في ذكرى صدور كتاب "دراسة في المجتمع والتراث الشعبي الفلسطيني- قرية ترمسعيا" الجهود الأولى لحفظ التراث الشعبي وإطلاق دراسات القرى
التاريخ: 
30/08/2023
المؤلف: 

مرَّ نصف قرن على صدور كتاب "دراسة في المجتمع والتراث الشعبي الفلسطيني- قرية ترمسعيا"، وكان الكتاب من أوائل ما صدر باللغة العربية عن القرى الفلسطينية، على حد علمنا، وشكَّل نشره حدثاً استثنائياً شغل الأوساط الثقافية والمجموعات المهتمة بإحياء التراث الشعبي الفلسطيني، وفتح الطريق أمام مشاريع بحثية لاحقة اهتمت بدراسة القرى من النواحي المختلفة، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية؛ وفي هذا المقال، نحاول استعادة جوانب من قصة صدور الكتاب وعلاقته بتطور دراسات التراث الشعبي في فلسطين.

الفلسطينيون ودراسات التراث الشعبي.. لمحة عامة

نشر الفلسطينيون أولى مقالاتهم وأبحاثهم المتخصصة بالتراث الشعبي الفلسطيني في فترة مبكرة من القرن العشرين، وممن كتبوا في هذا الموضوع عمر صالح البرغوثي وتوفيق كنعان وإسطفان إسطفان وغيرهم، لكن ما تركوه من أدبيات -على أهميتها- كانت نخبوية، ولم تكن في الأساس موجهة إلى الجمهور الفلسطيني والعربي، وجاءت في إطار المدرسة الغربية الاستشراقية التي اهتمت بدراسة التراث الشعبي، وصدر هذا الجهد الفلسطيني بالإنكليزية، وبعضه كان بالألمانية، ونُشر جزء مهم منه في مجلة "The Journal of the Palestine Oriental Society (j.o.p.s)"

التي بقيت تنشر نتاجاتها حتى سنة 1948.

ثم حدثت النكبة، وتقطعت أوصال الشعب الفلسطيني، وانقطع الاهتمام بالتراث الشعبي، ومضت فترة الخمسينيات والستينيات من دون أي إنجازات تُذكر على هذا الصعيد، سوى بعض الرسائل الجامعية في الجامعات الغربية، والتي تناولت الحياة الاجتماعية في الريف الفلسطيني، مثل رسالة عبد الله أبو لطفية عن قرية بيتين في محافظة رام الله والبيرة، ورسالة عبد اللطيف البرغوثي بشأن الأغنيات العربية الشعبية في الأردن وفلسطين، كما كانت تقام في الستينيات مهرجانات اصطياف في رام الله، تُنفّذ فيها بعض الفعاليات المتعلقة بالتراث الشعبي، وكان لبعض المهتمين الفلسطينيين مشاركات في مجلة "الفنون الشعبية" الصادرة في الأردن، منهم نمر سرحان وعمر الساريسي، لكن مستوى الاهتمام البحثي بقي ضعيفاً، إلى أن وقعت حرب 1967، ودخل الاهتمام بالتراث الشعبي مرحلة جديدة من الانتعاش والتطور، ارتبطت في مضامينها بصعود الحركة الوطنية واشتداد الصراع مع الاحتلال وتعدُّد أشكاله.

المؤسسات الأهلية في خدمة التراث الشعبي ودراسات القرى

تصاعدت الرغبة في توثيق التراث الشعبي الفلسطيني بعد وقوع نكسة حزيران/يونيو 1967، وكانت ادعاءات الاحتلال أن فلسطين أرض بلا شعب محفِّزاً للمثقفين على زيادة الاهتمام بالتراث والأكثر دلالةً على التأكيد أن "جذور شعبنا موجودة في أعماق أرضنا من آلاف السنين،"[1]  ولاقت هذه الرغبة حاضنة مؤسساتية تمثَّلت، في حينه، بعدد من الجمعيات، من أهمها "جمعية إنعاش الأسرة" في البيرة. تأسست هذه الجمعية سنة 1965، وتركز اهتمامها بالتراث الشعبي على بند في النظام الأساسي للجمعية يتعلق بالهدف السادس، وهو الحفاظ على التراث الشعبي.

وأسست "جمعية إنعاش الأسرة" لجنة في أواخر تموز/يوليو 1972، هي لجنة الأبحاث الاجتماعية والتراث الشعبي الفلسطيني، والتي جعلت في صلب اهتماماتها "الإشراف على دراسات تاريخية واجتماعية وثقافية واقتصادية للمجتمع الفلسطيني، بهدف تحليل المشاكل الراهنة التي يواجهها بلدنا وتقديم الاقتراحات التي قد تسهم في معالجة هذه المشاكل،" والمحافظة على التراث الشعبي "في وثائق مدونة ومصورة ومسجلة خوفاً عليه من الضياع والاندثار،"[2]  وتحويل تطلعات المثقفين الفلسطينيين إلى حفظ الثقافة الشعبية "إلى واقع عملي بجمع المواد التراثية وأرشفتها ومَتحفتها، وكذلك نشر الدراسات والأبحاث المتعلقة بالتراث الشعبي،"[3]  وقد أشرفت اللجنة على إصدار أولى الأدبيات التراثية، فكان لها الفضل في إصدار كتاب ترمسعيا سنة 1973، بالتزامن مع إصدار الأعداد الأولى من مجلة التراث و المجتمع.

كتاب ترمسعيا.. باكورة الإصدارات

أمَّا قصة كتاب "دراسة في المجتمع والتراث الشعبي الفلسطيني- قرية ترمسعيا" فتعود جذورها إلى قيام سلامة خليل (مدير دار المعلمين) وزوج رئيسة "جمعية إنعاش الأسرة" سميحة خليل، بإهداء الجمعية أوراقاً أنجزها طلاب دار المعلمين، فأحالت أم خليل الأوراق على مجموعة من الأكاديميين المهتمين بالدراسات الاجتماعية للبحث في كيفية الاستفادة منها، فعُقد أكثر من اجتماع بهذا الشأن، ضم عدداً من المثقفين والمهتمين بالدراسات الاجتماعية والتراثية، منهم سليم تماري، وكان أستاذاً في جامعة بيرزيت، والأساتذة: وليد ربيع، وعبد العزيز أبو هدبة، وعمر حمدان، ومحمد البطراوي، ومنير ناصر، وبرنارد سابيلا، وسمير صراص، وآخرين، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة لفحص الأوراق وتفريغها وتبويبها، وسُميت اللجنة في حينه بلجنة التراث.[4]  وبعد نقاشات بشأن الأوراق وهموم ثقافية أُخرى، تم الاتفاق على بذل جهد جاد يفضي إلى إعطاء صورة كاملة عن التراث الشعبي الفلسطيني.

ثم لمعت فكرة دراسة قرية بعينها لتكون مدخلاً إلى فهم التراث الشعبي الفلسطيني، وكان لا بد من الاعتماد على الرواية الشفوية، وخصوصاً في ظل الافتقار إلى الدراسات المتعلقة بالقرى والتراث الشعبي، فاختيرت قرية بيت صفافا في القدس، لتكون العنوان الأول في هذا الجهد، واتُّفق على إنجاز المقابلات الشفوية في يوم واحد، وأن تكون متنوعة من ناحيتيْ العمر والجنس، لكن حدثاً ما أعاق ذهاب اللجنة إلى بيت صفافا في ذلك اليوم.

عادت اللجنة إلى الاجتماع مجدداً، وعرض الأساتذة وليد ربيع وعبد العزيز أبو هدبة وعمر حمدان (جميعهم من سكان ترمسعيا) أن تكون الدراسة الأولى عن قرية ترمسعيا في محافظة رام الله والبيرة، على أن تُستكمل المهمة وفق الخطة التي كان من المتوقع تنفيذها في بيت صفافا، وانضم إلى المجموعة في وقت لاحق الأستاذ محمد علي عودة الله (من ترمسعيا)، وبعد أن مضى اليوم الأول في المقابلات، تبين أن الموضوع بحاجة إلى وقت أطول، إذ استمروا في جمع الرواية الشفوية عدة أشهر، وشملت المقابلات معظم أهل القرية، ثم قاموا بتأليف الكتاب.

صدر الكتاب في سنة 1973، وكان أول دراسة تنشرها لجنة الأبحاث الاجتماعية والتراث الشعبي الفلسطيني في جمعية إنعاش الأسرة ضمن سلسلة دراسات في المجتمع والتراث الشعبي الفلسطيني. حوى الكتاب تمهيداً لافتاً، تضمّن نبذة عن جهود جمعية إنعاش الأسرة في خدمة الدراسات الاجتماعية والتراثية، وطبيعة المنهاج العلمي الذي استخدمه المؤلفون في دراستهم عن ترمسعيا، وشيئاً عن تاريخ القرية، ثم فصول الكتاب العشرون التي قدمت شرحاً مفصلاً للحياة الاجتماعية والثقافية في القرية.

حرصت لجنة الأبحاث على إطلاع بعض الشخصيات الاعتبارية والوطنية على الكتاب، وخصوصاً رئيسيْ بلديتيْ البيرة ورام الله عبد الجواد صالح وكريم خلف، بالإضافة إلى حنا ناصر، ولهذا دلالات، إذ ستمنح  هذه الشخصيات هذا الإنجاز البحثي بُعداً نضالياً وثقافياً وحصانة اجتماعية،  وقد أثنى الثلاثة عليه، وتم طبع مئة نسخة من الكتاب، وفق رواية أحد المؤلفين، عمر حمدان،[5]  وأقيم للكتاب حفل في حديقة بلدية البيرة، حضره عبد الجواد صالح وكريم خلف وحنا ناصر، وجمع من المهتمين، وتشجيعاً للكتاب، اشترى كلٌّ من عبد الجواد صالح وكريم خلف وحنا ناصر نسخة للمكتبة بمئة دينار، وطَبعه مركز أبحاث منظمة التحرير بالاشتراك مع الهلال الأحمر الكويتي في آب/أغسطس 1973، ضمن سلسلة الكتب الفلسطينية – 45، وأُرسلت نسخ منه إلى قطر، وعُرض في معرض براغ الدولي للكتاب، وكان نمر سرحان وعمر الساريسي وروكس بن زائد العزيزي من أبرز الذين بذلوا جهوداً في ترويجه في الخارج.

لكن إصدار الكتاب واجه بعض التحديات، فقد اعترض بعض أهالي قرية ترمسعيا عليه، معتبرين أن بعض ما جاء في متنه، انتهك خصوصية القرية وممارساتها الاجتماعية، لكن هذه الاعتراضات لم تشكل حاجزاً أمام نجاح الكتاب وانتشاره الواسع، وقد فتح إصداره باباً أمام الدراسات المتخصصة بالتراث الشعبي في الأرض المحتلة، وغذَّى لجنة الأبحاث بطاقة معنوية ومادية ساهمت في تسريع إنجاز مهمات كبرى، فكان أن توالى صدور أعداد مجلة التراث والمجتمع، وصدرت كُتب جديدة عن لجنة الأبحاث،[6]  مثل "الملابس الشعبية الفلسطينية" (1982)، و"الإنجاب والطفولة: دراسة في الثقافة والمجتمع الفلسطيني" (1984)، و"قرية دير أبان- دراسة في المجتمع والتراث الشعبي الفلسطيني" (1990)، و"قاموس اللهجة العامية" (ج1، 1987)، و"ديوان الدلعونا الفلسطيني- دراسات في التراث الشعبي الفلسطيني" (1990).

وقد برزت إسهامات نوعية أُخرى في هذا المضمار، فكان لمؤسسة الدراسات الفلسطينية مشاركتها في الجهود الرامية إلى الحفاظ على التراث الشعبي، فصدر عنها عدة كتب، منها: "قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية" (2013)، و"طلع الرنجس والحنون: أزهار مطرزة من ربيع فلسطين" (2014)، و"الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع، نشأته وتشتته والحفاظ الرقمي عليه: دراسات أولية وتطلعات مستقبلية" (2020)، كما اهتمت المؤسسة بدراسات عن القرى الفلسطينية، فنشرت كتابها المشهور: "كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها" (2001)، ونشرت قبله بعامين كتاب "دير ياسين: الجمعة، 9 /4/1948". 

خلاصة

مرَّت عقود طويلة على صدور أولى الأبحاث والدراسات الفلسطينية التي تعنى بالتراث الشعبي، وبالقرية الفلسطينية، وقد كانت تلك الأدبيات الأولى في جوهرها انعكاساً لصعود الشعور الوطني داخل الأرض المحتلة في سبعينيات القرن الماضي، أما الجزء المهم الذي صدر بعد سنة 2000، فكان رداً على الخيبة السياسية التي شعر بها الفلسطينيون في فترة ما بعد أوسلو، ومهما يكن، فقد شكَّلت هذه الأدبيات دعامة مهمة في تأكيد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه وأحقيته فيها.  

 

* هذه المقالة خلاصة نقاشات وحوارات أجريتها مع عدد من الذين عاصروا تلك المرحلة، فلهم مني كل الشكر والتقدير: سليم تماري، عمر حمدان، نبيل علقم، منير ناصر، شريف كناعنة، وأشكر الصديق بلال شلش على تكرّمه بتوفير بعض المصادر والمراجع.

[1] شريف كناعنة، عبد اللطيف البرغوثي، "مناضلة من فلسطين، دراسة في حياة ونضال سميحة سلامة خليل" (رام الله: جمعية إنعاش الأسرة، 1992)، ص 154.

[2] من مقدمة كتاب "دراسة في المجتمع والتراث الشعبي الفلسطيني- قرية ترمسعيا" (بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث؛ الكويت: الهلال الأحمر الكويتي، 1973).

[3] من مقدمة كتاب "مناضلة من فلسطين..."، مصدر سبق ذكره.

[4] الحديث هنا عن لجنة الأبحاث الاجتماعية والتراث الشعبي الفلسطيني.

[5] يرى نبيل علقم أن عدد نسخ الكتاب في طبعته الأولى كان 300 نسخة.

[6] تحولت لاحقاً إلى مركز دراسات التراث والمجتمع الفلسطيني.

عن المؤلف: 

عوني فارس: باحث مهتم بالقضية الفلسطينية.

انظر