"تل الزعتر": عن إيفا وبعض الأيام
التاريخ: 
16/08/2023
المؤلف: 

عاش الشعب الفلسطيني تجارب مؤلمة في تاريخه المعاصر، منذ ما قبل النكبة، وحتى اللحظة الراهنة. ليس بدءاً بالنكبة، فقبلها كان الاستعمار البريطاني، وكانت الثورات المختلفة ضده، وبعدها، كان التهجير، فكانت المخيمات، وكانت الثورة، وكانت المجازر، وفي الداخل كانت الحياة تحت الاحتلال في الأراضي التي احتُلت سنة 1948، وسنة 1967. 

ومنذ سنة 1976، وحتى اليوم والغد، سيبقى شهر آب/أغسطس حافلاً بالتذكر المؤلم لِما حلّ باللاجئين الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر[1] شرقي بيروت. حوصر المخيم لأيام طويلة، وعاش أهله تحت القصف والقنص والجوع والعطش، كانت القوى الانعزالية، حينها، تريد بتر المخيم من الوجود، وكان لها ما أرادت، بالقتل والتدمير وسفك الدماء.

 

تل الزعتر، لوحة للفنان سمير سلامة، ١٩٧٧

 

لم يكن يوجد في المخيم فلسطينيون فقط، بل سكن فيه لبنانيون وسوريون، كانوا يعملون بالقرب منه، بالإضافة إلى عدد من المتضامنين الأجانب الذين عملوا في مجالات مختلفة في المخيم، منها الطب والتمريض. من بين هؤلاء كانت إيفا شتال، الممرضة السويدية التي تطوعت كممرضة في المركز الصحي  التابع للجبهة الشعبية في"تل الزعتر". وتزوجت من المسؤول الصحي عن المستوصف التابع للجبهة الشعبية الشهيد يوسف حمد.

من السويد إلى "تل الزعتر"

كتبت إيفا عن تجربتها[2]: "أصبحت عضوة في الحركة اليسارية السويدية في الفترة من عام 1973-1974، ولعل الأسباب الرئيسية التي دفعتني إلى العمل في هذه الحركة اهتمامها بشؤون العالم الثالث. [...] جاءت الصدفة وسمعت أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فاتحت الحركة اليسارية السويدية (ك.ف.م.ل.) أن تزودها بعدد من الأطباء والممرضات وفي الحال قررت أن أغتنم الفرصة رغم أني حقيقة لم أكن أعرف عن طبيعة هذه المهمة سوى القليل جداً ولكنها كانت بالنسبة لي - وهذا ما حدثت نفسي به- فرصة لأرى وأقوم بعمل ما [...] وأُخبرت أن العمل في مستوصف الجبهة داخل مخيم تل الزعتر لا تدفع عنه أجور وأننا سنعيش مع عائلة فلسطينية عادية وتحت نفس الظروف التي يعيشونها، كما أُبلغت أن نفقات السفر إلى هناك نتحملها نحن."[3] وتضيف إيفا عن استقبالها من جانب العائلة التي أقامت عندها: "الجو بارد جداً ولذلك كان جميع أفراد العائلة يشكلون سوراً حول الموقد، وفجأة نهضت امرأة ترتدي ملابس تشبه ملابس البدو، واتجهت نحوي بسرعة وضمتني إلى صدرها وعانقتني بحرارة لفترة طويلة وقالت لي بصوت رحب: 'هذا بيتك الآن، وأنا أمك… أنت هنا واحدة منا وسنساعدك بكل طريقة يمكننا القيام بها' [...] أما أول رجل قابلته عند وصولي إلى تل الزعتر فكان 'يوسف حمد' مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لشؤون المستوصفات التابعة لمخيمات اللاجئين في لبنان، والذي رافقني إلى عائلتي الجديدة."[4]

تطورت علاقتها بيوسف حمد، فأحبا بعضهما، وتصفه بأنه كان "مستقيماً وأميناً". تقول إنها اتفقت مع يوسف على أن لا يعلنا خطبتهما إلا للعائلة التي تقيم إيفا ببيتها، لكن "الخبر انتشر بسرعة فتوافد أصدقاء يوسف علينا، وأخذوا يقرعون الطبول ويرقصون على أنغامها رقصات شعبية فلسطينية في حين شارك سكان البيوت القريبة في التعبير عن فرحهم بالرقص على السطوح. كان المنظر بهيجاً غمرني بسعادة لم أذق طعمها من قبل. ولكن الحرب تجددت مبكراً..."[5] لاحقاً، انتقل يوسف إلى مخيم شاتيلا، بعد أن كلّفته قيادة الجبهة الشعبية بمهمة سياسية هناك، "تقضي المهمة أن يرتب لقاءات سياسية وحلقات دراسية وأُخرى للتوعية داخل بيوت المخيم." وفي مخيم شاتيلا أقاما حفل الزفاف. في مطلع سنة 1976، شنت القوى اليمينية اللبنانية هجوماً على "تل الزعتر"، والذي استمر بضعة أسابيع، دُمّر خلاله الكثير من المنازل في المخيم. "لم نستطع، لا يوسف ولا أنا، أن نتحمل البقاء بعيداً عن أحداث مخيمنا الأول، تل الزعتر بالنسبة لزوجي المكان الذي عاش فيه أيام صباه، وبالنسبة لي المكان الذي تعرفت فيه على الطيبة والأصدقاء الحقيقيين. وقررنا العودة إلى مخيم تل الزعتر بالسرعة الممكنة."[6]

13 حزيران 1976

عاشت إيفا وزوجها مع أهالي المخيم الظروف كلها، القصف والقنص والقتل، كانت منخرطة في عملها في المستوصف. وهنا لم تعد فقط متطوعة، بل أصبحت واحدة من أهل المخيم، وتتحضر لتكون أماً لطفل فلسطيني، "الطفل الذي كنا نتوقع أن نرزق به أضفى في كثير من الأحيان المسرة في قلوبنا وداعب آمالنا في سعادة مؤقتة على الأقل وسط ذلك الجو المشحون."[7] "في أوائل شهر حزيران اشتد القصف الصاروخي على تل الزعتر وخاصة في الليل، كانت الشظايا تتطاير في كل اتجاه فاضطر السكان لحشر أنفسهم في الملاجئ حيث لا ماء ولا طعام."[8]

تصف إيفا حياة المخيم مع اشتداد القصف عليه بأنه كان مرعباً، وتضيف أنهم اضطروا إلى تحويل المرضى من "المستوصف إلى مدرسة أغلقت منذ زمن طويل كان يقع في أسفلها ملجأ حولناه إلى ملجأ للجرحى فقط. غير أن مثل هذا الإجراء لم يكن سوى حل وقتي، فهذا الملجأ الصغير لا يسع أكثر من 12 سريراً بينما يزداد عدد الجرحى باستمرار نتيجة القصف المكثف."[9]

كانت إيفا تعيش مع يوسف في بيت أهله، ويضم البيت أيضاً شقيقته وداد وأشقاءه الثلاثة، وكانت والدته توفيت قبل 6 أعوام، أما والده فأُجبر على البقاء في المعمل الذي يعمل فيه منذ شهر شباط/فبراير 1976، والذي يبعد عن المخيم نحو كيلومترين، لوجود القوات اليمينية في الطريق، ولم يُعرف سوى أنه أُسر هناك، ولم يُعرف مصيره فيما بعد. غادر أشقاء يوسف إلى الملاجئ، وبقيت إيفا وزوجها في منزل العائلة الذي لم يعد آمناً. بعد أيام، تمكن يوسف من المجيء إلى المستوصف، وأخبر إيفا أنهما سيعيشان مجدداً مع بقية العائلة في منزل جديد أكثر أماناً. لم يكونا يلتقيان كثيراً منفردَين، كانت هي في المستوصف في معظم وقتها، وهو في عمله كمسؤول طبي في المخيم، لذا، قررا أن يلتقيا في منزلهما القديم مرة واحدة، قبل الانتقال إلى الشقة، هذه الليلة كانت الأخيرة: "كان اللقاء في بيتنا القديم مشحوناً بالعواطف والأحاسيس.. تعانقنا وجلسنا على الأرض فترة طويلة وتحدثنا عن كل ما حدث وعن طفلنا الذي سنرزق به، وشعرنا بالنعاس وتهيأنا لننام [...] وقبل أن ننام قال يوسف: من المحتمل أن نموت الليلة. ولم أهتم بما قال فتلك عبارة أصبحت تردد على لسان كل فرد من سكان تل الزعتر."[10]

قُصف المنزل، وتذكر إيفا أنها استيقظت ثلاث مرات في تلك الليلة على أصوات القصف "الألوان الخضراء، والحمراء، والصفراء تختلط مع بعضها البعض واشتعلت نار حادة قرب ساقي الأيسر. شعرت في حينها أني ويوسف قد طرنا في الفضاء. ثم ساد المكان سكون تام وخيّم ظلام حالك على البيت وصرخت: 'يوسف... يوسف' ولكنه لم يجب، حاولت أن أحرك نفسي باتجاهه لكني لم أقدر، ذراعي اليمني فقدت الحركة فحاولت أن أحرك ساقي اليسرى لكنها كانت خاملة تماماً... حركت يدي اليسرى وأمسكت ذراعه وسحبتها إلي وهززتها، وصرخت: 'يوسف... يوسف' ولكنه لم يجب ولم يتحرك."[11]

في هذه الليلة، استشهد يوسف حمد، وبُترت اليد اليمنى لزوجته، واستشهد جنينها، فقد كانت حاملاً في شهرها الرابع. هذه السيدة كانت إيفا ستاهل، وفي المخيم حملت اسم سميرة حمد، وعاش معها هذا الاسم حتى اليوم. يقول الدكتور يوسف عراقي: "جاؤوا بها بعد إصابتها مباشرة، إلى المستشفى، وجهها مغبر، وذراعها اليمنى تتدلى ومعلقة بكتفها ببقايا الجلد فقط. والدم ينزف بغزارة من كتفها، كانت بيدها اليسرى تحاول إيقاف النزيف من ساقها اليسرى،

كان هناك جرح كبير ينزف، وكسر في عظمة الفخذ اليسرى، كانت إيفا حاملاً في شهرها

الرابع، وتسأل بإلحاح عن زوجها يوسف، وتطلب مني إعطاءها إبرة مورفين، من شدة الألم، حاولت تهدئتها، وأعطيتها إبرة مسكنة للأوجاع وبعد فحصها، أخبرتها أن ذراعها بحاجة لعملية بتر فوق الكوع، وكان هذا رأيها أيضاً. أنزلتها لغرفة العمليات، وأرسلت في طلب الطبيب السويدي[12] - الذي كان يعمل مع زوجته وإيفا في مستوصف الجبهة الشعبية، الذي دُمر نتيجة القصف، لوقوعه في أول المخيم - ليساعدني في العملية، وذلك بحكم أنها مواطنة سويدية، وليطّلع على وضعها. ونجحت العملية التي أجريناها لإيفا."[13]

تم إخبار إيفا باستشهاد زوجها يوسف حمد، "كان همها الاحتفاظ بالجنين، كذكرى من زوجها الذي أحضروه إلى المستشفى وكان قد فارق الحياة. وعرفت من إيفا أن قذيفة سقطت على بيتهم في تلك الليلة."[14]

نُقلت إيفا إلى قسم النساء، وتمكن أفراد من الصليب الأحمر الدولي من الوصول إلى المخيم لنقلها من المستشفى، لكنها رفضت وقررت البقاء في المخيم. وفي 3 آب/أغسطس، وصلت قافلة من الصليب الأحمر الدولي إلى المخيم، كان من المقرر أن تنقل 50 جريحاً، إلا إن الطاقم الطبي في المخيم تمكن من إقناع المسؤولين عن القافلة بنقل 91 جريحاً وطفلاً "أرسلنا إيفا مع الدفعة الأولى، والعديد من الأطفال الذين يعانون من الجفاف."[15]

تمكنت القافلة من الوصول إلى بر الأمان، تقول إيفا: "كنا 91 جريحاً، وكانت جروحهم خطيرة. [...] لم أكن سعيدة على أية حال، لأني كنت أفكر بالثلاثين ألف إنسان في تل الزعتر."[16]

22 حزيران 1976

في هذا اليوم الذي سُمّي بيوم الهجوم الكبير على المخيم، نقلت وكالات الأنباء الخبر التالي: "صرّح مصدر عسكري في القيادة المركزية لحركة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بما يلي:

منذ فجر اليوم، ومخيمي تل الزعتر وجسر الباشا والقلعة وحي النبعة يتعرضان لقصف مدفعي وصاروخي ورماية رشاشات ثقيلة من القوات الفاشية المتمركزة في المنصورية والحازمية والفنار وفرن الشباك والأشرفية والبراد اليوناني والمدينة الصناعية [...] واستخدم الجانب الانعزالي في القصف مدافع 160ملم و120ملم و155و81ملم وصواريخ أرض أرض، وقامت القوات المشتركة بالرد على مصادر النيران الانعزالية وتعاملت مع مرابض مدفعيتها واستطاعت أن تدمر بعضها[...]"[17]

أما ما كان على الأرض فهو كالتالي: "بدأت القذائف تتساقط على مخيم تل الفقراء، محدثةً دوياً يصم الآذان. الجدران تتمزق أشلاء. الزجاج يتطاير مع دوي كل انفجار. وترتفع شدة الانفجارات. قذائف من مختلف العيارات [...] بيوت المخيم تتهاوى الواحد إثر الآخر، 70% من بيوت عاصمة الفقراء دُمرت في اليوم الأول."[18]

عن هذا اليوم، يقول الدكتور يوسف عراقي "الثلاثاء الثاني والعشرون من حزيران 1976، كنا على موعد غير متوقع مع الهجوم الكبير على المخيم من قبل القوى الانعزالية. تلك الليلة كنا نسهر كالعادة لساعة متأخرة. كان طبيعياً أن يحدث قصف ليلي متقطع على المخيم، وكان جميع السكان يقضون الليل في الملاجئ."[19]

أما الدكتور عبد العزيز اللبدي، فكتب عن هذا اليوم: "بدأ القصف الساعة السادسة صباحاً، وقد كان الموعد مناسباً لنا جداً، إذ إن الناس اعتادوا أن يناموا في الملاجئ ولا يغادرونها إلا بعد وضوح النهار. حمدت الله أن القصف كان متأخراً، وكان المخيم خالياً، والمستشفى خالياً إلا من الممرضين، والمرضى المقيمين طبعاً."[20]

ذاكرة ليست للنسيان

"في النهاية أريد منك أنت الذي تقرأ قصتي هذه، أن لا تكتفي بالقول إنها قصة رهيبة، وإنما أريدك أن تحاول أن لا تنساها. حاول أن تكون واحداً من الذين يعلنون احتجاجهم على هذه المآسي التي يتعرض لها الناس الأبرياء… وحاول قبل كل شيء وبعد كل شيء أن تتفهم قضية شعب بلا وطن."[21]

 

[1] كان مخيم تل الزعتر، أو "معسكر الكرامة"، أو "مخيم الدكوانة"، بحسب تسمية "الأونروا"، يقع في المنطقة الشرقية الشمالية من مدينة بيروت، تحيط به منطقة الدكوانة وسلاف من الشمال، وسن الفيل وحرش تابت من الغرب، وجسر الباشا والحازمية وجزء من معامل المكلس من الجنوب، والمكلس والمنصورية وعين سعادة ومار روكز من الشرق.

[2] انظر: "مذكرات الممرضة السويدية إيفا ستاهل"، في:

أ.أحمد الزعتر (أبو أحمد الزعتر)، "تل الزعتر الرمز والأسطورة" (د. م.: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/اللجنة السياسية الإعلامية المركزية، 1977)، ص 249 - 250.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه، ص 251.

[5] المصدر نفسه، ص 253.

[6] المصدر نفسه، ص 255.

[7] المصدر نفسه، ص 260-261.

[8] المصدر نفسه، ص 259.

[9] المصدر نفسه.

[10] المصدر نفسه، ص 264.

[11] المصدر نفسه.

[12] الطبيب لارسن وزوجته والطبيبة أجنيتا.

[13] يوسف عراقي، "يوميات طبيب في تل الزعتر" (حيفا: د. ن.: ط 3، 2016)، ص 25-26.

[14] المصدر نفسه، ص 26.

[15] المصدر نفسه، ص 73.

[16] الزعتر، مصدر سبق ذكره، ص 281.

[17]المصدر نفسه، ص 63.

[18] المصدر نفسه، ص 64.

[19] عراقي، مصدر سبق ذكره، ص 25.

[20] عبد العزيز اللبدي، "يا وحدنا: أوراق من تل الزعتر" (د. م.: م.ت.ف. الإعلام الموحد، د. ت.)، ص 97.

[21] الزعتر، مصدر سبق ذكره، ص 282.

عن المؤلف: 

أيهم السهلي: صحافي فلسطيني من مدينة حيفا، ولد في مخيم اليرموك ويقيم ببيروت.

انظر

انظر