة، لكن من غير المتوقع من الرسميات العالمية والعربية أن تعتمد لغة التمييز بين عدالة قضيتنا الفلسطينية وحقنا في الدفاع عن أنفسنا لنيل حريتنا واستقلالنا وتقرير مصيرنا وتحقيق عودتنا وإقامة دولتنا... بالكفاح المسلح، إذ بماذا أقامت الحركة الصهيونية دولتها الاستعمارية الاستيطانية؟ بالدعاء والمفاوضات؟ أغلبية القيادات في العالم منافقة، ومثقلة بشعور الذنب تجاه جرائم النازية والفاشية ضد اليهود لكنها لا ترى الجرائم الصهيونية ضدنا. غير أن الشعوب معنا ومع نضالنا، فهذا هو فهمنا، وهو لم يتغير على الرغم من التكالب السياسي ضدنا. أمّا نحن، فامتلكنا ولا نزال الثقة بعدالة قضيتنا، وطهارة مقاومتنا، وقدراتنا العسكرية المتواضعة، وصمود شعبنا الصابر. كان المخيم ولا يزال قلعتنا، نشتبك فيه مع العدو المستعمِر من المسافة صفر، وندافع عن أهلنا وكرامتنا... ندافع عن وجودنا، ذلك بأن إيماننا بحقّنا في الوجود والحياة كان أقوى من آلة العدو العسكرية، ولا يزال. لقد كان الغطاء السياسي في الانتفاضة أهم عوامل الاستمرار وتحقيق الانتصارات، بعد صلابة مقاومتنا، ووحدتنا وصمود شعبنا. كان أبو عمار عنواننا، وكان للقادة الكبار، الشهداء منهم والأحياء، دور محوري في تعزيز هذا التلاحم. فمقولة "جنين غراد" التي أطلقها أبو عمار، على الرغم من اختلاف الوقائع، وإشادة السيد حسن نصر الله بمقاومة مخيم جنين الذي لا تتجاوز مساحته 1 كم مربَّع، واتصالات الرفيق القائد أحمد سعدات، والأخ القائد الراحل رمضان عبد الله شلَّح... كانت كلها ترفع معنوياتنا حتى السماء. لقد تمكنّا من تحقيق توازن ردع نادر مع العدو.

 

 الأسير ثابت مرداوي وجمال حويل والشهيد محمود طوالبة، مخيم جنين، 2002

 

الشهيد أبو جندل وجمال حويل والشهيد علاء الصباغ، مخيم جنين، 2002

 

عطا أبو ارميلة وجمال حويل والأسير جمال أبو الهيجا، مخيم جنين، 2002

 

معركة مخيم جنين 2002: الهجوم على "عش الدبابير" 

هذا يوصلنا إلى معركة المخيم، "عش الدبابير" مثلما وصفته "إسرائيل". لكن لا بد من التوقف ثانية عند بداية الانتفاضة و"عسكرتها": هل تصاعدت الأمور بشكل متدرج من رشق الحجارة إلى المواجهة المسلحة والعمليات الاستشهادية جرّاء انغلاق الأفق السياسي في ظل أسطوريات قمة كامب ديفيد الممجوجة ويأس أبو عمار من أي حصيلة فعلية للمسار السياسي، أم نتيجة عنجهية "إسرائيل" ورغبتها في سحق المقاومة وتدجين الشعب الفلسطيني وتدمير بُنيته التحتية وصهر وعيه؟

الأمران معاً. "إسرائيل" قامت على أساس استراتيجيا "الجدار الحديدي" التي وضعها زئيف جابوتنسكي، والتي لا تزال توراة العدو حتى اليوم، أي أنها قامت على الإجرام والقتل والرغبة في التفوق من خلال الردع. والحركة الوطنية الفلسطينية قامت على أساس استراتيجيا المقاومة والصمود وإيقاف "النكبة المستمرة" من خلال الكفاح المسلح والنضال السياسي والقانوني. وقد شهد المساران إخفاقات نتحمل بعض المسؤولية عنها، لكن الصدام بين هاتين الاستراتيجيتين ساهم في اندلاع الانتفاضة الشعبية، ثم تحوُّلها إلى مواجهة عسكرية شاملة. إن وجود "إسرائيل" يعني الرغبة في إزالتنا نحن من الوجود، وليس أمامنا خيار إلّا الدفاع عن وجودنا. وعلى الرغم من ذلك، فإن أبو عمار حاول مواصلة اللعب بالبيضة والحجر منذ اندلاع الانتفاضة حتى استشهاده، وحاول خلق توازن مستحيل بين تلقين "إسرائيل" والأميركيين وبعض الرسميات العربية درساً يدعمه فيه التفاف شعبي وقوة ميدانية تقوم على التضحية والثقة بعدالة القضية وجدوى المقاومة من جهة، والمناورة سياسياً حتى اللحظة الأخيرة في مسارات جرّبها من قبل ولم تنتج كثيراً، وربما لم تنتج شيئاً باستثناء كارثة أوسلو، من جهة أُخرى.

هذا صحيح. حتى إنه ذهب في بثّ حي ومباشر للتبرع بالدم للضحايا بعد هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001. وقد حاول القادة "الإسرائيليون" في حينه محاكاة أبو عمار بالتبرع بالدم أيضاً! لكن أبو عمار كان يرغب في القول إن جنين ورام الله والقدس وبيت لحم والخليل وغزة ليست نيويورك، وإن مقاومة الفلسطينيين ليست إرهاباً...

أبو عمار الله يرحمه كان يحب "الأكشن"! وكان يعرف من أين تؤتى الكتف. كان يحاول إنقاذ صورة المقاومين من تهمة الإرهاب التي تواطأ العالم في تكريسها على المستويين السياسي والإعلامي، لكن بالتأكيد ليس على المستوى الشعبي في العالم الذي خرجت فيه تظاهرات كبرى لدعم الانتفاضة. القرار كان قراراً شعبياً شاملاً والتحاماً بطولياً معهوداً لدى الشعب الفلسطيني، غير أن أبو عمار التقط تلك اللحظة التاريخية، ووفر لها الغطاء السياسي، ولم يكن أمامه غير ذلك. كان الأميركيون و"الإسرائيليون" يريدون حشره في الزاوية في كامب ديفيد، ليتنازل عن القدس، ويشارك في تصفية القضية الفلسطينية بحسب مخططهم. كانوا يريدون حشره في الزاوية "عميلاً"، فخرج منها شهيداً. قال للرئيس الأميركي، بيل كلينتون: "هل تريد أن تسير في جنازتي؟" قلب الطاولة عليهم وعلى المتواطئين معهم. لم تغرّه "التسهيلات" مثل اليوم، ولم تخدعه الوعود الكاذبة و"الحلول" غير المستندة إلى الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، وقد دفع حياته ثمناً لذلك القرار السياسي، ودفعنا نحن ثمناً باهظاً كذلك على المستوى الشعبي، ولا نندم عليه. كان ذلك هو القرار السليم. قضى شهيداً، ولم يَسِر في جنازته إلّا أبناء شعبه.

هذه نهاية تراجيدية، إلّا إنها تُغري بمواصلة المقارنة مع الوضع الحالي. لكن قبل ذلك، أين اختفت كتائب شهداء الأقصى؟ ما الذي حدث لـ "فتح"؟ ما الذي حدث للحركة الوطنية بعد رحيل أبو عمار؟

حدث الكثير! استشهد خيرة أبناء الحركة الوطنية الفلسطينية من الفصائل كلها، في المعارك الميدانية وبالاغتيالات، وزجّت "إسرائيل" بالقادة الكبار والكوادر في الأَسر، وقمعت الانتفاضة، ودمرت البُنية التحتية للمدن والقرى والمخيمات عبر عملية "السور الواقي"، ومن ضمنها بناء جدار الضم والتوسع والفصل العنصري، وحاولت "صهر وعي" الفلسطينيين في معازلهم وفي السجون. وشيئاً فشيئاً نجحت "إسرائيل"، سواء بشكل مباشر أو من خلال الأميركيين، في تفكيك البُنية العسكرية لكتائب شهداء الأقصى، و"تفريغ" بعض منهم في الأجهزة الأمنية أو وزارات السلطة أو مؤسسات المنظمة. وحاولت عبر التدخل الأميركي والأوروبي الناعم تغيير و"كسب قلوب الفلسطينيين" من خلال مشاريع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وغيرها ممّا يُعرف بـ "وكالات التنمية" الدولية، وعبر مؤسسات المجتمع المدني، والتدخل في المناهج المدرسية، وتقييد الإعلام، وإعادة هيكلة الأمن والقضاء... حدث ذلك كله، وكان العامل الحاسم في تحقيق نجاح كبير فيه هو تغير البرنامج السياسي للقيادة الفلسطينية بشكل جذري مقارنة ببرنامج الرئيس أبو عمار. فبرنامج الأخ أبو مازن السياسي، والمعتمد على ما سمّاه "المقاومة السلمية"، أي حظر أي مواجهة مسلحة أو عنفية مع الاحتلال والتعهد بعدم قيام أي انتفاضة ما دام في الحكم، مثلما جاء في حديثه إلى محطة "إسرائيلية"، كان بيئة أكثر ملاءمة لتنفيذ ما ذُكر كله. وها نحن بعد عشرين عاماً من وضع ذلك البرنامج موضع التنفيذ نصل إلى وضع كارثي بالمقاييس كافة. للأسف صار "الانتصار" يقاس بتحقيق مطالب معيشية يومية هي في الأصل حقوق للفلسطينيين سرقها الإسرائيليون كأموال المقاصة، وطلبات جمع الشمل التي صارت بديلاً من "حق العودة"، وتحسين خدمة الإنترنت، ومنح "تسهيلات" و"رشاوى اقتصادية" للسلطة الفلسطينية لا للشعب الفلسطيني كي لا تنهار الأجهزة الأمنية. وهذا ما سمعناه مؤخراً بعد اجتماعات "العقبة" و"شرم الشيخ"، في شباط / فبراير وآذار / مارس 2023، والتي جاءت في إطار "ترتيبات أمنية" لضبط الوضع المتفجر في الضفة الغربية، وليس حتى في إطار مفاوضات سياسية.

يبدو أن هناك تزامناً بين تولّي الرئيس أبو مازن السلطة مع صعود نجم رئيس الحكومة سلام فياض الذي جاء بمقولة "دولة الأمن والقانون". ويقال إن مخيم جنين كان حقل التجارب الأول، كما أن الأخ زكريا زبيدي الذي لدينا شهادات مسجلة منه في هذا الصدد، كان ممّن دفعوا ثمناً باهظاً جرّاء شيطنة العمل المسلح ومساواته بـ "الفلتان الأمني". من أين جاء هذا التعبير، وكيف تم إسكات سلاح "فتح" المقاوم؟

هذه إشارة مهمة، وتستوجب ذكر ثلاثة أمور: أولاً، البرنامج السياسي للرئيس أبو مازن غيّر قواعد اللعبة كافة. فهو لا يؤمن بالمقاومة المسلحة، وهو ضد عسكرة الانتفاضة، بل ضد الانتفاضة نفسها، وهذا تصريح مباشر له. وقد انسجم معه وعززه مشروع رئيس الحكومة سلام فياض الذي كان من الواضح أنه مدعوم أميركياً بالمساعدات المباشرة، وبأموال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، لتدريب "الأمن" وبناء "المؤسسات". ما يهمنا هنا، رداً على سؤالكم، هو أن فزاعة "الفلتان الأمني" استُخدمت لمحاصرة الإخوة الباقين من كتائب شهداء الأقصى وشباب التنظيم ممّن لم يستشهدوا، أو يتم أسرهم لدى العدو، أو "تفريغهم" في وزارات السلطة، أو مؤسسات المنظمة، أو الأجهزة الأمنية، أو تحويلهم إلى رجال أعمال عبر "الإعفاءات" و"التسهيلات" "الإسرائيلية". نحن لا ننكر أنه كان هناك مظاهر فلتان وما يُعرف بـ "طَخِّيخِة الأعراس"، لكن ذلك جرى استغلاله للنيل من واحدة من أنبل الظواهر في تاريخ حركة "فتح"، وهي كتائب شهداء الأقصى. وبالتالي، وجدتْ قناعات الرئيس وبرنامجه السياسي آلة تنفيذية هي مشروع رئيس الحكومة المتمركز حول الأمن والقانون، والأمن مثلما تلاحظون قبل القانون.

ثانياً، كتائب شهداء الأقصى، وإن مثّلت الجناح العسكري لحركة "فتح"، لم يتم تأسيسها بقرار حركي مركزي، وإنما بقرار ميداني من المقاتلين، وبتغطية سياسية من الأخ أبو عمار كرّسها الأخ مروان البرغوثي. الكتائب ليست إطاراً نظامياً في الحركة كـ "العاصفة" مثلاً، ولم يعد هناك مَن يتبنَّاها في المجلس الثوري واللجنة المركزية، فهذا الأمر ليس مشابهاً لتأسيس الأجنحة العسكرية في فصائل المقاومة الفلسطينية الأُخرى، كـ "حماس" والشعبية والجهاد. وبالتالي، سهَّل ذلك الاستفراد بها، وحتى ببعض الأجهزة الأمنية التي شاركت بفاعلية في انتفاضة الأقصى، مثل "القوة 17"، الجهاز الذي تم تفكيكه بدعوى "الإرهاب"، وجرى تحويل جزء منه ليصبح ضمن تشكيل "حرس الرئيس". لدينا الآن 12 جهازاً أمنياً، و3 هيئات عسكرية، وجميعها مكرس لحماية هذا المشروع.

ثالثاً: لقد انعكس الحسم العسكري الذي أقدمت عليه حركة "حماس" في غزة في سنة 2007، وما رافقه من عنف وصور مأسوية وإساءات، في تشديد القبضة الأمنية في الضفة الغربية، والضرب بيد من حديد كل مَن يحاول معارضة السلطة، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالنشاط العسكري المسلح. صحيح أن خطر الخصوم السياسيين للاستيلاء على السلطة يؤخذ على محمل الجد في العالم بأسره، وفلسطين ليست استثناء من هذا، غير أن المبالغة في تضخيم سيناريو إمكان حدوث انقلاب جديد في الضفة الغربية على السلطة استُخدمت كفزاعة إعلامية وأمنية وسياسية. وقد أكملت هذه الفزاعة الحصار على الظاهرة المسلحة حتى داخل حركة "فتح" نفسها.

لكن حركة "فتح" عقدت مؤتمرها العام مرتين (2009 و2016) بعد رحيل أبو عمار، ولم تُسقط فيهما خيار الكفاح المسلح رسمياً، مع أن من الواضح أنه كان يُكتفى بكلمة الرئيس كبيان ختامي. ويبدو أن هناك تعميماً لهذا البرنامج السياسي على منظمة التحرير الفلسطينية التي أُلغيت فيها دائرة الثقافة، وتحولت الدائرة العسكرية فيها للعناية بشؤون المتقاعدين العسكريين، بينما أضيفت دوائر من نوع التنمية البشرية، والمجتمع المدني. وأُسست في حركة "فتح" "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي"، فضلاً عن فصل وتجميد وتعليق عضويات في اللجنة المركزية والمجلس الثوري، وغيرهما من المؤسسات الحركية. كيف تقرأ هذا التحول في "فتح" من داخلها، بُنيوياً وعسكرياً وسياسياً، وتماهيها مع السلطة؟

برنامج الأخ الرئيس أبو مازن هو الفيصل في كل شيء في "فتح" والسلطة والمنظمة. هناك عقلية مركزية والقرارات لا تؤخذ عادة بالتصويت، بل هناك قرارات يتم تبليغها من باب العلم فقط، وأحياناً يسبق الإعلام اللجان والمجالس في معرفتها. وبالتالي، فإن الهياكل المؤسساتية في "فتح" والمنظمة والسلطة أصبحت جهات تنفيذ، تشارك أحياناً في اتخاذ القرار. وقد ساهم في تكريس هذه الثقافة عدة عوامل، أهمها: أولاً، إصرار الأخ أبو مازن على برنامجه السلمي والتفاوضي الذي لم يحقق أي تقدّم، للأسباب الموضوعية التي تعرفونها، وهي: ثبات "إسرائيل" على استراتيجيتها الصهيونية التي لا تريد فلسطينيين في فلسطين، وتريد كسرهم وفرض السلام عليهم وتحويلهم إلى عبيد خدمات لديها وسوق لمنتوجاتها، والدعم الأميركي والتغطية الغربية، وتواطؤ بعض الرسميات العربية، وغرق قسم منها في التطبيع، وخصوصاً بعد "اتفاقيات أبراهام". ثانياً، إن مَن يعارض هذا النهج، ولو بنقد منطقي ومؤسساتي وتنظيمي محترم، تتضرر ميزانياته، ويتم تهميشه، وأحياناً، فصله أو تجميده أو تعليق عضويته من دون أي سند قانوني. وقد خلق هذا ثقافة قبول للأمر الواقع. ثالثاً، ساهم اعتكاف الرفاق في اليسار، ولا سيما الجبهة الشعبية، ونأيهم، ربما المبرر نسبياً، عن إسماع صوتهم والمساهمة في تصحيح المسار كونهم يشكّلون بوصلة ثورية وأخلاقية في الحركة الوطنية، في مفاقمة هذا الوضع، الأمر الذي رافقه سياسة امتثال واضحة من طرف سائر فصائل اليسار، أو ما يعرّف نفسه بأنه كذلك، للسياسات الرسمية للأخ أبو مازن. رابعاً، الشرخ الكارثي الذي أحدثه الحسم العسكري في غزة والانقسام الذي يتحمل الإخوة في حركة "حماس" مسؤولية أساسية عنه، والشروط التي وضعوها للانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والتي حكمتها للأسف عقلية المحاصصة التي تشبه إلى حد كبير نظرة الفصائل الأُخرى في الحركة الوطنية الفلسطينية، باستثناء الإخوة في حركة الجهاد الإسلامي. وبالتالي، فإن من غير المتوقع أن تتمكن "فتح" بمفردها، أو فلنقل التوجه النقدي في "فتح"، من التغلب على هذه العقبات كلها، بغضّ النظر عن الآلية التي شُكلت فيها اللجنة التنفيذية أو المركزية، أو حتى التي انتُخب فيها المجلس الثوري. نحتاج، وبشكل ملحٍّ، إلى مراجعات شاملة وصادقة وأخوية على مستوى حركة "فتح" والحركة الوطنية بأكملها.

هل هذا يعني أن اللجنة المركزية تعمل بشكل مركزي من حيث تجانسها مع توجّه الرئيس أبو مازن، وأن سائر الحركة يدار بشكل غير مركزي؟ هل "فتح" حركة غير مركزية تقوم عليها لجنة مركزية؟

نعم، أوافق، إلى حد كبير، على هذا التوصيف.

و"لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي"، وهي بمثابة مفوضية في الحركة انطلقت في سنة 2012، ولا يعرف أحد مَن الذي اتخذ القرار بشأنها، من حيث المهمات والآليات والأهداف. هل عُرضت على اللجنة المركزية والمجلس الثوري؟ وهل جرى تقييم نتائجها بعد أكثر من عشرة أعوام على تأسيسها؟ وكيف يمكن تصور العمل على دعم حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، أو نقد تهافت التطبيع العربي الرسمي، في ظل وجود لجنة رسمية بهذا المستوى في حركة "فتح"؟

بحدود علمي لم يناقَش تأسيسها في اللجنة التنفيذية، وبشهادتي شخصياً لم يناقَش قط في المجلس الثوري، على الرغم من تقديم تقرير دوري عنها. وبالتأكيد أوافق على التعارض الصارخ بين تشكيلها وعملها ونتائجها مع العمل الممتاز وغير المسبوق في نتائجه على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي لحركة BDS. وكذلك، يبدو لي أن وجود اللجنة، والمصالح الاقتصادية المتعلقة بدعم الدول العربية، وخصوصاً بعض الدول النفطية التي هرولت للتطبيع الرسمي مع "إسرائيل"، حالت دون اتخاذ موقف صارم من هذه الدول، وجرى الاكتفاء ببيانات هزيلة ترفض "التطبيع"، وتتحدث عن شكليات من نوع أن السلطة لم تكن تعلم بهذه الاتفاقيات. لكن قبل أن ننتقد أخطاء الآخرين، فلننتقد أنفسنا. لقد قلت للأخ محمد المدني بكل وضوح: منذ أن بدأ عملك في "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي"، تم إقرار قانون القومية العنصري، وزاد الاستيطان، وانزاح "المجتمع الإسرائيلي" بشكل جنوني نحو التطرف الفاشي تحت قيادة حكومات صهيونية بلغت في عنصريتها حدّاً لم تُسبق إليه من قبل.

في ظل النقد اللاذع للتنسيق الأمني المرفوض شعبياً، والذي أُعلن وقفه مراراً وتكراراً بشكل بات فيه موضوع سخرية وتندُّر، فإن الناس كثيراً ما يتداولون على وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلاً للشهيد أبو جندل "يوسف قبها" يرفض فيه مصافحة ضابط صهيوني، بل يهدده بالقول: "إذا بتطخ طلقة، بطخ ميَّة"! حدّثنا عن شخصيته. وكذلك الأخ زكريا زبيدي الذي كان يخدم في الأجهزة الأمنية، لكنه اختار الانضام إلى أبناء شعبه في هبّة النفق وانتفاضة الأقصى. وقد نشرنا شهادته في العدد 128 من "مجلة الدراسات الفلسطينية".

شارك أبو جندل في معركة آذار / مارس 2002، فأبدع، لأنه من مقاتلي الثورة في بيروت، وسبق أن أردى جنوداً "إسرائيليين" خلال دفاعه عن أبناء شعبنا في هبّة النفق، وعند "قُبّة راحيل" في بيت لحم، وفي أريحا، وأصاب نائب قائد المنطقة الصهيوني في جنين. كان فدائياً لا يخشى المواجهة، حتى إن أسماء أبنائه عسكرية. وبالتالي، عقلية الفدائي لم تتغير لديه، ولدى بعض الإخوة القادمين من الخارج، والأسرى المحررين، ومَن بقي حياً من تشكيلات الفهد الأسود. كان أبو جندل بسيطاً، لكنه كان حاسماً، وشخصيته العسكرية كانت طاغية في المعارك، ومستندة إلى خبرة ميدانية، ومهارات قتالية عالية. وفي معركة آذار / مارس 2002، وقف أمام القوة التنفيذية التي يقودها في الأمن الوطني، وقال لهم: "أنا بدّي أرُوح على مخيم جنين، اللي بدّو يحضر معارك بيروت ويستشهد يلحقني. يا بننتصر، يا بنستشهد بالبدلة العسكرية. ما بدي نقاش من أي حد." فتبعه، في حينه، نحو أربعين عسكرياً.

أمّا في معركة المخيم الكبرى في نيسان / أبريل 2002، فقد بدأنا التداول لتشكيل غرفة عمليات مشتركة، وكنا سبعة إخوة، من كتائب شهداء الأقصى وكتائب عز الدين القسّام وسرايا القدس والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وخصوصاً جزءاً من القوة التنفيذية في الأمن الوطني. واقترحتُ عليهم أن يقود الغرفة أبو جندل، وسألت: "في حَد عندو مانع؟" فوافق الجميع، ووقف أبو جندل وقفة عسكرية خلف طاولة صغيرة في الغرفة، وسأل: "وين صورة الختيار [أبو عمار]؟" ووضعها خلفه، والخريطة أمامه. ثم بدأنا بمناقشة كيفية صد الهجوم "الإسرائيلي" من المحاور المختلفة (دوتان وحيفا وسالم والزبابدة)، وكنا نتحدث عن تقسيم المخيم إلى ثماني "حارات"، بينما كان أبو جندل يتحدث عن "محاور"، وشكّلنا المجموعات التي كان عمادها من شباب الأمن الوطني، وأطلقنا على أبو جندل لقب "المايسترو" لأنه ساهم بفاعلية في تهيئة ميدان المعركة قبل بداية الهجوم "الإسرائيلي". وتم تشكيل خمس لجان، هي: اللجنة العسكرية، واللجنة الإعلامية، واللجنة التموينية، واللجنة الصحية، واللجنة التعبوية. وقد توليت حينها، فضلاً عن المهمات العسكرية، التواصل مع الإعلام، وتذكرون المقابلة التي قلت فيها إننا سنصمد صمود الفدائيين في بيروت، لكننا لن نخرج من جنين، فليس لنا إلّا المخيم حتى العودة إلى بلدنا محرراً. كان الصمود الأسطوري للثورة في بيروت والشقيف ومعارك المقاومة مثالنا الأعلى وهاجسنا الوحيد في حينه، ولذا، قلنا إن معركة مخيم جنين لن تكون مجزرة، بل ستكون ملحمة بطولية، ولن نكون لقمة سائغة للعدو، بل سنكون شوكة في حلقه. وحين بدأت المعركة، لم أرَ مقاتلاً في حياتي بجرأة أبو جندل ومهارته وعقليته العسكرية، وإقدامه الذي قد يعدّه البعض تهوراً.

أشرنا من قبل إلى كتابك عن معركة مخيم جنين الكبرى، لكننا نرغب في أن تُطلعنا على أمرين: الأول، أهم الدروس من المعركة، والثاني، تجربة الأَسر بعد انتهاء المعركة، وتدوين التجربة في مراحل متنوعة.

فيما يتعلق بالدروس، شكلت معركة المخيم مثلاً نافياً لقناعة البعض باستنفاد خيار المقاومة المسلحة، ولا سيما في ظل فشل خيار المفاوضات، ومحدودية ما يمكن أن يقدمه خيار المقاومة السلمية. كما تمثلت خصوصية المعركة في: قناعة لاجئي المخيم بأن لا ملاذ آخر لهم ولا لجوء مرة أُخرى؛ التفاف هؤلاء واحتضانهم للمقاومين؛ توحُّد قوى العمل الوطني والإسلامي تحت قيادة عسكرية واحدة وغرفة عمليات مشتركة. ونتيجة وجود هذه المقومات، والاستعدادات الجيدة، وتوفر القناعة وروح المقاومة والفداء، والغطاء السياسي من قيادة أبو عمار، حققنا انتصاراً لافتاً. ولذا، فإن نجاح المقاومة العسكرية في جنين في ظل تردٍّ سياسي وعدم توازن عسكري شكّلا نموذجاً للانتصار في أي مكان على المستويات الفلسطينية والعربية والعالمية، مثلما حدث في حرب تموز / يوليو التي شنّتها إسرائيل على لبنان في سنة 2006، ونماذج الصمود في الحروب على غزة خلال الفترة 2008 - 2023. وطبعاً هناك دروس واستخلاصات ميدانية ليس هنا موضع الخوض فيها.

أمّا تجربة الأَسر والسجن، فبعد انتهاء المعركة أدى لنا قائد العملية العسكرية "الإسرائيلي" التحية، وجرى بيننا حوار قصير بعد أن عرّفني بنفسه بأنه "كابتن ألون". ثم اقتادونا إلى المسجد، مقيدين، ومعصوبي الأعين، وصلبونا على الحيطان حتى خارت قوانا، وتعرّف إليّ جاسوس، وتكرر الأمر مع الحاج علي الصفوري. ثم أفلتوا علينا الكلاب المدربة تنهشنا مع حفلة ضرب من الجهات كافة. نهشني الكلب من رقبتي، وضربوني بأعقاب البنادق، وهم يصرخون ويسألون: وين العملية، وين العملية، وين العملية! بدأ التحقيق العسكري في المسجد، وكان ذلك بالنسبة إليّ مؤشراً جيداً، لأن الصيهوني لا يلجأ إلى الضرب إلّا إذا كان مفلساً، فالضرب عادة هو المرحلة الأخيرة في التحقيق لا الأولى. مكثت في التحقيق العسكري في مركز سري فترة طويلة تقارب 75 يوماً، وكانوا يريدون انتزاع اعتراف مني يودي بي إلى حكم المؤبد. كان تحقيقاً قاسياً ووحشياً، وخصوصاً بعد قلة الطعام والنوم طوال أيام المعركة الـ 12. وفور دخولي إلى سجن مجدو، بدأت العمل على حفر نفق للهروب! كنا في قسم رقم 7 القريب من الشارع الرئيسي، واستمر الحفر أكثر من شهرين كنا خلالها لا نتوقف عن التدرب على الركض لأننا كنا نعرف أن أقرب بلدة فلسطينية هي السيلة الحارثية ونحتاج إلى 25 دقيقة للوصول إليها، وسيلزمنا نَفَس طويل وسريع في الركض. للأسف تم افتضاح أمرنا بفعل "الكابو" [أسرى فلسطينيون تربطهم علاقات مصلحة مع إدارة السجن]، واقتحمت قوة "متسادا" القسم، وحملوني من البرش مباشرة إلى حافلة مستقلة عن بقية الأسرى. قالوا لي: "تحقيق"!

فوجئت بعد توقف الحافلة بشباب ينادونني باسمي، والبهجة بادية عليهم... وإذا بي في سجن شَطّة في بيسان المحتلة. كان السائد لدى الأسرى أن "شَطّة آخر محطة"، لكنها كانت البداية بالنسبة إليّ. كنت في صحبة إخوتي من كتائب شهداء الأقصى ناصر عويص وعبد الكريم عويس وغيرهما، وأذكر أن الأخ كريم يونس هو الذي استقبلني، لأنه كان "الدوبير" [المتحدث باسم الأسرى]، وكان في القسم الإخوة الأسرى من فلسطين 1948 والجولان السوري المحتل، ومن ضمنهم بطبيعة الحال الرفيق وليد دقّة والأخ صدقي المقت. وبعد فترة قصيرة بدأ وليد بإجراء المقابلات معنا. كنا نتحدث بحذر خشية من أن تضر أي معلومة بنا أو بإخوتنا في الخارج، مع أن "الإسرائيليين" لم يحققوا معنا بشأن تفصيلات المعركة، ولم يحاكمونا على قتالنا فيها، وإنما تركز اهتمامهم على العمليات الفدائية والاستشهادية. كان وليد من أكثر الشخصيات فرادة في الأَسر، فهو ذكي، ولمّاح، ودينمو عمل، وصاحب بديهة حاضرة دوماً، وشخصية مرحة، وهو على جدّية كتاباته، لمَن لا يعرفه، كوميديان كبير! تمكّن وليد من إنجاز الكتاب بمقدمة رائعة منه، وصدر عن "المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن"، في سنة 2004، بعنوان: "يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002". ثم انتقلنا إلى سجن "هداريم" في أم خالد المحتلة، ولم ألتقِ بالأخ أبو القسّام لأنه كان في العزل الانفرادي. هناك التقيت الإخوة الأسرى كريم يونس، ويحيى السنوار، وعباس السيد، وبسام السعدي، وصالح العاروري، وعبد الرحيم ملوح، ومصطفى بدارنة، والأسير الشهيد سمير القنطار الذي كان "الدوبير" في حينه، وكان يقيم مع وليد دقّة في "الإكس" [الغرفة] نفسه. كانت تجربة "هداريم" تجربة غنية على المستويين المعرفي والسياسي، إذ اجتمع فيه قادة الحركة الأسيرة من مختلف تشكيلات الحركة الوطنية الفلسطينية، وكان هؤلاء هم الذين قادوا الإضراب عن الطعام في سنة 2004.

وأمّا توثيق تجربة المعركة، فكان على خمس مراحل: الأولى في الميدان سواء بالتصوير أو التواصل مع الإعلام؛ الثانية في السجن مع الرفيق وليد دقّة وصدر عنها كتابه "يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002"؛ الثالثة خلال إعدادي لرسالة الماجستير في جامعة بيرزيت بإشراف أخي عبد الرحيم الشيخ، وكانت بعنوان: "معركة مخيم جنين: التشكيل والأسطورة (نيسان 2002)" (2012)؛ الرابعة عبر إصدارها في كتاب من مؤسسة الدراسات الفلسطينية، قدَّمه أخي مروان البرغوثي، وهو بعنوان: "معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي"، والذي صدر في سنة 2022؛ الخامسة بالتسجيل المصوّر والمكتوب لشهادة الأخ زكريا زبيدي لأيامِ ما - بعد أسرنا (13 - 17 نيسان / أبريل 2002)، برفقة أخي عبد الرحيم الشيخ حين كنا نزور زكريا الذي كان للأسف في سجن السلطة خلال الفترة 2011 - 2016، وهو الجهد الذي أثمر رسالته للماجستير أيضاً من جامعة بيرزيت، بعنوان: "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الوطنية الفلسطينية من 1968 - 2018" (2022).

 

 الأسير نائل البرغوثي وجمال حويل والأسير الراحل محمود بكر حجازي، رام الله، 2012

 

 جمال حويل والأسير المحرر فخري البرغوثي والأسير الراحل عمر البرغوثي، رام الله، 2017

 

جرّبتَ حياة الفدائي في انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى والدفاع عن المخيم حتى هذه اللحظة، وجرّبتَ حياة السجن كأسير، وجرّبتَ حياة السياسي النائب في المجلس التشريعي وعضو المجلس الثوري، وجرَّبت حياة الطالب ثم الأكاديمي. أي من الشخصيات الأربعة، الفدائي والأسير والأكاديمي والسياسي، كنت ستختار لو طُلب منك اختيار واحدة فقط؟

الشخصيات الأربعة مترابطة ولا يمكن الفصل بينها، لكن التحصيل الأكاديمي يزيد في احترام الناس للمقاتل، وهذا ينطبق كذلك على أخي زكريا زبيدي، وأنتم تذكرون تفصيلات التحاق كلينا بالماجستير وموضوع رسائلنا وقصص تخرّجنا. المهم، ضابط الاستخبارات الصهيوني مرة لقيني على الجسر وقال: "هذا هو المقاتل الأيديولوجي المثقف، وكثير مطاردين طلعوا من تحت إيديه!" سألني كيف أكون متعلماً ومعي شهادات ماجستير ودكتوراه وإخوتي ورفاقي في المقاومة لم ينهوا الإعدادي؟ أجبته، نحن كلنا لا نفك الخط، لكننا نعرف أن المقاومة هي الطريق لتحرير فلسطين، فالأمر لا يحتاج إلى جدال ولا إلى بحث علمي ولا لغات! وتذكرون كيف سأل الصحافي الصهيوني [تسفيكا يحزقيلي] الأخ زكريا زبيدي، في مقابلة قبل أسره الأخير بوقت قصير عن دراساته العليا في جامعة بيرزيت: 

- "هل تشتاق إلى السلاح؟"

- "لا، أنا أشتاق إلى الانتفاضة... إلى الثورة."

- "أنت تحب الثورات! قل لي: هل بقي لديك سلاح؟"

- "لا!"

- "ماذا، تعني "بلا". هذا ما بقي لديك، [لابتوب] آبل؟"

- "آه، طيب..."

- "واحد من المسلحين بيصير [معو بَسْ] آبل! قل لي، صدقاً، ما الأفضل السلاح أم الحاسوب؟"

- "شنيهم" [كلاهما]!" 

منذ صغري كنت متفوقاً في المدرسة، وأرتاد المسجد لأتعلم، بغضّ النظر عن فحوى وجدوى ذلك النوع من التعليم، وقدت فريق كرة القدم، وكذلك الحال في الجامعة في درجاتي العلمية الثلاث، وفي السجن. حين كنا في قيادة الشبيبة، في بداية تأسيس السلطة، كان الإخوة يتراهنون ماذا سيكون كل منهم بعد عشرين عاماً، فقلت لهم في حينه: أكاديمي. ولا أزال أذكر مقولة أخي كريم يونس وفحواها أن أثمن ما أنجزه في أسره الذي استمر أربعين عاماً كان الحصول على درجة الماجستير مع الأخ مروان البرغوثي في جامعة "هداريم". وخلال المطاردة، وخلال المعارك، وفي الأَسر، أوكل الإخوة إليّ مهمة البيانات والتواصل الإعلامي. وحتى في العمل السياسي، كنائب في المجلس التشريعي، أو العمل الحركي، كعضو في المجلس الثوري، أنت تحتاج إلى خلفية أكاديمية لتتمكن من إنجاز مهمتك بفاعلية ونجاح. صحيح أنك تلتقي بسياسيين واقتصاديين ورجال أعمال وشخصيات أمنية... لكن صلابتك الفكرية وتدريبك الأكاديمي مهمان في ذلك كله. كان انتخابي مهماً وأنا في السجن، لأنه عزز ثقتي بخيار أبناء شعبي وخيار المقاومة، وكان مدعاة فرح لوالدي الذي ودّعني قبل المعركة لأنه اعتقد بأنني سأستشهد وألحق بأخي نجيب، ففرح لأنني بقيت في قيد الحياة، وصرت نائباً في المجلس التشريعي وأنا ابن عامل بسيط تمكّن من بناء أسرة وتعليم أبنائه وبناته على الرغم من كل شيء. لكن بالتأكيد أَحَبّ الشخصيات لي هي شخصية الفدائي المقاتل في ميادين المقاومة، من رشق الحجارة والمقلاع والزجاجات الحارقة، حتى المواجهة المسلحة والعمل العسكري بأشكاله كافة. أيام المعارك في جنين، من سنة 2002 حتى سنة 2023، هي أجمل أيام حياتي. ولذا، أرفض حين أخرج في الفضائيات تعريف "محلل سياسي"، فأنا عضو مجلس ثوري ومقاتل أولاً، وأسير محرر ثانياً، وأكاديمي ثالثاً، وسياسي رابعاً. لكن الفكرة عن المقاومين هي أنهم "غير متعلمين" و"زعران"، وذلك بسبب الظروف المعيشية التي حالت دون إكمالهم تعليمهم. وأذكر اجتماعاً مع أحد المسؤولين الأمنيين، حين قال لي أنه يخشى علينا أن يتهمنا الناس بأننا "زعران"، فأجبته بدعابة جادة: "هذه إهانة! من أنا وعمري سبعة أعوام كنت الأول على الصف الأول، وكنت أزعر! وأنهيت 'المترك' وكنت الأول، وكنت أزعر! وأنهيت التوجيهي، وطلعت الأول، وكنت أزعر! وأمضيت عمري في السجون والمعارك، وصرت تشريعي، وصرت ثوري، وأنا أزعر! وفي آخر أيامي تريد أن تسحب مني هذا الامتياز؟ فليقل الناس عنا 'زعران'، نحن عرفنا القضية من لجوء أهلنا، وعرفنا 'فتح' من رصاص حسن أبو سرية، وعرفنا الشبيبة من دماء فتحي قانوح... ولم نعرفها من كتب التاريخ." طلابي في "الجامعة العربية الأمريكية" اليوم يحاولون فك الشيفرة التي تجمع بين هذه الشخصيات الأربعة، فيسألون عن التاريخ، والجغرافيا، والسياسة، لكن أكثر أسئلتهم تتركز على السلاح. وأطفال المخيم يقومون بالتدريب ذاته، وربما يصلون إلى نتائج مختلفة، غير أنهم يتساءلون عن البندقية وعلاقتها بالأَسر والمعرفة والسياسة. 

انتخابات 2021: "فتح" والقدس والحرية 

في حالة عقد مؤتمر ثامن للحركة في 17 كانون الأول / ديسمبر 2023، مثلما أُعلن في الدورة 11 للمجلس الثوري الأخير في رام الله في 24 - 26 آب / أغسطس 2023، والتي لم تُدعَ إليها بالمناسبة، بغضّ النظر لو كنتَ في الأَسر أو خارجه، هل تعتقد أنك ستفوز في انتخابات الثوري، أو المركزية، أو سيتم ترشيحك للتشريعي؟

مثلما أشرتم، لم أُدْعَ أنا وزملائي من أعضاء المجلس الثوري لحركة "فتح" ممّن وردت أسماؤهم في "قائمة الحرية" للانتخابات التشريعية الملغاة في آذار / مارس 2021. وهذه ليست المرة الأولى، على الرغم من عدم وجود أي قرار بشأن ذلك، وعلماً بأنه لا يوجد ما يبرر التعليق أو التجميد أو الفصل. على أي حال، اسمحوا لي بعدم نقاش الاحتمال الافتراضي الذي تفضلتم بطرحه، والاكتفاء بالقول إن تركيبة المجلس الثوري واللجنة المركزية حالياً ربما لا تتيح إعادة سيناريو انتخابي للتشريعي وأنا في الأَسر، ولا انتخابي للثوري وأنا في الحرية. الأخ مروان البرغوثي الذي لا يزال عضواً في اللجنة المركزية، يوصينا دائما بثنائية "التعايش والتمايز" داخل حركتنا الأم، لكن أخشى ألّا يتاح ذلك أيضاً في ظل الوضع القائم. مهمتنا الأساسية في هذه المؤتمرات هي المشاركة الفاعلة في مراجعات الحركة، وصوغ مقرراتها، وترشيح الأخ مروان البرغوثي للجنة المركزية. 

لكن ما الذي حدا بكم إلى إعلان "قائمة الحرية" بالشراكة مع الأخ ناصر القدوة الذي كان في حينه على خلاف مع الرئيس أبو مازن، وخارج اللجنة المركزية حكماً؟ وهل صحيح أنه تم تعديل قانون الترشح للرئاسة على نحو يحول دون ترشيح الأخ مروان البرغوثي؟

100%. لكن اسمحوا لي بتوضيح أمر في غاية الأهمية هنا. أنا شخصياً كنت ولا أزال ضد تشكيل أي قائمة غير قائمة حركتنا الأم، "فتح". وكان هذا موقفي حتى الليلة الأخيرة التي تشكَّلت فيها القائمة. لكن سياق الإعلان بشأن الانتخابات التشريعية التي كان من المفترض أن تتلوها انتخابات رئاسية لو حدثت، مليء بالتفصيلات الذاتية والموضوعية التي يجب توضيحها، وهي برسم الجميع للحوار الجدّي بشأنها، وتتعلق بثلاثة مستويات متداخلة: دولياً، ووطنياً، وفتحاوياً.

على المستوى الدولي، جاء الإعلان بشأن الانتخابات في ظل بلاغة سياسية بتحقيق "انتصار سياسي" عنوانه: "إفشال صفقة القرن" على الرغم من "نجاح" عقد "اتفاقيات أبراهام"، ونقل السفارات، وهرولة مزيد من الرسميات العربية إلى التطبيع مع "إسرائيل"، وتغوّل "إسرائيل" وإدارة ظهرها للسلطة الفلسطينية سياسياً بشكل غير مسبوق. إن خيار الأخ أبو مازن ونهجه المعتمد بصورة كلية على المسار السياسي والقانوني والمفاوضات المتوقفة أصلاً باستثناء التنسيق الأمني، لم يفلحا في تحقيق أي شيء للسلطة ولا للفلسطينيين. وبطبيعة الحال، يُستثنى من ذلك "الاستحقاقات" التي تُبقي السلطة أمنياً (بصورة كاملة) وخدماتياً (بالحد الأدنى) تنازع بين الحياة والموت بحسب تقديرات أجهزة الأمن "الإسرائيلية" التي ترى من مصلحة "إسرائيل" بقاء السلطة قائمة على الأقل لـ "ضبط الأوضاع في مناطقها" التي لم يتوقف جيش الاحتلال واستخباراتها عن "ضبطها" بالنار والحديد والدم.

أمّا على المستوى الوطني، فقد ساهم الانقسام الكارثي الذي تسبب به استيلاء حركة "حماس" بالحسم العسكري على السلطة في قطاع غزة، في تشكيل ذريعة كافية لتعطيل الحياة السياسية من خلال: إعادة تشكيل اللجنة التنفيذية وحل المجلس التشريعي؛ تحجيم القضاء في سلسلة من التعيينات والقرارات بقانون؛ إعاقة عمل البُنى المؤسساتية ذات العلاقة سواء في المنظمة أو في السلطة. ونتيجة السخط الشعبي على هذا الواقع الذي استشرى فيه الفساد والقبضة الأمنية، وسلسلة الإضرابات التي خاضتها الاتحادات والنقابات ومختلف الحراكات الشعبية، وجرّاء انغلاق مسار الحوار الوطني مع الفصائل الوطنية، وتحديداً الجبهة الشعبية وحركة "حماس"، وبصورة أقل الجهاد الإسلامي، كان لا بد من "تجديد الشرعيات" على مستوى الرئاسة واللجنة التنفيذية والمجلس الوطني والمركزي والتشريعي، فضلاً عن اللجنة المركزية والمجلس الثوري. وبعد المداولات على المستوى الوطني، وما أشيع عن لقاء الأخوين جبريل الرجوب وصالح العاروري، فإنه على ما يبدو تم إنجاز اتفاق مبدئي بشأن "ترتيب البيت الفلسطيني" بإجراء الانتخابات التشريعية وإبقاء أمر الانتخابات الرئاسية معلقاً إلى ما بعد ذلك، بحيث يكون الأخ جبريل الرجوب رئيساً للمجلس التشريعي، والأخ خالد مشعل أمين سر للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وامتناع حركة "حماس" من طرح مرشح للرئاسة لإعطاء الأخ أبو مازن فرصة أُخرى.

فيما يتعلق بالمستوى الفتحاوي، فقد نوقش موضوع عقد الانتخابات في اجتماعات اللجنة للمركزية والمجلس الثوري، وتم الاتفاق على عدم ترشُّح أي من أعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري في قائمة حركة "فتح" للمجلس التشريعي، وكذلك عدم ترشُّح أي وزير أو محافظ أو لواء. آنذاك، لم يكن في ذهني إلّا ترشيح الأخ مروان البرغوثي للرئاسة والأخ زكريا زبيدي للثوري. لم يكن في نيتي الترشح لأي منصب. على أي حال، بناء على ذلك زار الأخ حسين الشيخ الأخ مروان البرغوثي في سجن "هداريم" في 11 شباط / فبراير 2021 من أجل ترتيب البيت الفتحاوي الداخلي والاتفاق على معايير تشكيل قائمة حركة "فتح". وجرى الاتفاق مبدئياً على المعايير التي تضمن تمثيلاً منصفاً للمرأة والأكاديميين والمستقلين، ولم تتم مناقشة الانتخابات الرئاسية على اعتبار أن تلك الزيارة ستتكرر مرتين أو ثلاث قبل الانتخابات. وقد أكد لنا الأخ مروان البرغوثي ما أعلنه الأخ حسين الشيخ بشأن تلك المداولات، لكن الزيارة لم تتكرر! وفي أوج التحضير للانتخابات، أعلنت وسائل الإعلام، وخصوصاً الإسرائيلية، أن "إسرائيل تلقت ضمانات قانونية بعدم ترشُّح مروان البرغوثي للرئاسة"! وبعد البحث، تبيّن لنا أنه تم تعديل القانون الساري الأصلي لإجراء الانتخابات العامة (القرار بقانون رقم "1" لسنة 2007)، والذي جاء بالمناسبة كردة فعل على فوز حركة "حماس" في انتخابات سنة 2006، وذلك على ما يبدو لضمان عدم تشتت أصوات القاعدة الفتحاوية بالترشُّح الفردي، ولاعتماد نظام القوائم النسبي. وجاء التعديل الجديد بموجب (القرار بقانون رقم "1" لسنة 2021)، على الرغم ممّا فيه من عوار دستوري بيّنه لنا الإخوة القانونيون، للحيلولة دون ترشُّح شخص إذا لم يكن "مرشحاً عن قائمة أو حزب" بحسب (المادة 39 / 5) في قانون سنة 2007، الأمر الذي يعني عدم التمكن من ترشيح الأخ مروان البرغوثي للرئاسة إن لم ترشّحه حركة "فتح".

هنا، استفسرنا عن مغزى القرار بقانون بهذا الشأن، فزودنا الإخوة في الأمن بورقة صادرة عن ديوان الفتوى تقول بإمكان ترشُّح الأخ مروان البرغوثي للرئاسة. وبحكم خبرتي في المجلس التشريعي، موظفاً ونائباً، وبعد سؤال الإخوة القانونيين، فإن هذه الورقة "بنبلها وبنشرب ميِّتها" لأن القرار بقانون سنة 2021 لا يعدَّل إلّا بقانون جديد لا بورقة غير رسمية من ديوان الفتوى. عندها تداولنا مع الأخ مروان البرغوثي، وكان القرار، في اللحظات الأخيرة، هو تشكيل قائمة. وحاول بعض الإخوة في الأمن والحركة ثنينا عن ذلك، وكان الشعار أن "الرئيس أبو مازن محاصر"، فتذكرت حصار أبو عمار في المقاطعة، وأجريت مقارنة، ولم أجد وجهاً للشبه. هناك تفصيلات كثيرة لا يتسع المقام لذكرها هنا عن تلك الأجواء، ومن ضمنها قفز بعض الإخوة الذين كانوا معنا من قاربنا. لكنني كنت في غاية الغضب والحزن لأننا لم نلجأ إلى ذلك إلّا لتحقيق هدف وحيد هو ترشيح الأخ مروان البرغوثي للرئاسة. في تلك الأثناء تواصل معنا الأخ ناصر القدوة، على الرغم من الفروقات الجوهرية في أهدافنا ومشروعنا عن أهدافه ومشروعه، وشكّلنا "قائمة الحرية" بطريقة لا "يتضرر" أعضاؤها من أي إجراءات عقابية. وهي قائمة انتخابية - برلمانية وليست قائمة سياسية نقيضة لـ "فتح"، لأننا لم نشكّل القائمة لنجعل أبو القسّام رئيساً بامتيازات، وإنما لإنصاف قضية الأسرى، وإحراج "إسرائيل" عالمياً، إذ كيف يكون فدائي، أو "إرهابي يداه مطلخة بالدماء" مثلما يزعمون، رئيساً للشعب الفلسطيني؟ كنا نريد عمل "دعاية غير انتخابية لمروان البرغوثي"، مثلما جاء في إحدى مقالاتك، وإعادة الاعتبار إلى خطاب التحرر الوطني. وعلى الرغم من تقديرنا أن الانتخابات الرئاسية قد يتم إرجاؤها أو إلغاؤها، وأن الانتخابات التشريعية نفسها قد يتم إرجاؤها أو إلغاؤها، وهذا ما حدث فعلاً، بغضّ النظر أكان السبب القدس أم غيرها... فإننا لم نشكّل القائمة لننتصر على "فتح". نحن "فتح". كنا "فتح". وما زلنا "فتح". وسنبقى "فتح". 

مفاوضات على الجسر: "يا أنا يا إنت!" 

كيف أتاحت "فتح" في المؤتمر السابع فوزكم كتوجه مقاوم داخل الحركة يقوده الأخ مروان البرغوثي، ثم وصلتم إلى خيار تشكيل قائمة أُخرى للأسباب التي ذكرتها؟ هل كان ذلك شهر عسل بين توجهين متعارضين، أو على الأقل غير منسجمين؟ هل هناك توجه متنفذ وآخر يحاول "التمايز والتعايش"، أي توجه "المقاومة السلمية" في مقابل توجه "المقاومة الشاملة"؟

صحيح أنه يوجد توجه متنفذ، ليس فقط في "فتح"، بل في منظمة التحرير الفلسطينية أيضاً. وما يجمع بيني وبين إخوتي في هذين التوجهين هو العمل من أجل فلسطين، لكن بالتأكيد ما يجمع بيني وبين الأخ مروان البرغوثي والأخ زكريا زبيدي هو البارودة. وهذا تقريباً كل شيء. وسأروي لكم قصة حدثت معي على الجسر يمكن أن تلخص الوضع كله. احتجزوني على الجسر، وجاء قائد "الإدارة المدنية" "بولي مردخاي"، وعرَّفني بنفسه لأنني لا أعرفه شخصياً، مع أنه حاول الاتصال بي هاتفياً ورفضت الحديث معه. قال لي: "أنا 'بولي مردخاي'، أنا اللي هزمتك في جنين!" فقلت له: "فشرت! شارون وموفاز ويعالون وبن إلعازر كلهم كانوا على مشارف مخيم جنين، ولم يهزمونا. قُتل منكم 23 جندياً وتكبدتم مئات الإصابات، ودافعنا عن كرامتنا حتى اللحظة الأخيرة، كيف هزمتني؟" ضحك ضابط الاستخبارات المرافق له، وقال لـ "مردخاي": "قلت لك لا تتحدث معه!" فسألته مَن يكون، فأجاب إنه "كابتن أيوب" المسؤول عن جنين. بعد ذلك اقتادوني إلى غرفة التحقيق، واجتمعوا معي، وبدأ "مردخاي" يتحدث عن برنامج الرئيس أبو مازن، وسألني: "طيب، لو غيّر الرئيس توجهاته، وأمرك بأن تطلق النار، هل ستلتزم بقراره؟" فقلت له: "فوراً". فردّ عليّ: "لكنني عندها سأقتلك!" فقلت له: "وأنا سأقتلك، يا أنا يا إنت! وعليك أن تعرف أن فكرتنا في حركة 'فتح' مختزنة في شعار العاصفة، الكلاشينكوف والقنبلة، وهي حجة على كل فتحاوي: الرئيس والمرؤوس." فقال: "هذا شعار صاحبك مروان البرغوثي الذي سيعفّن في السجن!" فقلت له: "عليك أن تلحق نفسك وتأخذ صورة معه، فقد يذكرك التاريخ، لأنه قائد وطني وأُممي، مروان البرغوثي هو مانديلا فلسطين."

وفي مرات أُخرى، كانوا يدفعون بضباط استخبارات آخرين للحديث معي، ومناقشة موضوعات سياسية، وكان ردّي دائماً: هل أنت مكلَّف من قيادتك؟ وكان الجواب مراوغاً. وكنت أرد على الفور: وأنا غير مكلّف من قيادتي. موقفي واضح، وهو أن المسار السياسي له شخوصه المكلفون من الرئيس، وأي التفاف على ذلك المسار هو محاولة لخلق قيادات بديلة، وهذا أمر مرفوض ويدخل في باب التعاون مع العدو. أمّا أنا، فخياري واضح ومعلن: المقاومة الشاملة، وأرقى أشكالها الكفاح المسلح. هذا هو توجهنا، وهذا هو قرارنا الذي تتبنّاه أغلبية القاعدة الفتحاوية. أدرك أن هشاشة الوضع الفلسطيني الداخلي بسبب الانقسام، وبسبب تناقضات حركة "فتح"، تُضعف موقفنا كثيراً، غير أن مؤسسات حركة "فتح" السياسية والتنظيمية هي التي يجب أن تقرر شكل "التواصل" مع العدو. لكن للأسف التوجه المتنفذ متوافق مع برنامج الأخ أبو مازن، سواء في اللجنة المركزية أو في المجلس الثوري. والحقيقة أن المؤتمر السابع انتخب الأخ مروان البرغوثي لعضوية المركزية بأعلى الأصوات، والأخ كريم يونس بالتزكية والتصفيق، والأخت فدوى البرغوثي بأعلى الأصوات للمجلس للثوري، كما انتخبني وانتخب الأخ زكريا زبيدي والأخ فخري البرغوثي. إلّا إن علاقات القوة داخل "فتح" ينتج منها نوع من التجانس مع برنامج الأخ أبو مازن، وتلك بالتأكيد لعبة مصالح مثلما يحدث في كل مكان في العالم. ولا شك في أن ذلك يلقي بظلاله على فاعلية أصواتنا داخل مؤسسات حركة "فتح"، لكن المسّ بالمقاومين، أو شيطنة بعضهم بأوصاف لا تليق، هما أمر مرفوض فتحاوياً ووطنياً.

 

 أعضاء المجلس الثوري لحركة فتح، زكريا زبيدي وفدوى البرغوثي وجمال حويل، رام الله، 2016

 

في هذه الأجواء التي أُلغيت الانتخابات بذريعة القدس، حدثت "هبّة القدس" في أيار / مايو 2021، وكانت بداية انتفاضة شاملة على امتداد فلسطين التاريخية، لكنها لم تكتمل: جرى تفعيل أدوات التخريب الصهيونية في القدس؛ تغييب الراحل نزار بنات في الضفة الغربية على يد أجهزة أمن السلطة؛ كسر شوكة الحراكات في فلسطين 1948 عبر إنهاك الفلسطينيين بالجريمة المنظمة؛ كسر مقولة "وحدة الساحات" بين غزة وبقية الساحات؛ تجريم المبادرات الشعبية بمقولة "الأجندات المشبوهة"، وتحديداً في الشتات؛ تفعيل سلطة "الكابو" للالتفاف على منجزات الحركة الأسيرة في السجون الصهيونية. ولذا، اتسعت الفجوة بين السلطة وحركة "فتح" من جهة، والناس من جهة أُخرى، وتم تصوير الفعل المقاوم على أنه "عمليات فردية"، في الوقت الذي ظهرت تشكيلات مقاومة جديدة متفرعة عن كتائب شهداء الأقصى، مثل "عرين الأسود" في نابلس، و"كتائب شهداء الأقصى - (لواء الشهداء) و(عش الدبابير)" في مخيم جنين، و"كتيبة الرد السريع" في طولكرم.

هذا تشخيص دقيق ربما تسبب به أمران أساسيان: الأول، هو توصل قادة "إسرائيل" وأجهزتها الأمنية، إلى أن القيادة الفلسطينية، على الرغم من بلاغتها السياسية، راضية عن بقائها في السلطة حتى مع فشل المسار السياسي بالمطلق، وعن مواصلة إدارة شؤون الناس بالحد الأدنى، والاستمرار في التنسيق الأمني مع أن توقيفه أُعلن مراراً وتكراراً. الأمر الآخر هو الفشل الذريع في إنهاء الانقسام الفلسطيني، أو على الأقل، تجاوز تداعياته، الأمر الذي أدى إلى إفشال مقولة "وحدة الساحات"، وإلى مضاعفات أُخرى عمّقت الشرخ حتى بين السلطة وحركة "فتح" والناس بعد اغتيال الراحل نزار بنات. وفيما يتعلق بالتشكيلات المقاومة، في نابلس وجنين بصورة خاصة، وفي طولكرم وأريحا وطوباس والقدس والخليل ومناطق الضفة الغربية بصورة عامة، فإنه صحيح أن بعضها اتخذ طابعاً فردياً، إلّا إنها عامة ترفع شعاراً واحداً هو المقاومة دفاعاً عن كرامتنا ووجودنا الوطني في ظل هجمات المستوطنين، وتوحُّش جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، وإدارة الظهر الكاملة للقيادة الفلسطينية وتكريس البعد الوظيفي لها. ونحن نشاهد كيف تقتحم الوحدات الخاصة في أمن الاحتلال وجيشه المجرم مخيماتنا وقرانا ومدننا تحت أنظار الأجهزة الأمنية الفلسطينية وبالقرب من مقارّها. فهذه التشكيلات المسلحة لم تتغير قناعتها بأن الاحتلال الصهيوني منذ بدايته يريد طردنا من هذه الأرض، أمّا نحن، فمطلبنا الأرض والتحرير والحرية التي لن تتحقق لا بالمفاوضات ولا بنداء "اِحمونا" الذي أطلقه الأخ أبو مازن في الأم المتحدة. لن يتحقق ذلك من دون مواجهة العدو ومستوطنيه، ولن يحمينا أحد إن لم نحمِ أنفسنا، وهذا ما يحدث حالياً. قناعتنا، والتي شاركنا فيها أبناء شعبنا وبعض إخوتنا في قادة الفصائل المقاومة، هي أن عدم مواجهة العدو فوراً وبشكل متواصل هو انتحار، لأنه يمنح العدو وقتاً لاستكمال مشروعه الإبادي في صورة نكبة مستمرة. ونحن لن نمنحه هذه الفرصة. 

معركة مخيم جنين 2023: هجوم "عش الدبابير" 

اكتسبت هذه المجموعات الفدائية شرعية شعبية غير مسبوقة. فحين كان شباب "عرين الأسود" يطلقون نداء لخروج الناس من أجل إرباك القوات "الإسرائيلية"، كانت فلسطين كلها تلبي النداء. وفي كل يوم تنجح هذه الظاهرة النبيلة في الاستفتاء على خيار المقاومة بالدم، ومع ذلك، خرج مَن يقول بـ "غياب الهدف السياسي" لهذه المجموعات. ويبدو أن هناك محاولات لـ "احتواء" تذكِّر بما حدث في أعقاب اغتيال أبو عمار. "إسرائيل" تدمر وتقتل وتعتقل، والسلطة تكتفي بالإدانة والزيارات الميدانية للمسؤولين بعد انسحاب الاحتلال، وأحياناً التعويض على الناس. هذا هو الملاحظ في العلن على الأقل. كيف يمكن فهم ذلك؟

الشرعية الشعبية التي عمّدتها هذه المجموعات المقاومة بالدم تحققت ولن يتمكن أحد من نزعها، لكن حصادها السياسي للأسف ما زال مرهوناً بمزيد من الالتفاف الجماهيري حولها، فهذا الالتفاف تحول إلى قوة سياسية من خلال مختلف الفصائل الفلسطينية والمؤسسات الحزبية والاتحادات والتجمعات الوطنية المؤثرة في صناعة القرار. إلّا إن في جميع الأحوال يتعين علينا، سواء في المجموعات المقاومة أو حاضنتها الشعبية أو أصحاب التوجه المشتبك مع الاحتلال في فصائل العمل الوطني والإسلامي، أن ننتبه إلى أن الاحتلال يستخدم القفازات الحديدية في محاولة القضاء على هذه الظاهرة، من خلال القتل والأَسر والتدمير، ويستخدم القفازات الحريرية من خلال التدخل عبر ألاعيب "الإدارة المدنية"، أو حتى استغلال أعمال الإعمار سواء من خلال السلطة أو غيرها. هذا هو الجانب المرئي. أمّا الجانب غير المرئي فمتعلق بكارثة استمرار التنسيق الأمني، وعدم تحقيق اختراق واضح في انخراط الإخوة في الأجهزة الأمنية في الدفاع عن أبناء شعبهم، مثلما حدث في "هبّة النفق" و"انتفاضة الأقصى"، وذلك على الرغم من وجود حالات فردية تخرج عن هذه القاعدة، بل إن بعض الإخوة قضى شهيداً في مواجهة العدو خلال العامَين الأخيرين. لكن هناك مَن يقول لك: "ما بدنا نقتل أولادنا ببلاش!" في حين يضربنا العدو الذي يستخدم أولاده أيضاً، بكل ما أوتي من قوة. والأَولى بنا، ونحن ندافع عن قضيتنا العادلة وقضية الحرية، أن نكون الأجرأ والأكثر إقداماً على التضحية في وجه عدونا المجرم.

إذاً هي ثقافة المقاومة في مقابل ثقافة الهزيمة، والأبوية السياسية في مقابل الأبوية الثورية. فإذا كان العدو أرسل أبناءه في زي عسكري لقتلك وقتل أبنائك وهدم بيتك على رأسك، فلماذا لا تقاومهم؟

لقد فجّرنا ثورتنا، وضحينا بأبنائنا لصدّ العدو، وتدفيعه ثمن جرائمه، ولوضع اسم شعبنا وقضيتنا على الخريطة، وتحقيق أهدافنا السياسية بالكفاح المسلح الذي جعله "الميثاق الوطني الفلسطيني" في سنة 1968 الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، والذي أقرّته الشرعية الدولية، بعد أن حولناه من حقّ إلى واجب. ألم يكن أولئك أولادنا أيضاً؟ أليس للحرية ثمن؟ وهل يحق للجالس في بيته أن يحاضر في المقاتلين الذين ينتظرون الشهادة؟ غير أن الأخطر من ذلك هو ما أشرتم إليه، وما يحدث فعلاً على الأرض في محاولات، تنجح أحياناً وتفشل في معظم الأحيان، لاحتواء هذه الظاهرة الشريفة وتفكيكها عبر سلسلة من عمليات "الإغواء والإغراء" على رأي الأخ وليد دقّة. لكن المقاومين من أبناء "فتح" دخلوا هذه الحركة لأنها حركة تحرر وطني، حركة مقاتلين، وليست قطيعاً، ولذلك، لن تنجح أي مساعٍ لثنيهم عن الدفاع عن أبناء شعبهم، ووطنهم، ووجودهم، وحقّهم في الحياة.

إذا كان سلوك القيادة الفلسطينية يفسَّر بالتزامها ببرنامجها السياسي، وسلوك الأجهزة الأمنية يفسَّر بالتزامها بعقيدتها الأمنية، فكيف يمكن تفسير تحرُّز بعض الفتحاويين من المقاومة، وتحديداً التساؤل عن تنوّع الانتماءات التنظيمية لأفرادها، والتخوف من "جني أرباح" نتائج عملياتها المقاومة واستثمارها إعلامياً وسياسياً من طرف خصوم حركة "فتح" السياسيين، الأمر الذي يتضافر بطبيعة الحال، مع خطاب "الأجندات الخارجية"، وفزّاعات الانقلاب على السلطة؟

مرة أُخرى، الحسم العسكري من طرف حركة "حماس" في سنة 2007 وما تلاه من انقسام، لا يزال يلقي بظلاله الثقيلة حتى الآن. وهناك في "فتح" مَن لا يزال يتخوف حتى الآن من أي نشاط سياسي أو عسكري فيه أي شيء من مظاهر الوحدة الوطنية، بدعوى غريبة فحواها أن "غزوة المقاطعة اقتربت"! لكن هذا السيناريو بعيد التحقق لاعتبارات تعرفونها عن واقع الاحتلال، وواقع السلطة، وواقع حركتَي "فتح" و"حماس" المختلف جذرياً عمّا كانت عليه الحال في غزة ما قبل سنة 2007. أعتقد أن هذه الأصوات، والتأليب الإعلامي من الطرفين، هو أمر بالغ الضرر بمسيرتنا الوطنية في ظل وجود وحدة ميدانية بين فصائل المقاومة الفلسطينية، حتى إن لم تصل إلى "وحدة الساحات". إن الحفاظ على الخطاب الوحدوي في هذا الإطار هو أمر في غاية الأهمية، وهو خطاب له حضوره وتؤيده الحاضنة الشعبية بشكل كبير، أكان صادراً عن الشباب المقاومين في الميدان، أم عن قادة الفصائل الوطنية والإسلامية الذين يحظون بالاحترام الشعبي، وهذا منجز يجب أن نحافظ عليه ونعززه.

دعنا نتحدث عن معركة مخيم جنين الثانية في 3 - 4 تموز / يوليو 2023، والتي أطلق عليها المقاومون "بأس جنين"، بينما أطلق عليها الاحتلال اسم "بيت وحديقة"، إذ يظهر أن المساعي لتفكيك بُنية المجموعات المقاومة لم تنجح في مخيم جنين مثلما نجحت جزئياً في أماكن أُخرى، ويبدو أن "عش الدبابير" انتشر في أنحاء الضفة الغربية كافة.

مجموعات المقاومة، على اختلاف انتماءاتها التنظيمية، هي ظاهرة واحدة، وكان لي شرف إلقاء بيان انطلاقة "عرين الأسود" في نابلس، كما أنني أهديت شباب "كتيبة جنين" كوفية الشهيد القائد محمود طوالبة التي احتفظت بها من معركة مخيم جنين الكبرى في سنة 2002، وكان أهداني كوفيته الحمراء وأهديته كوفيتي السوداء كناية عن وحدتنا الوطنية. بهذا المعنى، لن تنجح أي محاولات لتفكيك الظاهرة. صحيح أن الإرادة واحدة، وظروف العمل المقاوم صعبة للغاية في كل مكان، لكن ما يمتاز به مخيم جنين هو وجود وحدة وطنية مكرّسة بين مجموعات العمل الفدائي، وعلاقات أكثر متانة بين التنظيمات. وقد لمست في المواجهة الأخيرة النَّفَس ذاته الذي تحدث به إلينا قادتنا الوطنيون في حينه من الشهيد ياسر عرفات إلى القائد الراحل رمضان عبد الله شلّح. فالإخوة في حركة "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي أوعزوا إلى شبابهم الالتزام بقرارنا الميداني المقاوِم حتى النهاية. أمّا الفرق بين مخيم جنين وسواه، فقد أوضحته سابقاً بمقولة بسيطة كانت عنوان صمودنا في جميع معاركنا مع العدو، وخصوصاً في سنة 2002: ليس لدينا ملجأ آخر غير المخيم، ولا خروج منه إلّا شهداء أو عائدين إلى بلدنا في فلسطين 1948. وقد أعدّ المقاومون العُدّة لهذه المواجهة على الرغم من جميع الصعوبات وشحّ المصادر، واستعدوا من خلال: تركيب نظام الإنذار، ونصب الحواجز والمتاريس، وحفر الأنفاق، وتسيير دوريات المراقبة الليلية، وتغطية أزقة المخيم لعدم تمكين المُسيّرات من مراقبة المقاومين أو اصطيادهم، ولإضعاف سلاح القناصة لدى العدو... وقد تم ذلك كله بإمكانات بسيطة ومتواضعة، لكنها كانت فاعلة، فالمقاومون وجّهوا ضربات موجعة إلى الاحتلال اشتملت على إيقاع قتلى وجرحى في صفوفه على امتداد العامَين الأخيرين، وإعطاب مركباته، وإحالتها إلى سوق الخردة. والجميع يذكر الكمين الذي نصبه المقاومون لمركبة "النمر" في 19 حزيران / يونيو 2023، والتي غدت نمراً من ورق ممزق بعد تفجيرها وإصابة مَن في داخلها! وبالتالي، لدينا وحدة مصير، ووحدة جماهيرية تشكل حاضنة شعبية ممتازة، ووحدة ميدانية بين المقاومين، ووحدة هدف، ووحدة خطاب سياسي لدى فصائل المقاومة، ووجود مهم وفاعل لرموز المقاومة ممّن خاضوا معركة المخيم في سنة 2002: أنا كعضو مجلس ثوري، والأخ عطا أبو ارميلة كأمين سر لإقليم حركة "فتح" في جنين، والرفيق إياد العزمي المناضل المعروف من الجبهة الشعبية، والأخ مراد طوالبة أخ الشهيد القائد محمود طوالبة. أمّا سائر رفاقنا في معركة سنة 2002 من الفصائل الأُخرى، فجرى اعتقالهم.

هل كان دافع إسرائيل استعادة هيبة "النمر"، أي إصلاح الصورة المهزوزة لوحدات نخبتها الاستخباراتية والعسكرية، أم محاولة القضاء على الظاهرة المسلحة في المخيم، وتدمير بُنيته التحتية لإشغال الناس بها بعد المعركة، مثلما فعلوا في سنة 2002؟

لقد جاؤوا إلى المخيم وفي أذهانهم هذه الأمور كلها، فحشدوا من القوات والآليات والمخططات ما اعتقدوا أنه سيمكّنهم من تحقيق أهدافهم، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وإن نجحوا جزئياً في تدمير بُنية المخيم التحتية. وكعادتهم جاؤوا بعدد كبير قوامه 1000 جندي محصّنين بالمركبات والمدرعات التي بلغت أكثر من 150 آلية، ومدعومين بجرافات D9 للهدم، وتغطيهم طائرات الاستطلاع التي قصفتنا منذ بداية الهجوم، وأطلقت خلال المعركة أكثر من 80 قذيفة، كما أطلقوا صواريخ لاو... وجميع حصيلتهم الاستخباراتية، وأعلنوا، ربما نتيجة تفاهم مع الأميركيين وجهات أُخرى، أنها حملة محدودة ستستمر 48 ساعة، وبعدد محدود من "القتلى". أمّا من جهتنا، فإن المقاومين كان قد أعدّوا عدّتهم مثلما ذكرت سابقاً، وحين كُشفت خطة العدو، كانت استراتيجيا المواجهة هي حرب الشوارع، بمعنى عدم التمترس في مكان واحد وثابت، بل المراوغة والانسحاب وإعادة الانتشار والتموضع خلف خطوط العدو. وهذه التكتيكات جرى اتّباعها بصورة أقل في معركة المخيم في سنة 2002. لقد كان الشباب متحمسين للالتحام والمواجهة المباشرة، إلّا إن ذلك كان سيوقع مزيداً من الشهداء والجرحى. غير أن تكتيك الالتفاف والتحرك المرن للمقاتلين نجح بصورة ممتازة في مشاغلة العدو وإلحاق خسائر في صفوفه. وكما تذكرون، فإن الكلمة الأخيرة كانت للمقاومين: طلقة في رأس جندي صهيوني، وتفجير آلية عسكرية. بمعايير حرب الشوارع، نحن انتصرنا، على الأقل لأن العدو لم يحقق هدفه بتصفية ظاهرة المقاومة المسلحة في المخيم.

رافقت الهجمة الصهيونية على المخيم حرب نفسية تضمنت إرغام الناس على مغادرة البيوت الموجودة على أطراف المخيم، وهو تكتيك تطهير عرقي يحفظه الفلسطينيون عن ظهر قلب منذ نكبة 1948. لقد أعاد "الإسرائيليون" بفعلتهم تلك مشاهد النكبة، كأنهم يخوضون معركة جديدة في "حرب 1948 [التي] لم تنتهِ" مثلما صرّح أريئيل شارون خلال انتفاضة الأقصى.

هذا صحيح، لكن مثلما قلت لكم، نحن لاجئون، واللجوء هوية وطنية وليست هوية مكانية فقط، فنحن ليس لنا إلّا المخيم، وقرارنا هو أن "النكبة المستمرة" يجب ألّا تستمر. وقد حاول بعض العائلات النجاة بالأطفال والنساء وكبار السن، وتجنيبهم معاناة المعركة التي فرضها الاحتلال، لكن المخيم لم يرحل. وطبعاً تلك جريمة اقترفها الاحتلال ولا يزال يكررها، غير أن وعي الناس يُفشل دائماً مخططات العدو. لقد قاومنا، وصمدنا، وازداد المقاومون خبرة، وازدادت الحاضنة الشعبية متانة. 

لكن هذه المعركة افتقدت أبو جندل وزياد العامر وزكريا زبيدي. وقد استدعى غياب المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية عن المعركة، إلّا كحالات فردية، سخطاً شعبياً عارماً، وتحوّل الأمن والسلطة إلى موضع تندُّر بعد انتهاء المعركة. أمّا شعبياً، فإن قلوب الناس كانت معلقة بجنين، وخلال تشييع شهداء المعركة الـ 13، كانت الجنازة بمثابة استفتاء على خيار المقاومة. هل كان هذا انطباعكم أيضاً في المخيم؟ وكيف تقارنون ذلك بتفاعل الناس مع زيارة الرئيس أبو مازن للمخيم بعد انتهاء المعركة؟ وإلى أين وصلتم في إعمار المخيم؟

أولاً، خيار الناس وانحيازهم إلى المقاومة واضح من خلال الحاضنة الشعبية التي لم تقف مكتوفة الأيدي خلال المعركة. ثانياً، افتقادنا أبو جندل وزكريا وزياد، والذي لمّحتم به في سؤالكم إلى المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية، فقد أعلنتُه منذ اللحظات الأولى للمعركة، فحين كانت إحدى القنوات في بثّ مباشر صادفَ ذلك خروجَنا أنا والأخ عطا أبو ارميلة سالمَين من صاروخ موجَّه من طائرة استطلاع. وآنذاك، وجهت نداء إلى أبناء شعبنا، وإلى الإخوة في الأجهزة الأمنية، وأبناء الحركة الوطنية، بتلبية النداء ونيل شرف المشاركة في المعركة. وعلى أي حال، التاريخ يسجّل مَن اختار المقاومة ومَن اختار غيرها. ثالثاً، لا مقارنة بين تكريم الشهداء في مواكب التشييع وأي موكب آخر، فهم الأكرم منا جميعاً، ولا أحد يصل إلى قامة الشهداء. وزيارة الأخ أبو مازن لمدينة جنين ومخيمها، بعد غياب طويل، يجب أن نحسن قراءتها. فالزيارة، من ناحية، تفيد بأن خيار المقاومة المسلحة، لا المقاومة السلمية، هو الذي جاء بالرئيس إلى جنين، كما جاء وحمله الأخ زكريا زبيدي على كتفيه قبل نحو عشرين عاماً. والزيارة، من ناحية أُخرى، هي ورقة رابحة في القول لـ "الإسرائيليين"، الذين فشلوا في القضاء على مقاومة المخيم، وللأميركيين الذين يغطون جرائم "الإسرائيليين"، أنا هنا، وأستطيع التعامل مع أبناء شعبي. رابعاً، لست في "لجنة الطوارىء" لإعادة إعمار المخيم الذي دمرته الآلة الصهيونية، لكنني أتابع ذلك عن كثب، وآمل بأن ننتهي منه قريباً. غير أنه لا بد من تضافر جهود المؤسسات الدولية والسلطة ورأس المال الوطني لإعادة الإعمار، ليس على مستوى البُنى التحتية المادية فحسب، بل على مستوى جبر خواطر الناس أيضاً، وخصوصاً أهالي الشهداء والأسرى ومستوري الحال. فمن غير المعقول ترك والد الشهيد البطل جميل العموري يضع صورة ابنه الشهيد على عربة يعمل عليها في الحسبة! هذا لا يجوز مطلقاً. شهداؤنا وأسرانا هم أكبر رأس مال وطني.

ما هي رسالتك إلى المقاومين، وإلى "فتح"، والفصائل الفلسطينية، والسلطة، والعدو؟

رسالتي الأخيرة هي رسالتي الأولى. نحن لاجئون ومقاتلو حرية. شرّدَنا العدو الصهيوني من بلدنا، وحشرَنا في مخيمات اللجوء، ولاحقَنا بالقتل والأَسر والتدمير، وليس لدينا خيار إلّا المقاومة. هذه رسالتي إلى إخوتي المقاتلين في فلسطين وفي كل مكان. ونحن كفلسطينيين شركاء في مشروعنا الوطني الهادف إلى التحرير والحرية وتقرير المصير وتحقيق العودة وإقامة الدولة وعاصمتها القدس. إن ما يجمع بيننا هو هدف التحرير، والتحرير وسيلته واضحة، وهي المقاومة. ورسالتي إلى الإخوة في فصائل الحركة الوطنية والإسلامية، سلطة ومعارضة، أن الانقسام يجب أن ينتهي فوراً، لأن "الوحدة هي طريق الانتصار"، وعلينا مواجهة العدو فوراً لأن كل دقيقة من دون وحدة هي فرصة للعدو لإكمال مشروع إبادتنا. أمّا رسالتي إلى العدو، فهي أننا باقون هنا، ولن يُخرجنا من مخيمنا إلّا عودتنا إلى بلدنا. جرّبنا الخروج من زرعين إلى جنين، وهذا موعد العودة قد اقترب، بطيف أخي نجيب وجسد ابني نجيب، سنعود... من جنين إلى زرعين.