بين فزعة الدروز في الجولان وانتظار المحرقة التالية في الضفة الغربية
التاريخ: 
04/07/2023
المؤلف: 

في وضح نهار يوم الأربعاء 21 حزيران/يونيو 2023، هاجم مئات المستوطنين المسلحين قرية ترمسعيا الواقعة شمالي رام الله، وعاثوا فيها فساداً، إذ أحرقوا أكثر من 30 منزلاً و60 سيارة لأهالي القرية، فضلاً عن استشهاد الشاب عمر أبو القطين ووقوع عدد من الإصابات. لم تكن هذه الحادثة الأولى في نوعها، فقد سبقتها مجزرة حوارة في شهر فبراير/شباط الماضي، وترافقت مع اعتداءات أُخرى للمستوطنين على عدد من القرى الفلسطينية، مثل سنجل وعوريف. وبعدها بيومين، هاجم المستوطنون قرية أم صفا، شمالي رام الله، وأحرقوا عدداً من البيوت والسيارات.

وبينما كان المستوطنون يعيثون فساداً في ترمسعيا، كان أهالي الجولان الدروز يثورون في وجه محاولات الاحتلال سرقة أراضيهم من خلال نصب مراوح هواء ضخمة في الأراضي الواقعة بين مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا. اللافت في الموضوع أن الدروز الفلسطينيين في الجليل والكرمل هبّوا لنصرة إخوتهم في الجولان، فأغلقوا عدداً من الشوارع، وتواجهوا مع شرطة الاحتلال. كما أن دروز السويداء في سورية خرجوا في تظاهرة عارمة، وتوجهوا إلى الحدود مع فلسطين المحتلة، تضامناً ونصرةً لإخوانهم في الجولان المحتل.

عن تراجُع الفزعة فلسطينياً

مثّلت "فزعة بني معروف" نموذجاً مثالياً لمفهوم الفزعة عند العرب، الذي يعبَّر عنه بكثافة بالأمثال في الثقافة الشعبية، ومنها على سبيل المثال: "أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". كما أن هناك استحضاراً لمفاهيم التضامن والتكافل الاجتماعي من وحي ثقافة المجتمع الدينية، من قبيل: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، أو "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وهذه المأثورات وغيرها كثيفة الاستحضار في الخطاب الشعبي العام، وساهمت في بلورة مفهوم الفزعة كنمط تكافُل اجتماعي شعبي، ليس في المشكلات فقط، بل في حالات الفرح والحزن وبناء البيوت والحصاد وغيرها، ما يُعرف شعبياً بـ"العونة".  إذ يروي عبد الجواد صالح، رئيس بلدية البيرة في الفترة 1967-1973، خلال مقابلة شخصية، أنه استلهم فكرة العمل التطوعي، وهي المبادرة التي جمع لها شباب وشابات البيرة وجوارها لخدمة المجتمع، من نظام "العونة" الذي كان سائداً في المجتمع القروي الفلسطيني.

غير أن مشهد التضامن و"الفزعة" لدى الدروز في مواجهة مخططات الاحتلال لم يكن مماثلاً في حالة القرى الفلسطينية في الضفة الغربية التي تتعرض لهجوم المستوطنين. ففي حالة الدروز، لم يشكل اختلاف الموقف من العلاقة مع دولة الاحتلال بين دروز الجولان والدروز الفلسطينيين، وكذلك الانفصال الجغرافي بين الجولان المحتل والسويداء عائقاً أمام حالة التضامن والفزعة العابرة للحدود. بينما في حالة القرى الفلسطينية في الضفة الغربية تُركت كل قرية تواجه مصيرها وحدها، مع أن عدداً من شبان القرى المجاورة، كالمغير وكفر مالك، هبّوا لنصرة ترمسعيا، ولكن عموماً، لم نشهد احتجاجات وفزعات من بقية المناطق، حتى أن الحدث في بعض السياقات بدا كأنه يحدث في دولة أُخرى، وليس على بُعد عدة كيلومترات من رام الله.

لا يعني ذلك أن مفهوم "الفزعة"، أو التكافل المجتمعي، غائب تماماً، ففي حالات كثيرة، أظهر المجتمع الفلسطيني قدرات كبيرة على التكافل والتضامن في مختلف المجالات. فعلى سبيل المثال، بينما كانت قوات الاحتلال تهاجم مخيم بلاطة لاعتقال أحد المقاومين في 13 حزيران/يونيو، أعلنت كتيبة جنين أنها وصلت إلى مخيم بلاطة، وشاركت في التصدي لقوات الاحتلال، كما نفّذت مجموعة من المقاومين في جنين عملية بالقرب من يعبد، بالتزامن مع المواجهات في مخيم بلاطة. وكذلك خلال اقتحام قوات الاحتلال لجنين في 19 حزيران/يونيو، أعلنت كتيبة جنين أن عدداً من مجموعات المقاومة من نابلس وطولكرم شاركت في التصدي لاقتحام الاحتلال.

ويشير ذلك إلى أن حالة التضامن والفزعة ما زالت موجودة، وقادرة على التغلب على عوائق الاحتلال وحواجزه، ولكن المستوى الشعبي، وبصورة خاصة في حالة هجوم المستوطنين المتكرر على القرى الفلسطينية، لكنها تتراجع بشكل ملحوظ، على خلاف ما كانت عليه الحال في فترات سابقة من مسيرة النضال الفلسطيني. ففي الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، انتقلت الاحتجاجات والتظاهرات من مخيم جباليا في قطاع غزة إلى مخيم بلاطة في نابلس في اليوم التالي، متجاوزةً المسافات وعوائق الاحتلال، لتعمّ بعدها كل الأراضي الفلسطينية.

تثير هذه الوضعية العديد من الأسئلة بشأن حالة التضامن والفزعة التي ظلت متجذرة لدى طائفة الدروز، على الرغم من المعيقات والحواجز الجغرافية، بينما تراجعت في الضفة الغربية (كنموذج). فالمفترض في حالة هجوم المستوطنين على القرى الفلسطينية، مثل حوارة وترمسعيا، أن يهبّ المجتمع الفلسطيني بأكمله للتصدي للمستوطنين، وليس بالضرورة أن يصل أهالي المناطق البعيدة نسبياً إلى القرى المستهدفة، وإنما أن تكون هناك احتجاجات ومواجهات في مختلف المناطق، لأن عنف المستوطنين أصبح خطراً يهدد كل القرى والتجمعات الفلسطينية العائمة في بحر من الاستيطان والمستوطنين.

 وما حدث بدايةً في حوارة لم يكن حدثاً اعتباطياً وتبعته اعتداءات مماثلة على عدد من القرى، وهو آخذ في التمأسُس في ظل سيطرة المستوطنين على حكومة الاحتلال، وسعي وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لتأسيس "حرس قومي"، يكون المستوطنون عماده. فبحسب بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، بلغت اعتداءات المستوطنين سنة 2022 قرابة 1190 اعتداء، بينما كانت في سنتيْ 2021 و2020 في حدود 930 -960 اعتداء. أما خلال الأشهر الخمسة الأولى، فقط من سنة 2023، فمن خلال تتبُّع التقارير الشهرية للهيئة، بلغت اعتداءات المستوطنين نحو 800 اعتداء. وتشير هذه الأرقام إلى أن عنف المستوطنين يشهد تغيّراً كمياً وكيفياً مستمراً، يجعله أداة لدى المشروع الصهيوني لتسريع عمليات الطرد الصامت للفلسطينيين.

في محاولة للتفسير

هناك الكثير من العوامل والتغيرات التي فُرضت على الشعب الفلسطيني، وبصورة خاصة في الضفة الغربية، والتي أدت إلى تراجُع حالة التضامن الشعبي العام، وإلى الحد من قدرة القرى الفلسطينية على الفزعة لبعضها في وجه الهجمات الاستعمارية. فالاحتلال الإسرائيلي عمل على هندسة الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية من خلال شبكة البنية التحتية الاستيطانية، بحيث يُقطع التواصل الفلسطيني مادياً وذهنياً. فالعلاقة بين الزمان والمكان الفلسطيني علاقة مشوهة، والمسافات الطبيعية بين المدن والقرى تتمدد بفعل الحواجز العسكرية والاستيلاء على الأراضي والبنية التحتية الاستعمارية، وهذا ما يخلق شعوراً بأن المسافة بين منطقة وأُخرى أبعد مما هي في الواقع.

وفي مقابل قطع التواصل الفلسطيني، تؤمّن الهندسة الاستعمارية التواصل الاستيطاني بين المستوطنات نفسها، وبين المستعمرة الأم (إسرائيل). وفي ظل هذا الواقع الجغرافي الاستعماري، تغدو إمكانية "الفزعة" بين القرى والمدن الفسطينية صعبة، إذ أصبحت كل قرية، أو مجموعة قرى، كأنها جزيرة منعزلة عن امتدادها العربي الفلسطيني، ومحاصرة بالمستوطنات والحواجز والمعسكرات من كل جانب؛ وهو ما يتيح للمستوطنين الاستفراد بالقرى الفلسطينية، وكذلك يعيق قدرة القرى المجاورة على الوصول إلى القرى المستهدفة للدفاع عنها.

ومن ناحية أُخرى، يضطر أهل القرى المجاورة إلى البقاء في قراهم واتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر، خشية هجوم مباغت للمستوطنين على قراهم في أثناء غيابهم عنها. هذا ما حدث في حالة سنجل، مثلاً، التي لا تبعد سوى كيلومترات معدودة عن ترمسعيا، إذ كان أهلها يستعدون لهجوم المستوطنين، بينما كان الهجوم على ترمسعيا قائماً.

ولكن من جانب آخر، فإن مجمل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي جرت في المجتمع الفلسطيني في الأعوام الماضية أسهمت في تغيير ملحوظ في منظومة القيم المجتمعية وتقدُّم الفردانية والمصلحة الخاصة على الهمّ الوطني العام والقضايا فوق الشخصية. ويتضاعف هذا التغيّر في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعاني المجتمع الفلسطيني جرّاءها، مع استمرارالأزمة المالية لعامين تقريباً لدى السلطة الفلسطينية.  كما أن المجتمع المدني الفلسطيني تعرّض لحملة تفكيك ممنهجة، أدت إلى تراجُع دور الفصائل الفلسطينية وتفكيك مؤسساتها وبناها الاجتماعية، وهي التي كانت قادرة على حشد الناس في مثل هذه المواقف.

وهكذا أصبحت مهمة التصدي لعنف المستوطنين واعتداءتهم تقع على عاتق أهل كل قرية على حدة، أو حتى أصبحت مسؤولية فردية في بعض الحالات. ففي مقابلة شخصية مع أحد سكان قرية الساوية الواقعة في منتصف الطريق بين رام الله ونابلس، يروي هذا الشخص أن بعض سكان القرية ممن يسكنون على أطرافها باتوا يمضون لياليهم، في هذه الفترة، في حراسة بيوتهم وأراضيهم، خشية هجوم مباغت للمستوطنين. يقول أحدهم، تعبيراً عن تلاشي الفزعة بين القرى الفلسطينية، ومن حيث أن قريته لم تفزع لقرية اللبن الشرقية المجاورة، أو غيرها من القرى: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".

وأخيراً...

في ظل الواقع الفلسطيني الذي يعاني جرّاء ضعف المنظومة الرسمية وتراجُع دور الفصائل وقدرتها على التأثير، والذي يواجه في الوقت ذاته تحدياً استعمارياً خطِراً، ليس من المجدي الاستمرار في طلب الحماية من المجتمع الدولي، أو حتى من المنظومة الفلسطينية الرسمية. كما أن التراخي الفردي، أو الجماعي المحلي، عن الاضطلاع بمهمة الدفاع والتصدي لسياسات الاحتلال واعتداءاته، باعتبار أن ما يجري في قرية ما بعيد عنا سيجعلنا نقع في دائرة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فالمسألة ليست متعلقة بقرية أو تجمُّع دون غيره، وإنما هي مشروع استعماري يستهدف كل الفلسطينيين.

وعليه، فتجربة فزعة الدروز العابرة للحدود والمتعالية على الواقع الاستعماري تُظهر أن لدى الشعوب والمجتمعات قدرات كامنة على الفعل والتأثير في مجريات الأحداث، وحماية نفسها من سياسات الاحتلال واعتداءات مستوطنيه، وهذا نابع من منظومة القيم التقليدية للمجتمع العربي، التي تحتوي على الكثير من الأمور الإيجابية.

عن المؤلف: 

كريم قرط: باحث فلسطيني حاصل على شهادة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة بيرزيت.