إنتاج المكان كممارسة عنصرية
نبذة مختصرة: 

يعمل التخطيط الحضري الإسرائيلي على قمع المجتمع الفلسطيني من خلال إعادة إنتاج المكان، والسيطرة على الجسد الفلسطيني ضمن هذا الحيّز، وممارسة التمييز والعنصرية ضده. ولبرهنة ذلك، تعتمد مقاربة هذه المقالة على أدوات الجغرافيا النقدية والتخطيط الحضري لطرح مقولاتها التحليلية.

النص الكامل: 

تنطلق مقاربة هذه المقالة من موقعين: الأول، هو اللعبة اللغوية إزاء الفرق بين التمييز (discrimination) والعنصرية (racism)، في الحالة الفلسطينية، وتحديداً ضمن سياسات إنتاج المكان، كالتخطيط الحضري؛ الثاني هو وجود الجسد الفلسطيني في المكان والحيّز الإسرائيليين، بالمعنيين المادي والرمزي، وبين السطح والعمق، والحضور والغياب، وهي ثنائيات، مثلما سنوضح لاحقاً، حداثية، لها دور قمعي. وبالتأمل قليلاً في المصطلحين أعلاه، ندرك أنهما ليسا مترادفين. وللوصول إلى فهم مكاني ما، انطلاقاً من موقع المصطلحين الوصفيين، تستعين هذه المقاربة بأدوات الجغرافيا النقدية والتخطيط الحضري لطرح مقولاتها التحليلية.

بما أن المدينة هي "تجمُّع للغرباء"،[1] فإن التخطيط الحضري هو الوسيط بين المكان والقوة، لضمان علاقة منضبطة ومسيطر عليها من الغرابة – الاستغراب – الغربة، وهي ثلاثية غير ترادفية، يمكننا أن نضيفها إلى الغربة التي عناها سينيت (Sennett)، مع تأكيد أن المعنى يضيع في الترجمة. فسينيت يشير إلى الغرباء (strangers)، بينما بالبحث في أصل معنى غرباء نجد فيه تقاطعات مع المعاني الثلاثة السابقة، لتصبح المدينة وتخطيطها هما مساحات للغربة والاستغراب والغرابة وممارستها. بكلمات أُخرى، التخطيط الحضري هو المجال الذي تترجَم فيه مبادىء النظام إلى خطط وإجراءات ومؤسسات، لضبط علاقات التعريف (أولى عتبات التغلب على الغربة والاستغراب والغرابة) للذات والآخر من خلال المكان. وبالتالي فإن التخطيط الحضري خطاب ومخيال مادي / مكاني / مُجَسْدَن يعكس محمولات عقل السلطة ومكوناتها كلها. ويتضمن التخطيط الحضري في شكله المجرد، باعتباره ممارسة مكانية، أداء رمزياً إلى جانب تعيُّنه المادي والجسدي والحيزي، وصولاً - إشارياً على الأقل - إلى المقولات الكبرى.

ولولوج الذهنية الإسرائيلية من بوابة النقد المكاني والتخطيط الحضري، لفهم السياسات المكانية بما هي حادثة في نطاق "وطن قومي لليهود"، علينا أن نعود ولو قليلاً إلى إحدى أكثر المناقشات في الفكر الإنساني والاجتماعي حيوية، وهي القومية، أي الظاهرة التي بيّنت قدرة هائلة على تشكيل وإعادة تشكيل التاريخ البشري والاجتماعي خلال القرنين الماضيين.[2] فالقومية بقدر مركزيتها في مخيال الأمة والدولة، إلّا إنها كفكرة، شابتها بعض النواقص. وقد فضلت الزمان بما هو وجود تاريخي على المكان بما هو وجود جغرافي، فكانت نظريات القومية تتأسس على مفهوم البدايات التاريخية للأمة، بالدرجة الأولى، ثم تالياً تمنح الاعتبار إلى الإقليم بما يحقق حيّزية الأمة ومجالها، أي لكونه أمراً لاحقاً وليس مؤسساً. وتتباين أسباب ذلك، لكن الشواهد حاضرة، فحمّى الأرشفة والبحث في سياسات الذاكرة، التي تجتاح العالم، توازت مع أزمات مفاهيمية وبنيوية ألمّت بمفهوم الدولة الحديثة، وتشير إلى أولوية التاريخي على الجغرافي، من دون أن يتمكن الأول من إزاحة الثاني.

ولأن الأمر ليس كذلك فعلاً، فإن الدولة تتشكل دائماً من خلال عمليات تاريخية وجغرافية متنازع عليها، ونموذجنا هنا هو المبالغة في استغلال الاستقلال الذاتي لدولة ما لتمرير سياسات مكانية وإقليمية وحيّزية معينة، للاستيلاء على موارد ترابية وسياسية ومادية لمصلحة السلطة المهيمنة. وتظهر هذه التراتبية بوضوح في النقص النسبي للتحليلات عن العلاقة بين المكان والقومية، الأمر الذي أدى إلى ميل واضح في مقاربات العلوم الاجتماعية بشأن القومية، وإلى تسطيح الفضاء البشري للدولة، وتجاهل المجالات الجغرافية الدينامية للإثنيات والمجموعات والطبقات والنوع الاجتماعي والحدود والتنمية، والتي تؤدي في مجملها أدواراً أساسية في تشكيل المجتمع السياسي.[3]

وعليه، فإننا نرى أن التحليل الأصوب للحركات القومية يجب أن يعتمد كذلك على تفهّم العلاقة الدينامية بين المكان والمخيال والجسد، وهو ما يمنح الفضاء صفة "الفضاء النشط". والفضاء النشط ليس مجرد مساحة حاوية للتغيرات والأدوار الاجتماعية والسياسية، فالصلات والعلاقات والأدوار المتبادلة بين المكان والتنمية والهويات الجماعية وعلاقات الجماعات، وحتى المساحات الفردية، هي كلها علاقات نشطة،[4] أي أنها تنتج ديناميات سياسية متباينة، في الوقت نفسه الذي وُضعت هي في الأساس لتفعيل وأداء أدوار سياسية محددة. ولذا، فإن مادية النضال من أجل المكان هي في حد ذاتها أداة تشكيل المجال الاجتماعي والإثني والقومي العام.[5]

لا يمكن فصل الزمن القومي عن البناء المكاني / الجغرافي الملموس للقومية، وبالذات في الدول التي تقوم على الإثنيات والآلة الكولونيالية، مثلما هي الحال مع إسرائيل. فالعلاقة بين الجغرافيا والقوة السياسية هنا عضوية، وتمثل دينامية عمل النظام ككل، وتمتد من الجسد بحيّزه المادي الجسداني العضوي، مروراً بحركيته في الحيّز (مجال الحركة)، وصولاً إلى رمزيته المكانية، سواءً الخدمية (بُنية تحتية)، أو الرمزية بمعنى المتخيل (الفضاءات الرمزية) والخطابية.

هنا، يبدأ الخلل بين الأمة والدولة في السياسات المكانية، فالدولة بما هي بُنية ديمقراطية علمانية، لا يمكنها تداول وقياس حدود الأمة بمعناها الأعم، وبالذات في سياق الإثنيات. فـ "الأمة اليهودية" لابد لها من أن تتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة، حتى لو مرت تلك التصورات من خطاب القومية اليهودية والدولة اليهودية، إذ يظل على الأرض مبنى المؤسسة الدولانية مبنى إثنياً، أو إثنوقراطياً.[6]

ما يميز تلك الأنظمة الإثنوقراطية[7] (الأنظمة التي تقوم على مركزة جماعة إثنية بعينها، وتقوية موقعها) هو قدرتها على الحفاظ على هيمنة جماعة ما بعينها، من خلال استبعاد الجماعات الأُخرى وتهميشها، بدرجات متباينة، وذلك عبر سياسات بناء الحيّز الاجتماعي وإنتاجه لتلك الجماعات. لذا، يصبح في كثير من الأحيان وسمها بالدونية الثقافية جزءاً من بنية إنتاج مكانها باعتبارها خطراً تخريبياً على بنية "الوطن". ويحدث الأمر نفسه في كثير من الأنظمة الإثنوقراطية، مثلما هي الحال مع سيرلانكا وإستونيا وأستراليا حيث تتم أدلجة الفضاء والحركة فيه والحياة من خلاله. يقول هنري لوفيفر:

"لا يوجد المكان في حالة طبيعية أو بدئية نقية، ومن هنا تأتي صعوبات التفكير (الفلسفي) في موضوع البدايات. إن فكرة المكان الذي يكون فارغاً في البداية، ثم يُملأ بحياة اجتماعية، ويُعدّل بناءً عليها، تعتمد بطبيعة الحال، على هذا 'النقاء' الأولي البدئي المفترض، الذي يُعرّف على أنه 'طبيعة' واعتباراً لنقطة الصفر للواقع البشري. الفضاء الفارغ بمعنى الفراغ العقلي والاجتماعي الذي يسهّل التنشئة الاجتماعية لعالم غير اجتماعي بعد، هو في الواقع لا يعدو كونه مجرد تمثيل للمكان؛ فالمكان يُنظر إليه باعتباره إمكاناً للتحوّل إلى 'تجربة معيشية' من قِبل 'موضوع' اجتماعي، وتحكمه محددات قد تكون عملياتية في طابعها الأساسي (مثل العمل واللعب) أو بيولوجية اجتماعية (الشباب والأطفال والنساء والأشخاص النشطين)."[8] وعليه يتضح تعاضد الخطابي والثقافي كممارسات سياسية أيديولوجية لإنتاج المكان وتمثيله من خلال طمس بعض عناصره، والتحكم في أشكال وجودها.

ولإيضاح تلك الممارسة البنيوية من خلال العنصرية الثقافية، نشير إلى قانون ما يُعرف بـ "لجان القبول" الإسرائيلية، والتي تتكون كل لجنة منها من 5 إلى 6 أفراد، ويجب تكوينها في المشاريع السكنية التي يفوق عدد وحداتها 400 وحدة سكنية، ومهمتها أن تدرس الملاءمة الثقافية لمَن يريد أن يسكن في نطاق هذا المشروع أو تلك المنطقة السكنية. وقد بات ما يزيد على الألف منطقة في فلسطين تمنع الفلسطينيين من السكن فيها، وذلك لعدم ملاءمتهم الثقافية لهذا الحيز العمراني.

تبدو المظلة، أو الصفة، الثقافوية لقانون لجان القبول، هنا معبراً لفهم المفارقة اللغوية بين التمييز (discrimination) والعنصرية (racism). فالوسم الثقافي هنا، هو ممارسة عنصرية وليس فقط ممارسة تمييزية، وهي لا تميز بالمعنى الإجرائي الخدمي فقط، بل تسم ثقافة قائمة في الزمان والمكان، بأنها دونية أيضاً، أو مثلما عبّر مسؤول في الشرطة الإسرائيلية مؤخراً عن ظاهرة تفشي الجريمة وانتشار السلاح في المجتمع العربي في الداخل المحتل بأنها "أزمة ثقافة".

هنا، يدفعنا التساؤل عن وجودنا المكاني والمديني كفلسطينيين، إلى البحث في موقعنا كجماعة سياسية لها حقوق قانونية، وبُنية رمزية ثقافية، ووجود في الحيز والتخطيط، وهي العناصر الثلاثة المتعاضدة التي تستخدمها البُنية الاستعمارية الحضارية لطمس الحيز والمجال العربي  وتدميره على المستوى الرمزي والمادي والخطابي. 

العمى والإبصار في مكانية العنصرية الإسرائيلية

منذ أعوام خسر ما يقارب ثلث سكان منطقة "نوف هاجليل / نتسيريت عيليت" (الناصرة العليا)، في مدينة الناصرة، من الفلسطينيين العرب، مرافعتهم القضائية للمطالبة بمدرسة عربية في منطقتهم. كما أننا لا نجد في مدن رئيسية مثل أم الفحم مستشفى، ولن نرى سكة القطار تصل إلى إحدى القرى والبلدات العربية، وذلك مع إقرارنا بأن الهيمنة والسيطرة هما جانبان رئيسيان لأي مشروع تنمية وتطوير حضري.

ثمة تعاضد أساسي في بُنية النظام الاستعماري الاحتلالي الإسرائيلي وسياسات التنمية والتحديث وخططهما، يقف على الطرف المقابل من مقولات الثقافة كمبرر لدونية العرب الفلسطينيين فيما يتعلق بالسياسات المكانية والحيّزية والحضرية والاجتماعية. فاللحظة التاريخية التي تأسس فيها الدعم المتبادل بين الدين والإثنية لإنشاء وطن قومي لليهود، كانت لحظة ثقافية حدثت في قلب الحداثة الأوروبية، لكنها اختلفت معها بشأن الدين وموقعه من القومية، فكان لزاماً إنتاج متخيَّل بشأن الآخر، يتضمن محمولات ثقافية، وينتج له موقعه الطرفي الخاضع، وذلك لضبطه هو وثقافته الدونية.

بتوظيف مقاربات أنطونيو غرامشي[9] بشأن الهيمنة والسيطرة، وموضعتها في سياق ما بعد استعماري، نجد أن العلاقات التي تربط منظومات السيطرة المادية المكانية والسياسية ترتبط كذلك بقضايا الثقافة والطبقة والهوية[10] وأهمية تلك المساحات لتأسيس سيطرة لمنظومة معينة من المعاني، وصولاً إلى درجة التسليم بها من دون الحاجة إلى مكاشفتها ونقدها. ولذا، يصبح التبرير الثقافي الذي يستلزم لجان قبول، أمراً مفهوماً.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ ثمة متلازمة مهمة في تفسير العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر من خلال التخطيط الحضري. فصحيح أن الحجة الثقافية هي المبرر لدونية الجماعة العربية داخل الدولة، من وجهة نظر خطاب الدولة، إلّا إن ثمة مشهدين متوازيين حادثين على الدوام، هما: العمى والإبصار.

في سنة 2014، وخلال عملية "الجرف الصامد" العسكرية التي نفذتها إسرائيل على قطاع غزة، سقطت بعض الصواريخ الغزيّة على مناطق وقرى بدوية (جرت الحادثة بتاريخ 18 تموز / يوليو 2014، في اليوم 11 من الاعتداءات). وحين وصل وزير الأمن الداخلي، في حينه، يتسحاق أهارونوفيتش، إلى الموقع صرّح بأن القبة "الحديدة" لن تحمي الأماكن غير المعترف بها. وسرعان ما رفعت "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" التماساً بالنيابة عن أبناء التجمعات البدوية أمام المحكمة العليا، مطالبة بالحماية ذاتها التي تحظى بها المستعمرات. لكن المحكمة رفضت الالتماس، وتمسكت بموقف الحكومة القائل إن غياب الحماية ليس نتاجاً لموقف تمييزي (وليس عنصرياً) في حقّ البدو كمواطنين، وإنما نتيجة لشكل تجمعاتهم السكنية غير المرخصة، وترحالهم الدائم. بكلمات أُخرى، استدعت المحكمة هنا التصور الحداثي بشأن البداوة (nomadisim) لتمرر تصورات وقرارات عنصرية بشأن جماعة ما من مواطنيها، لهم تصور وتحديد ثقافي معين. وفيما يلي، نطرح هذا الشكل التحليلي لفهم السياسات المكانية المادية في البنية الكولونيالية الحضرية.

 

 

كلام المرئية: نموذج تحليلي للسياسات الكولونيالية المكانية

 

في هذه المرئية نجد محورين: المحور الرأسي، وفيه ثنائية السطح والعمق، حيث البُنية التحتية في العمق تؤدي إلى وجود الجماعات على السطح، فمثلاً غياب البُنية التحتية المتعلقة بالمجتمعات البدوية في النقب، أو المدارس العربية في "نيتسيريت عيليت"، هو عدم اعتراف بوجود هذه الجماعة على السطح. وهنا تبدأ سياسات التمييز والعنصرية، إذ نجد أن مفهوم العمق يقوم على تأسيس السطح بشكل عنصري وتمييزي لمصلحة الجماعة الإثنية المهيمنة، بل إنتاج سرديات تاريخية معينة بغرض الهيمنة، وأبرز تلك النماذج هو الحفريات تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة.[11]

أمّا المحور الأفقي، فهو محور الحضور والغياب، وهو اعتراف الدولة في سياسات التخطيط وإنتاج المكان بحضور الفرد و / أو الجماعة من عدمه. فمثلاً تؤدي دولة الاحتلال دوراً في انتشار الجريمة والسلاح في المجتمع العربي، من خلال ضبط حضورها وغيابها التنفيذي في هذه المسألة، وبالتالي، فإنها حاضرة كدولة، لكنها غائبة كتنفيذ قانوني. وفي المقابل يُنتج ذلك صورة حاضرة للمجتمع العربي باعتباره مجتمعاً تنتشر فيه الجريمة لأسباب ثقافية.

في أقسام الشكل التحليلي (المرئية) الأربعة نجد مواقع متنوعة للبنية المكانية. فالمدينة الإسرائيلية أو تصورها الحداثي، مثل "تل أبيب"، ومساحاتها المعبرنة والمؤسرلة، إنما تحضر في الربع الأول على السطح وبحضور المواطن الإسرائيلي اليهودي من الجماعة الإثنية المهيمنة كذات وجماعة. لكن هذه المدينة، وبتتبّع تاريخ "الاقتلاع الجغرافي" للوجود العربي في حيز يافا - "تل أبيب"، مثلما يصفه مارك لافين (Mark LeVine[12] فإن هذا الاقتلاع الجغرافي، وإنتاج الحيز المديني لـ "تل أبيب" حدثا من خلال إزاحة بدأت في الربع الرابع من الشكل أعلاه للحيّز والوجود والجسد الفلسطيني بحدوده الجماعية والفردية / المادية والمتخيلة، أي إعادة تشكيل السطح / الجغرافيا من خلال التغييب، وصولاً إلى الربع الأول، حيث شملت سياسات تنمية وتحديث وبنية تحتية في الربعين الأول والثاني لخدمة الوجود الصهيوني، وإيراده لمساحة الرؤية والوجود والحضور، بينما تم تغييب رديفها في الحيّز العربي، في الربع الثالث.

إن الحركة (mobility) باعتبارها ممارسة اجتماعية تُنتج المكان والحيّز والمدينة، وليست فقط تحركية / إزاحية (movement)، ساهمت في تشكيل الفضاء المديني الاستعماري. ويذكّرنا إسماعيل ناشف، هنا، بوجود خطوط تشابك أساسية "بين المعلن العضوي والمخفي المهندس تاريخياً. [....] فالمجتمع الإسرائيلي، المتخيَّل، والمعيش على السواء، يتميز بالأساس بكونه بُني بعد تأسيس مؤسسات نظام سياسي."[13] وعليه، فإن السياسات الحضرية حضرت في المنظومة الكولونيالية المكانية لتحقيق أهداف مثل: تثبيت الجماعة السكانية الإثنية، وتسريح عمليات تحديث وبلورة تلك الجماعة لتكون مجتمعاً قابلاً للحياة والتطور، وتحقيق سيطرة مكانية لاستجلاب أعداد متزايدة من اليهود، وهو ما يمثّل موضع الفراغ،[14] باعتباره جزءاً أساسياً من سياسات الهيمنة المكانية والحيزية.

المدينة لها علاقة عضوية استعارية بالحداثة ومفهوم الدولة الحديثة، ولعل الحالة الإسرائيلية، بالنظر إلى ما أشرنا إليه أعلاه، تشكل نموذجاً كثيفاً لهذه العلاقة، لكنه ليس عضوياً. فالوحدة الاجتماعية التي بدأت بتكوين علاقة مع الحيّز المديني، تغيرت بعد تحوّل النظام الصهيوني إلى دولة حديثة تقوم على تصنيف الذات والآخر ضمن أجهزتها الخطابية والأدائية والإجرائية كافة. ويشير ناشف إلى الأحياء التي بُنيت بعد هذا التحول باعتبارها نماذج أساسية تعكس المنظومة التصنيفية للذات والآخر بشقّيها القِيَمي والمؤسساتي، بشكل يتماهى مع الدولة.[15]

كما تحضر العلاقة بين اللغة والمدينة في الحداثة، كونهما مباني ذات مضامين سلطوية مهيمنة، وخصوصاً في النموذج الاستعماري. وفي هذا السياق، يقدم عبد الرحيم الشيخ مخططاً مكانياً عمرانياً مدينياً لمدينة تل أبيب، مستخدماً أدوات لغوية تربط بين المركز الاستعماري والهامش الفلسطيني والسجن.[16] واللغة هنا أداة الاستتباع والهيمنة، لا بمعنى أن الأسرلة هي التحدث باللغة، وإنما الموقف من منظومتها الأيديولوجية في اليومي المتدفق[17] في المكان المديني، إذ لو استعرنا المحاور الخاصة بالمرئية لوجدناها تنطبق مكانياً / حضرياً / لغوياً، أيضاً.[18] 

الكولونيالية الحضرية

يصف فرانز فانون (Frantz Fanon) مركزية البُنية المكانية للاحتلال الاستعماري بتعابير حيوية،[19] ويرى أن الاستعمار الاحتلالي يستلزم أولاً وغالباً تقسيم المكان إلى أجزاء منعزلة ومراقبة. وبالتالي، يستلزم الأمر قبضة حديدية مهيمنة على المكان الخاص بالجماعة الإثنية، والتي تعمل على ترسيم حدودها وتحديد نقاط النفاذية إلى مجالها، والسيطرة على زمن تلك النفاذية، باستخدام القوة المجردة والرمزية والتكرارية. بمعنى آخر، إن الحركة من القرية أو البلدة العربية هي ممارسة حيّزية يجب أن تقع ضمن سيطرة الاحتلال على الانتقال وسرعته ومعناه، وخصوصاً فيما يتعلق بأهمية الحركة في إنتاج المكان وتقعيده اجتماعياً.[20]

لقد أنتجت ثنائية العمى والإبصار في الحيّز الدولاني الحضري الإسرائيلي، بما هو حيّز كولونيالي، أشكالاً من الكولونيالية الحضرية التي تضمنت أفضليات لجماعة إثنية محددة في مقابل دونية وعنصرية وتمييز ضد جماعات أُخرى مهمشة. وفي هذا السياق، يطرح أستاذ الجغرافيا والتخطيط الحضري الإسرائيلي أورن يفتاحئيل تقسيماً بشأن الجماعات الإثنية في المنظومة الحضرية الكولونيالية الإسرائيلية، والتي يقع عليها نتاج السياسات الحضرية الإثنية،[21] وهو كالتالي:

 

 

جدول الجماعات الإثنية في إسرائيل وموقعها من حيث أفضلية الجماعة الإثنية المهيمنة (تصور أورن يفتاحئيل)

الفئات العليا

الفئات الوسطى

الفئات الدنيا

التيار الرئيسي:

 الأشكيناز من الطبقة الإثنية والوسطى العليا.

طبقات إثنية طرفية (معظمها من المزراحيين والروس)

يهود أرثوذكس:

مستوطنون في مناطق محتلة

مجموعات أرثوذكسية متشددة

يهود غير حقيقيين [أصلاً أتباع ديانة أُخرى]: وهم مهاجرون من الاتحاد السوفياتي السابق، حصلوا على حقّ الإقامة وفق قانون العودة، وغير معترف بهم كيهود من طرف المؤسسة الدينية الإسرائيلية.

دروز

فلسطينيون يحملون المواطنة الإسرائيلية

بدو النقب والجليل

فلسطينيو القدس الشرقية

فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة

العمالة المهاجرة

 

 

لقد أنتجت هذه السياسات المكانية شبكة علاقات معقدة من السياسات المكانية والحيّزية العنصرية والتمييزية على حد سواء، مارست التمييز والعنصرية بين مختلف الفئات انطلاقاً من اختلاف تلك الجماعة المستهدفة أكانت يهودية أم عربية. وتسعى هذه السياسات الحضرية إلى السيطرة على الأرض من خلال التشكيل الديموغرافي والسيطرة والوجود الحيّزي والمجالي، مستخدمة إحدى أهم أدواتها لتحقيق ذلك الهدف، وهو الأبارتهايد، لكن يظل فهم ذلك الجهاز قاصراً إذا ما اقتصر في مقولاته على التمييز، وحده، أو على العنصرية وحدها. إن اقتصار استدعاء نماذج ومقولات صمّاء لتفسير السياسات المكانية ومقولاتها، كفكرة القول إن النظام الإسرائيلي هو نظام أبارتهايد فقط، إنما يتعامى عن مفارقة بُنيوية في جسد الدولة الإسرائيلية وهو الفرق بين التمييز والعنصرية. فالفلسطينيون لا يقعون في مواجهة سياسات تمييزية في الدولة الإسرائيلية فقط، بل في مواجهة سياسات عنصرية تتعلق بمقولات الآخر أمام الذات القومية اليهودية الحداثية كذلك، بينما السياسات التمييزية يقع مجالها في جزء منه في مواجهة مع اليهودي. وهنا، تغدو إشكالية الطرح المتعلق بالأبارتهايد باعتباره الإجابة الكاملة لأنه يتغاضى عن جينالوجيا تكوّن الدولة كمنظومة استعمارية، وكذلك جينالوجيا تكوّن الجماعة العربية الواقعة داخل تلك الدولة وتحت سلطة قوانينها وتخطيطها. فالمقولات المقيدة بالأبارتهايد لا تغطي كامل مجال عمل طبيعة الاستعمار، ولا تكوُّنه التاريخي من حيث كونه مشروعاً جماعياً ممنهجاً بغرض السيطرة على الأرض والسكان والموارد والقوة وتوسيعها.[22] وبالتالي، فإن الاستعمار بما هو إزالة وإحلال وهيمنة هو الذي يتحكم في جميع الجوانب الأُخرى للحياة اليومية كالتحديث والاقتلاع والتعمير والتنمية والبناء، وغير ذلك من أوجه عملية التخطيط. 

الخاتمة: عَوْد على بدء، والسؤال هو: ما العمل؟

نظراً إلى العنصرية المكانية والحضرية، ودورها في جعل الفضاء، بشكل دائم، منطقة حدّية وتفاوضية وأدائية تنبني من خلال مراكمات عنيفة، على المستوى المادي والرمزي معاً، فإن سياسات الاحترام (respectability politics)[23] وهي المصطلح الذي لم يخضع بعد لعملية ترجمة موضوعية مفككة للكولونيالية، لا تصبح هي الإجابة على تلك السياسات التمييزية والعنصرية، ولو على المستوى اليومي المعيش في المدينة والمكان، ضمن ثنائية العام والخاص، في مجتمع يميني متطرف وكولونيالي، وهو ما نشاهده من إعدامات يومية للفلسطينيين على الشبهة من دون تحرٍّ أو دليل. لكن تظل الآلة الاستعمارية الإسرائيلية تلعب على المزاوجة بين العنصرية والتمييز من ناحية السياسات الحيّزية والمدينية والتخطيط الحضري، الأمر الذي يجعل سياسات الاحترام غير ذات جدوى، حتى على المدى القصير. وهنا لا يتبقّى أمام الفلسطينيين والفلسطينيات سوى العمل على الاشتباك أكثر في العمل المجتمعي في البلدات والقرى والمدن العربية، وتنظيم الوجود المجتمعي في هذه المساحات، وذلك لخلق ومراكمة فعلية على مستوى الوجود المادي، والرمزي والتنظيمي في الفضاء العام، كالروابط الشبابية والمشاريع المجتمعية. وليس هذا فحسب، بل نرى أيضاً أن وجود المختصين من مجتمعنا العربي (في فلسطين 48) في المجالس البلدية أمراً مهماً لإعلاء الصوت الفلسطيني في المدن، سواء لحماية المباني التاريخية، أو لشبك المجتمع العربي بدوائر صناعة القرار الإسرائيلي، بشكل يكسر ثنائية السطح والعمق، والحضور والغياب.

 

المصادر:

[1] Richard Sennett, The Fall of Public Man (London: Penguin Book, 1978), p. 116.

[2] انظر:

Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism (London: Verso, 1991); Ernest Gellner, Nations and Nationalism (Oxford: Basil Blackwell, 1983); Eric Hobsbawm, Nations and Nationalism since 1780 (Cambridge: Cambridge University Press, 1990); Goplal Singh (ed.), Punjab Past, Present and Future (Delhi: Ajanta, 1994).

 [3]انظر:

Henri Lefebvre, The Production of Space, translated by Donald Nicholson-Smith (Oxford: Blackwell, 1991).

[4] انظر:

Peter Jackson, Construction of Race, Place and Nation (Minneapolis: University of Mennesota, 1993).

 [5]انظر:

Michael Keith & Steve Pile, (eds.), Place and the Politics of Identity (London: Routledge, 1993).

 [6]انظر:

Oren Yiftachel, Ethnocracy: Land and Identity Politics in Israel / Palestine (Pennsylvania: University of Pennsylvania Press, 2006).

[7] يشير مصطلح الإثنوقراطية إلى نوع من النظام الذي يحفز ويسهل ويعزز المبنى العرقي للمنظومة السياسية، أي التوسع والسيطرة. وهو ما يظهر على السطح في المناطق المتنازع عليها، إذ تستطيع مجموعة عرقية قومية واحدة الاستيلاء على جهاز الدولة وتعبئة موارده القانونية والاقتصادية والعسكرية لتعزيز المكونات الإقليمية والاقتصادية والثقافية والسياسية الخاصة بتلك العرقية، وبالتالي يصبح الصراع على عملية التوسع العرقي هو المحور المركزي الذي يتطور عليه بناء العلاقات الاجتماعية والسياسية. ويحمل مصطلح "الإثنوقراطية" معنى إضافياً لا يشير فقط إلى هيمنة مجموعة عرقية معينة، بل أيضاً إلى بروز العرق في جميع جوانب الحياة المجتمعية، بداية من اليومي المعيش، وصولاً إلى الأفكار الأساسية للمنظومة السياسية. انظر: Ibid.

[8] Henri Lefebvre, The Production of Space, translated by Donald Nicholson-Smith (Oxford: Blackwell, 1991), p. 190.

[9] Antonio Gramsci, Prison Notebooks, vol. II, edited and translated by Joseph A. Buttigieg (New York: Columbia University Press, 2001), p. 335.

[10] انظر:

Ernesto Laclau (ed.), The Making of Political Identities (London: Verso, 1994).

[11] يمكن من خلال هذا النموذج فهم خروج العمق عن هيمنة السطح، مثلما حدث مع هروب الأسرى الستة في 6 أيلول / سبتمبر 2021، على مستوى الحدث (event)، والعملية (process)، والاستعارة (metaphor). ويعمل المؤلف على بحث مطول بشأن هروب الأسرى الستة، وعملية إنتاج جغرافيا مضادة للجغرافيا الكولونيالية، وسيُنشر البحث في سنة 2024 بالإنجليزية.

[12] Mark LeVine, Overthrowing Geography: Jaffa, Tel Aviv, and the Struggle for Palestine, 1880–1948 (Berkeley: University of California Press, 2005).

[13] إسماعيل ناشف، "معمارية الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة" (بيروت: دار الفارابي، 2012)، ص 141.

[14] انظر: عبد الله بياري، "عن الخرائب والفراغ: محاولة أُخرى لفهم الحالة الكولونيالية في فلسطين"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 134 (ربيع 2023)، ص 145 - 158.

[15] ناشف، مصدر سبق ذكره، ص 147.

[16] عبد الرحيم الشيخ، "مورفولوجيا فم الذئب: وليد دَقَّة (1961 – 2021)"، "مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية"، المجلد 10، العدد 39 (شتاء 2022)، ص 173 - 210.

[17] بشأن معيارية الحي في "تل أبيب" وبناه الاجتماعية غير المنسجمة، وموقع العربي الفلسطيني على هامشه، انظر: ناشف، مصدر سبق ذكره، ص 148 - 150؛ إسماعيل ناشف، "عمل الحدّ: قراءة مختلفة للصهيونية"، "تبيُّن"، المجلد 9، العدد 34 (خريف 2020)، ص 46 – 79. ولقراءة معمَّقة عن موقع اليهودي العربي في المنظومة الكولونيالية – للصهيونية، انظر: يهودا شنهاف، "اليهود العرب: قراءة ما بعد كولونيالية في القومية والديانة والإثنية"، ترجمه عن الإنجليزية ياسين السيد (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية/مدار؛ عمّان: الأهلية، ط 1، 2016).

[18] انظر:

Alastair Pennycook & Emi Otsuji, Metrolingualism: Language in the City (London: Routledge, 2015).

[19] Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, translated by Constance Farrington (London: Penguin Books,2001).

[20] انظر:

Ginette Verstraete & Tim Cresswel, Mobilizing Place, Placing Mobility: The Politics of Representation in a Globalized World (Leiden: Brill Publishers, 2016).

[21] Yiftachel, op. cit., p. 127.

[22] انظر:

Stefan Kipfer, “Fanon and Space: Colonization, Urbanization, and Liberation from the Colonial to the Global City”, Environment and Planning D: Society and Space, vol 25, issue 4 (August 2007), pp. 701–726.

[23] سياسة الاحترام، وهي مختلفة عن سياسة الاعتراف، تشير إلى سعي الشخصيات المهمشة والطرفية لاكتساب الاحترام والاعتراف والصدقية الاجتماعية، من خلال تنظيم المعتقدات والسلوكيات "غير المرغوب فيها" في ثقافتهم ومنظومة المعاني الخاصة بهم، بما يتلاءم مع ثقافة ومنظومة المعاني المركزية المهيمنة اجتماعياً، من خلال تصوير قِيَمهم الاجتماعية الشخصية على أنها مستمرة ومتوافقة مع القيم السائدة، من دون تحديها.

ويرى بعض الباحثين مثل أليس إي مارويك وميكايلا بيتكان، أن سياسة الاحترام تتكون من ثلاثة جوانب رئيسية: الأول هو تعزيز التسلسل الهرمي المتناقض بين الفرد المحترم والآخر الموسوم بالخزي؛ الثاني هو تشجيع الناس على تحدي الصور النمطية المنسوبة إلى جوانب متنوعة من هويتهم في محاولات لتقديم الذات على أنها محترمة ومعترف بها؛ وأخيراً، تكييف سلوك المرء بحيث يتوافق بشكل أفضل مع المعايير الثقافية للطبقة الوسطى البيضاء، وبالتالي تعزيز الوضع الراهن. لقد استُخدم مصطلح "سياسة الاحترام" لأول مرة في سياق النساء السود وجهودهن لإبعاد أنفسهن عن الجوانب النمطية التي تَسِم مجتمعاتهن بالخزي، في حين أن "سياسة الاحترام" كانت وسيلة مهمة للمواطنين السود في الولايات المتحدة للاندماج في حياتهم الحرة بعد التحرر. وتربط بعض الدراسات البحثية جزءاً من العبء المرتفع لمشكلات الصحة العقلية الخاصة بالأميركيين السود وأثرها في سلوكيات الاستيعاب.

السيرة الشخصية: 

عبد الله بياري: باحث وكاتب وأكاديمي فلسطيني.