التطبيع وتكريس الاستبداد العربي
نبذة مختصرة: 

تتناول هذه المقالة تداعيات تطبيع الأنظمة العربية مع "إسرائيل" سواء السابقة أو التالية لـ "اتفاقيات أبراهام" من جهة، وتزايد نزعات الاستبداد والعسكرة من جهة أُخرى، في ظل ما تتعرض له فلسطين من تغوّل استيطاني، وما يتعرض له الفلسطينيون من قتل يومي، ضمن مشهدية النكبة الفلسطينية المستمرة.

النص الكامل: 

تتسارع منذ أعوام وتيرة التطبيع السياسي والاقتصادي بين عدد من الأنظمة العربية وإسرائيل. فبعد الإمارات والبحرين اللتين باشرتا التطبيع رسمياً في صيف سنة 2020 عقب توقيع "اتفاقيات أبراهام" برعاية أميركية، وبعد السودان ثم المغرب اللذين طبّعا في آخر تلك السنة، تبدو السعودية اليوم على مقربة من خطوات تطبيع جزئي مع "تل أبيب".

وإذا كان في توقيت القرارَين الإماراتي والبحريني قبل ثلاثة أعوام ما وشى بمحاولتين من أبو ظبي والمنامة لدعم حملة دونالد ترامب الانتخابية آنذاك في مقابل تعهدات "بحمايتهما" أميركياً من إيران وحلفائها، فإن في القرارين السوداني والمغربي اللذين تبِعا ذلك ما بيّن مقايضات قانونية ودبلوماسية من مستوى آخر: رفع عقوبات أميركية عن الخرطوم، واعتراف من واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، والتي تُعتبر في الأمم المتحدة والقرارات الدولية "متنازعاً عليها".

على أن مسألة التطبيع تتطلب، في موازاة تحديد ما عكسته أسبابها الموضوعية في الحالات الأربع المذكورة، نقاشاً آخر بشأن ما يُثار من مقولات تبريرية لها في بعض الدوائر السياسية والثقافية العربية، وتحديداً تلك التي تَعدّ نفسها معنية بقضايا الديمقراطية والحريات العامة والخاصة. كما يتطلب الأمر قراءة في مترتّباتها إن صحّت التقديرات فيما يتعلق بمسلك سعودي ربما يفضي إلى تحقيقها. 

التطبيع و"الممانعة"

يعتبر بعض المبررين للتطبيع العربي مع إسرائيل أن الديناميات التي سيطلقها التطبيع ستقضم مع الوقت ثقافة "الممانعة" الإقليمية وتياراتها وخطابها الذي يغطي على الإخفاقات الاقتصادية، وعلى الجرائم والمجازر التي ترتكبها أنظمتها في حقّ المجتمعات والأفراد (منذ أن ساد شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة") عبر رفع راية القضية الفلسطينية، ومن خلال الاختباء وراء خطابات ديماغوجية عن الاحتلال والاستعمار ومؤامراتهما. ويرون أن التطبيع قد يؤدي بالتدريج إلى تقليص الميزانيات العسكرية التي استنزفت الاقتصادات الوطنية في أكثر من بلد على حساب الصحة والتعليم والإسكان، بما يحجّم أجسام الأجهزة العسكرية والأمنية والاستخباراتية التي تُمسك بمفاصل الدول منذ عقود، من دون أن تكون هذه الأجهزة قادرة في أي حال على مجابهة إسرائيل.

وبالتالي، فإن هذا يعني في عُرفهم بدءاً لتحوّل سياسي قد يتيح نشوء ثقافة سياسية جديدة متحررة من أعباء وقيود كبّلتها طويلاً، ومنعتها من رؤية العالم الواسع وفهم ما فيه بعيداً عن عدسة القضية الفلسطينية، أو عن ابتذالات المتاجرة بها التي وصلت في الحالة السورية إلى حدودها القصوى.

لكن التدقيق في المقولات المذكورة يُظهر، على الرغم من صواب تشخيصها لابتزاز أنظمة "الممانعة" ومثالبها، تهافتها فيما يتعلق بتداعيات التطبيع ونتائجه، ذلك بأن السابقتين التاريخيتين للتطبيع في المنطقة لم تؤديا إلى أي تحوّل سياسي أو اقتصادي أو إداري يبشّر بالحدّ الأدنى من "الإيجابيات".

فمصر مثلاً، التي سبقت الجميع إلى التطبيع مع إسرائيل متذرعة بعبء الصراع الذي انخرط جيشها في ثلاثٍ من حروبه الكبرى، لم يتعدل سلوك نظامها فيما يتعلق بقمع الحريات، ولم يتراجع دور المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات فيها، ولا تغيّرت بُنية ميزانياتها لتسمح بقيام التنمية البشرية المنشودة. والأرجح أن الفساد تضاعف في إداراتها بعد اتفاقية "كامب ديفيد" (الموقّعة في سنة 1978)، ثم طوال العقود الثلاثة التالية لها. وانتهى الأمر اليوم في عهد النظام المصري الحالي إلى أن حلّت شعارات الأمان ومكافحة التطرف ومنع تدفّق اللاجئين عبر المتوسط إلى أوروبا مكان "سيادة صوت المعركة" لتَسحَق الحريات وتكسب دعماً أو صمتاً غربياً تدجّجه صفقات سلاح وتنسيق أمني وحرص على "الاستقرار".

أمّا الأردن فلم تتبدل خصائص حياته السياسية وثقافتها بعد اتفاق "وادي عربة" في سنة 1994، وإنما ما زالت مسائل الحريات والقضايا الحقوقية فيه عرضة لتقلبات وتباينات يفسرها حال الحكم والتسويات داخل أروقته أو بين القصر الملكي والقوى الحزبية والمجتمعية ذات الثقل في البلد، بمعزل عن مسار الصراع أو التطبيع مع إسرائيل.

وإذا نظرنا في أحوال دولتَي البحرين والإمارات (اللتين لم تنخرطا مرة في الجهد العسكري، أو تكونا طرفاً مباشراً أصلاً في الصراع مع إسرائيل)، لوجدنا مفارقات تُبعد المقولات كلها التي ترى في التطبيع سبيلاً إلى "التحرر من الابتزاز" أو منطلقاً لديناميات وعلاقات جديدة، عن أي قدر من الوجاهة. فالاستبداد في البحرين يبحث عن استقواء بأميركا وإسرائيل يغطي على الانتقادات لانتهاكاته المستمرة في حقّ معارضيه الموسومين بالعمالة لإيران، بينما السياسات الإماراتية الإقليمية، المتدخلة في اليمن وفي ليبيا والسودان، تريد تكريس تقدّمها في المنطقة عبر نيل التبنّي أو الغطاء الأميركي من نافذة التطبيع مع "تل أبيب". وليست مصادفة أن يأتي تطبيع الإمارات هذا بعد مدة قصيرة من تطبيعها مع النظام السوري "الممانع"، لتكون الدولة العربية الأولى التي تعيد فتح سفارتها في دمشق بعد إقفال، في وقت لم تكن أي سفارة عربية مستمرة في أعمالها بلا انقطاع هناك غير سفارة البحرين إياها، وهي الدولة المطبّعة منذ ثلاثة أعوام.

أمّا المغرب والسودان فمع أنهما استطاعا تحصيل اعتراف من واشنطن بسيادة الرباط على الصحراء الغربية، أو رفع عقوبات عن الخرطوم مثلما أسلفنا، إلّا إنهما ما زالا في دائرة التوترات المتصاعدة، أكان ذلك على الحدود مع الجزائر ولجهة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في الحالة المغربية، أم في الصدام الداخلي في الحالة السودانية حيث أجهض العسكريون النظاميون والميليشياويون انتفاضة شعبية ديمقراطية، وباتا اليوم في صراع عنيف على السلطة ووعود مكتسباتها. وفي الحالتين، ما من مؤشرات إلى حلول قريبة، أو إلى تحسّن معيشي أو تحوّل سياسي على صلة بتفاهمات "اتفاقيات أبراهام" وبالدعم الأميركي. 

السعودية وحكومة نتنياهو

بالعودة إلى ما يُشاع الآن عن احتمالات السير السعودي بالتطبيع مع إسرائيل، فإنه يجدر التوقف عند ثلاث مسائل لا تُطرح بالمقدار نفسه في الحالات السابقة.

المسألة الأولى، أن الرياض لا تحتاج في ظل مروحة المصالحات الإقليمية التي أجرتها (مع الدوحة وأنقرة وطهران)، وفي ظل تنويعها للتحالفات الدولية (مع أميركا وفرنسا وسائر الدول الغربية كما مع روسيا والصين والهند)، إلى الصلح مع "تل أبيب" لكسب دعم إضافي، على نحو ما ادّعت الدول الأُخرى. أمّا الحماية من طهران، وإن كانت ما زالت أبرز الهواجس في الرياض على الرغم من التفاهمات الأخيرة، فإنها لا تتوفر إسرائيلياً في أي حال، وإنما تعرّض المملكة لابتزاز إسرائيلي يضاف إلى الابتزاز الإيراني المشكو منه.

المسألة الثانية، وربطاً بالحديث عن التداعيات السياسية للتطبيع المحتمل على ثقافة الحكم في المملكة، هي أن النظام السعودي، وعلى خلاف معظم الأنظمة، لم يعتبر مرة أن ممارساته أو تسلّطه مرتبطان بانخراطه في صراعات خارجية، وإنما كان على الدوام يشير إلى مسائل ثقافية ودينية داخلية. ولهذا فإن الانفتاح الاستثماري والاقتصادي والاستهلاكي، والإصلاحات الاجتماعية الجارية منذ بضعة أعوام، والمبتعدة علناً عن كل تغيير سياسي أو رغبة في التحول نحو نموذج حُكم سياسي مختلف، لا يتأثرا بالتالي لا بتطبيع مع إسرائيل ولا بعدمه. فحجم اقتصاد المملكة وأدوارها وحاجة العواصم الكبرى إليها تختلف تماماً عن الحاجة إلى عواصم إقليمية صغرى أو محدودة التأثير.

أمّا المسألة الثالثة فهي أن التطبيع السعودي إن تمّ في هذا التوقيت بالذات، فيعني التراجع عن مبادرة سبق أن أطلقتها الرياض في سنة 2002 ("المبادرة العربية للسلام") كشرط لكل سلام. كما يعني دعم نتنياهو وما تجسّده حكومته من نزعات فاشية لم يسبق أن عرف التطرف الصهيوني ما يشبهها أيديولوجياً وميدانياً منذ نشأة إسرائيل.

بناء على ما تقدّم، يمكن القول إن التطبيع في ظل الأحوال الإقليمية والدولية القائمة، وفي ظل استمرار الاحتلال والاستيطان والقتل اليومي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لا يفضي إلى أي تبديل في أولويات الأنظمة العربية، ولا يُطلق ديناميات سياسية داخلية تحسّن من أحوال الحريات أو تقلّص أدوار الأجهزة الأمنية والعسكرية. بل إن العكس هو الصحيح، ذلك بأنه يفضي إلى ترسيخ ثقافة استبداد وتسابق على صفقات تسلّح وإنفاق على بسط نفوذ فعلي أو موهوم. وهو، بالتالي، ليس "البديل" أو "الخيار المختلف" إذا ما قورن بأنظمة "الممانعة" ومراميها التسلّطية. وهو فوق ذلك وقبله وبعده، تمّ ويتمّ على حساب الحدّ الأدنى من العدالة، ومن شروط الاستقرار، ومن حقوق الفلسطينيين والعرب.

السيرة الشخصية: 

زياد ماجد: كاتب وأستاذ جامعي.